قبل وقت الظهيرة، استيقظت. تأمّلت سقف الغرفة، في محاولة للتعرّف على المكان. أسأل نفسي سؤالي الذي بات مكرّراً: من أكون؟ أين أنا؟. تذكرت، نعم، ها أنا ذا هنا مرة أخرى.
منذ أشهر أنا هنا، قبل مئتين وثلاثين يوماً. أتذكّر الأيّام، كيف تمضي يوماً إثر يوم. في مخيّلتي أمّي، أصوات أخواتي، رائحة القهوة تنبعث من المطبخ القديم. أحمل نفسي، أبحث حولي، أعود فأتذكّر. لا أحد هنا، ولا أصوات تجول في المكان، باستثناء ضجيج صادرٍ عن هاتف مجاور.
أحمل هاتفي، أطفئ المنبّه وأرمي وضعيّة الطيران كمن يرمي الأثقال من على كتفيه، بينما أفتح المجال لدفء الإشعارات، ألقي تحيّة الصّباح على زوجي الجالس على سرير المجاور.
"هل نمت جيداً؟"
يقول: "لا، منعني ألم ظهري".
ساخرة أقول: "أخبرتنا المسؤولة أنهم اشتروا أفرشةً جديدة من أجلنا". كرّرت ذلك خمس مرات على الأقل. يضحك زوجي. أعرض عليه فنجان قهوة فيوافق بابتسامة. أنهض متثاقلةً إلى يسار الفراش، أفتح الصّنبور حيث مغسلة، أو شبه مغسلة، أغسل وجهي الذي لم أستطع رؤيته بوضوحٍ منذ شهور.
هنا لا يوجد مرآة، ولم يجد المسؤولون عن هذا المكان أي حاجة في رؤيتي لملامحي، ربما منعاً من إصابتي بالاكتئاب في حال رؤية البثور أو أي اتساع للمسامات، وهذا بالنسبة لأي امرأة، كابوس مرعب.
هنا لا يوجد مرآة، ولم يجد المسؤولون عن هذا المكان أي حاجة في رؤيتي لملامحي، ربما منعاً من إصابتي بالاكتئاب في حال رؤية البثور أو أي اتساع للمسامات، وهذا بالنسبة لأي امرأة، كابوس مرعب
أرتدي كنزتي السّوداء. أضع شالي. أخرج من الغرفة إلى المساحة المشتركة مع أربع عائلات! رائحة طعام غريبة تتسرّب إلى أنفي. لم آلَف هذه الروائح من قبل. كنت قد حفظت كلّ مذاقٍ أثّثت له أمّي رائحة.
أفتح النوافذ بينما ألقي التحية على السيدة الأثيوبية التي تطهو السّمك في الصباح الباكر. لا أحاول التعرّف على رائحة طعامها، أريد أن أحتفظ برائحة الطعام الذي تصنعه أمّي حتّى ألتقيها.
روائح الطّعام لها دفء العائلة، نحفظها كأنّها تحمل معنا ذاكرةً طويلة من حياة عشناها، بل هي كذلك، واعتقدنا أن هناك كلّ الكون ممكن، فلم يكن كذلك.
أُمسك دلّة القهوة وأنظّفها جيداً. أضع ما يعادل أربعة فناجين من الماء. أُشعل موقد الغاز. أضع البنّ منتظرةً أن تأتي جارتي "نانا". نانا سيّدة من جورجيا، حملها القدر إلى هنا بسبب مشاكل عائليّة لم تسهب في شرحها.
نانا التي أجهضت جنينها الأول في هذا المكان بسبب سوء حالتها النفسيّة، لم تنل حق اللجوء بسبب ضعف قصّتها. تخبرني بلغة إنجليزية ركيكة بأنها ستغادر لتنال اللجوء في مكان آخر.
أصبحت قهوتي جاهزة. أعود إلى غرفتي وأنا أتمتم: ربما يجب علينا الموت حتى نمتلك قصة مقنعة!
أدخل الغرفة. أجلس على السرير. أسكب القهوة في الكؤوس الزجاجيّة الصّغيرة التي نستخدمها في سوريا لشرب الشاي، فطعم القهوة في كأس الشاي يصبح ألذّ وأشهى، أو كما أعتقد ربما، وأتبنّى ذلك في نفسي.
