شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
ما العيب في العناق؟

ما العيب في العناق؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأربعاء 6 أبريل 202207:59 ص


كنت في الصف الخامس الابتدائي عندما أخبرتني صديقتي أنها ستسافر مع والديها إلى الخارج. حزنتُ كثيراً وبكيت كلّ يوم، وكنت أخفي ذلك عن أهلي حتى لا تتهمني شقيقتي بـ "الهبل". استمرّ حزني لأيام طويلة، وعندما جاء موعد سفر صديقتي عانقتها كما لم أعانق أحداً من قبل. ألقيت ما بداخلي من مشاعر بين ذراعيها، فإذا بها تزيحني بعيدًا قائلة: "كفاية خنقتيني". وفكرتُ أنّنا ربما نختنق من العناق فعلاً.

اعتدنا منذ الصغر تغطية مشاعرنا بستار. نتجنب التعبير عنها بشكل مباشر كما نتجنب التقاط العدوى، نهرب منها حتى لا نكشف عن ضعفنا، أو "هكذا نظن". نتدبّر أمرنا بهذه اللمسات البعيدة، أو ننتظر حتى يأتي الظلام لنتوارى داخل غرفنا، ووقتذاك نقترب لنشبع هذه الغريزة بداخلنا، والتي، عادةً، لا يكون "العناق" من ضمنها.

في أوقات الفرح، أو عندما يمزق الحزن قلوبنا، وفي الأوقات التي نحتاج فيها دعماً ومساندة وطبطبة، لا نتعانق، بل ننغلق داخل ذواتنا كأننا سنتعرى عند أي ضمة، وتصرخ أجسادنا أنها ظمأى لأكثر من عناق واحد.

في أوقات الفرح، أو عندما يمزق الحزن قلوبنا، وفي الأوقات التي نحتاج فيها دعماً ومساندة وطبطبة، لا نتعانق، بل ننغلق داخل ذواتنا كأننا سنتعرى عند أي ضمة، وتصرخ أجسادنا أنها ظمأى لأكثر من عناق واحد.

سذاجة الطفولة

العناق فن أنْ تتخلى عن تكلّفك وتجعل من ذراعيك جنة لاحتواء أحبّتك وتستقبل عطاءهم دون خجل أو تردّد.

مثل أي طفلة، شاهدت هذه اللقطات التي كانت تعرضها مسلسلات التسعينيات حين تذهب الأم أو الأب مع الطفل لوضعه في سريره ويسردان قصة عليه ثمّ يعانقانه قبل النوم. وبعد سنوات طويلة عرفت أنّ هذه المشاهد لا تحدث في الحقيقية، إنّما هي مجرّد أضغاث أحلام.

"ادخلي نامي. لا أحبّ الدلع. هذا تمثيل". هذه هي الردود المعتادة التي سمعتها من والدي عندما كنت أطلب عناقًا أو أتمادى في الدلال. ومع الوقت، اقتنعت أنّ ليس كلّ ما نراه على الشاشة يتحقّق. وعندما كبرت فهمت أنّ مجتمعنا لا يحب العناق، ولا يمارسه بشكل معلن، وربما، لا يتقنه من الأساس.

"ادخلي نامي. لا أحبّ الدلع. هذا تمثيل". هذه هي الردود المعتادة التي سمعتها من والدي عندما كنت أطلب عناقًا أو أتمادى في الدلال.

كنتُ رومانسية ربما أو عاطفية كما قال عنّي بعض الأصدقاء لاحقًا أو حتى "مملة"، ولكنّي استمررت على هذا الوضع حتى عامي الأول في الجامعة عندما دخلت في حوار مع زميلة لي جعلني أغيّر طريقتي، وأعانق الجليد الذي يعانقونه.

تعرضت لموقف أغضبني جداً، فلجأت إلى هذه الزميلة، أنتظرُ منها الدعم والمساندة. وقتذاك، قالت لي جملاً لا أنساها: "لا تكوني ضعيفة. لا أحب العناق وإظهار العواطف، كما أنّ طريقتك لا تعجبني".

إلى الآن، لا يحب شقيقي الأصغر إظهار عواطفه. نلتقي في فترات متباعدة ويقبّلني تلك القبلات التي يستقبلها الهواء دون حنان.

رحيل دون عناق

يرحل أحباؤنا دون أن نمنحهم العناق الذي يريدونه أو نحتاجه نحن. قبل سنوات، فقدت شقيقتي الوسطى في حادث دون أنْ أعانقها يوماً كما أريد، ولم أعبّر عن مشاعري تجاهها بأيّ شكل، اكتفينا طوال السنوات التي عشناها معًا بـ "نقار" الشقيقات فقط.