أنظر حولي في مكان تبلغ مساحته حوالي إثني عشر متراً. أتعجّب كما أتعجّب كل يوم: كيف يتسع هذا المكان كائنَين بشريّين والعديد من الكائنات والأشياء الأخرى؟
بينما أجول بعيني على الحقائب الخمس المُلقاة على جوانب الأسرّة، ثمّ على كومة الغسيل الواجب تنظيفها في مدينة أخرى، على بعض الطّعام المعلَّب الذي لم تسعفنا الشهية بتناوله وعبوات المنظّفات. ألمح عنكبوتاً سامّاً، فأنطلق متحصّنة بالمبيد الحشري لأقضي على آخر احتمالٍ في أن أصبح مشروع "سبايدرومن" مستقبلي.
أحمل هاتفي مجدّداً. أدعو الله أن أمتلك الشجاعة في مواجهة الأخبار حيث العالم الآخر. أتفقّد بريدي الإلكتروني. أُجدّد مطالبة المسؤولة بغرفة جديدة، غرفة تحترم الحدّ الأدنى من الحقوق الإنسانية.
أتفقّد البريد الوارد، أقوم بتحديثه مراراً علّ قراراً بالإقامة يكون، لكن لا شيء يلوح بالأفق والانتظار سيّد الموقف.
انتقالاً إلى الواتساب. رسائل من صديقتي تُبلغني بأن طفلتها الوحيدة تقبع في المستشفى بسبب سوء حالتها الصحية المفاجئة، ثمّ لتحدّثني عن آراء الأقارب التي تدعو لنقلها إلى مستشفى عام بدلاً من الخاص، في سبيل توفير ما يمكن توفيره من المال، الذي لن يقوموا أساساً بالمشاركة في دفعه!
أُطمئن صديقتي بأن طفلتها ستصبح بخير، و بأنّ عليها أن تنأى بنفسها عن الأحاديث الجانبيّة "حالياً"، ريثما يستقرّ حال الطفلة. أُحاول أن أرفع معنويّاتها، أنا التي يأكلني العجز لأنّني ومجدّداً لا أستطيع فعل شيء يذكر!
في محادثةٍ أخرى تجمعنا كعائلة، ترسل إحدى أخواتي صورة لها التقطتها عدسة هاتفها خطأً، لتدع مجالاً لتنمّر بقية أفراد الأسرة عليها، بينما يدور نقاش آخر حول "الطّبخة" المتوقّع أن تطهوها أمي اليوم، لتأتي الإجابة سريعاً من ست الحبايب: "لن أطبخ اليوم. دبروا راسكن!".
بعد قراءة سيل المحادثات داخل المجموعة ثم التّعليق على أغلبها، أتركُ المجال لما تبقّى من رسائل، داعية الله لصديقتي أن تجد عملاً، مباركةً حمل أخرى، مواسيةً ثالثة تستعد للطلاق بعد اكتشاف زوجها المتأخّر بأنه لم يعد قادراً على تحمل المسؤولية!
أدخل فيسبوك، أشاهد المنشورات: "الجيش الإسرائيلي يكثّف غاراته على رفح". "ارتفاع حصيلة الحرب في غزة إلى أكثر من ثلاثين ألف شخص". "اغتيال الناشطة النسوية السورية هبة صهيب حاج عارف، في منزلها بريف حلب". "رئيس إدارة الهجرة في إسطنبول ينفي الادعاءات التي تفيد بتعرّض اللاجئين لسوء المعاملة داخل مراكز الترحيل التركية". اعتقال واحد وسبعين لاجئاً في تركيا، من بينهم واحد وأربعون طفلاً كانوا يستعدون لمغادرة البلاد". "معارك في السودان مستمرّة والحال لا ينذر بخير"... أتابع بصمت، لا طاقة لي للتعليق، لا أمل يلوح في الأفق والعجز سيّد الموقف!
أعود إلى بريدي الإلكتروني. رسالة من مسؤولتي تخبرني بعدم وجود غرفة شاغرة، وأن عليّ الانتظار، وبأنّها تتمنّى تفهُمّي، مردفة: "نهارك سعيد". أتمتم: "سعيد جداً".
بالعودة إلى غرفتي، عالمي الكبير حالياً، كل ما أملك من وسائل الرّاحة المفترضة. انتهينا من شرب القهوة، تناولنا شطائر الجبن على مضض. ألقيت التحيّة على دفتر لغة "العصافير"، ونويتُ مجدداً إنهاء معزوفة "استورياس" والتي بدأت تعلّمها على غيتاري منذ فترة ليست بالقصيرة.