تقول صديقتي دون أيّ حرج إنّ أمّها لم تعانقها يوماً، وإنها، حتى في أصعب لحظاتها، لم تتلقّ منها حضناً دافئاً يطمئنها كما تفعل الأمهات عادة. أندهشُ كثيرًا من هذا الكلام، حتى أسمع صديقتي الثانية تقاطعنا لتؤكد على كلامها وتقول إنها أيضاً لم تعانق أمها الراحلة طوال حياتها إلا مرة أو مرتين على الأكثر، وكان ذلك قبل زفافها.

سألتُ صديقتي: "هل ندمت لأنك لم تحصلي على عناق منها؟"، ابتسمت وقالت: "حياتها لم تكن سهلة وهي أيضاً لم تعتد العناق، ولأنها لم تحصل عليه، حرمتني منه. انظري إلى الناس من حولك، كلّنا تقريباً كذلك. نندم بعد الرحيل لأنّنا لا نعبّر عن عواطفنا ولم نشبع من أحبّتنا، ولكن رغم ذلك، لا نغيّر من طبيعتنا".

بعد وفاة جدّتي، شعرتُ بألم خالي. اقتربت منه وعانقته وعانقني، وعندما شعرت بعمق حزنه، قلت له: "يمكنني معانقتك ثانية لأخفف عنك"، ضحك وقال لي: "العناق والحضن للرجل الطري".

سألته: "هل الاحتضان ضعف؟"

أجاب: "نحن تربّينا على أنّ الرجل يجب أن يكون قوياً وألّا يظهر عاطفته".

شغلتني هذه الكلمات مجدداً. ما العيب في العناق؟ ما الذي يحمله هذا الفعل ليجعل الآخرين يبتعدون عنه ويجتنبون ممارسته كأي فعل آخر تحتمه الغريزة وتفرضه العاطفة؟

يرحل أحباؤنا دون أن نمنحهم العناق الذي يريدونه أو نحتاجه نحن. قبل سنوات، فقدت شقيقتي الوسطى في حادث دون أنْ أعانقها يوماً كما أريد، ولم أعبّر عن مشاعري تجاهها بأيّ شكل، اكتفينا طوال السنوات التي عشناها معًا بـ "نقار" الشقيقات فقط

الغرف المغلقة

في ليلة ما، اتصلت بي صديقتي وأخبرتني أنّها تنتظر عودة زوجها من السفر بعد غياب دام عاماً دون أي إجازة. قالت إنها ستذهب لاستقباله في المطار. ستحتضنه أمام عائلته دون أيّ خجل لأنها تفتقده جداً، ولن تهتم بهذه التعليقات السخيفة التي قد تسمعها من البعض. أيّدتها، فكيف ستستقبل المرأة زوجها الغائب بعد كل هذا البعد، حتماً ستعانقه بشغفٍ ووله.

تقول صديقتي دون أيّ حرج إنّ أمّها لم تعانقها يوماً، وإنها، حتى في أصعب لحظاتها، لم تتلقّ منها حضناً دافئاً يطمئنها كما تفعل الأمهات عادة.

في اليوم التالي، أعادت الاتصال بي وأخبرتني أنّها حكت مع زوجها عبر "الإنترنت" عن موضوع العناق، فقال لها: "لا تقومي بهذه الحركات في المطار أمام الناس". ويبدو أن زوج صديقتي استطاع أن يقنعها أنهما ربما يجب ان يخافا على سعادتهما من الحسد، رغم أنّي شعرت بكسرة قلبها. جاء زوجها وانتظرت حتى أُغلق عليهما هذا الباب، وفي النهاية، لم يتعانقا هذا العناق الذي تاقت له شهوراً عديدة. وهذه هي القصة المكرّرة التي تحكيها الأخريات.

لم تعد أمي الآن تتكلّف كثيراً في العناق ولا أبي، ربما بسبب كبر سنّهما وشعورهما بأنّ الرحيل قد يحدث في أي وقت. أعانقهما عند كل لقاء، وأغرق بين ذراعي شقيقتي الكبرى التي أراها كل حين.

وأعيش كلّ يوم عناقاً يتجدّد مع صغيرتي. أمنحها فيه كلّ الحب الذي أشعر به تجاهها، حتى أصبحتْ تعرف أنّ إظهار العواطف مباح، وأنّ البعد عن الأحبة خسارة كبيرة. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image