الساعة الثالثة والنّصف ظهراً، كنت وزوجي نخوض نقاشاً حول الخيارات المتاحة للعيش، وعن كيفية الحصول على الرعاية الصحية الملحّة، بينما تصبح الحلول مع مرور زمن النقاش أكثر تعقيداً. يرنّ الهاتف. تلقّينا دعوةَ عشاء هذه الليلة بمعيّة عائلة جولانية تعرّفنا عليها عبر فيسبوك فور وصولنا هنا.
أطرق الباب، تستقبلني السّيدة ميلاء بحفاوة. هي أم لثلاثة أبناء، تجيد الفرنسيّة، في محاولة منها متابعة تعليم أطفالها في المنزل.
ألتقي أيضاً آمنة، وهي سيّدة جزائريّة تقيم هنا منذ سنواتٍ سبع. تُقدّم لي عرضاً مذهلاً بخصوص إمكانية الذّهاب إلى منزلها والحصول على دوش ساخن، أغسل بعده ملابسي. أشكرها كما يجب في الوقت الذي تداعبني فيه فكرة تنشيف الملابس المبلّلة في الغرفة، سيراها البعض فكرة طريفة. هي ليست كذلك، ضمن حيّز لا يتجاوز الإثني عشر متراً.
نتناول البيتزا الهنديّة والدّجاج المقلي. تتعالى أصوات الضحكات. نتبادل قطع الطعام في مشهد عائلي نادر، كل منا ممتّن إليه بطريقته الخاصة.
مع كأس شاي مقدّس، تدور الأحاديث الآن حول المستقبل هنا، الدورات المهنية، نظم الضرائب والمخالفات، كيفيّة استئجار منزل، وجوب دفع النفقات الشهريّة في منتصف الشّهر، كي لا نقع في فخ التّأخير بالدّفع، وبالتّالي دفع أموال أكثر بلا طائل يذكر.
يسألنا السّيد سعيد، زوج السّيدة ميلاء، وهو صاحب شركة خاصة في تصميم الديكورات المنزلية: "كيف جرت مقابلة محكمة اللجوء؟"، نجيبه: "بشكل جيد، وقد أبرزنا لهم أدلّة تثبت أحقيّتنا في الإقامة، منتظرين الآن الرد".
متسائلة أُردف: "متى ستصلنا الإجابة؟"
يجيبني: "هناك أشخاص ينتظرون منذ عام، لا أحد يعلم، كل وحظّه"
تقاطعنا ميلاء: "منذ عام ونصف حاولت سيّدة سودانيّة الانتحار اعتراضاً منها على رفض الحكومة إعطائها حق الّلجوء، ثمّ وبعد تحقيق الشرطة كوفئ انتحارها بإعادتها قسراً إلى وطنها"
تَحضرني مأساة السودان فأتمتم: "يتوجّب علينا الموت حتى نمتلك قصّة مقنعة".
يقاطع السّيد ماجد سيل الأفكار المتدفّق في رأسي، ليتحدّث المهندس الجزائري عن صديقه أيمن اليمني الذي نال حق لجوئه بعد أن تجاوز العامين محاولاً.
عاش أيمن رفقة أسرته في نفس المكان الذي تقيمون فيه حالياً، عندما وصل إلى المكان ورفض العيش فيه نظراً لسوء وضعه، حيث أخبرته المديرة بأنّه لا حلول، وأن عليه الرضوخ ليتفادى العيش مع عائلته في الشارع.
رضخ أيمن للأمر الواقع سنوات عديدة، لكنّه اليوم يعيش في منزل، وقد بدأ العمل ليكسب قوت يومه.
تُكمل آمنة حديث زوجها: "نسي أيمن وعائلته ما عايشوه طوال الأعوام الفائتة، وأعتقد أن الأمر لن يطول بالنسبة لكم. ستحصلون على حق اللجوء قريباً"، تتمتم: "إن شاء الله". فنتمتم: "إن شاء الله".
بينما يبدأ الرّجال حديثهم عن موازين القوى في الحرب على غزّة، تنظر ميلاء في وجهي، وتربّت على كتفي لتخبرني بأن كلّ شيءٍ سيصبح على ما يرام، فأشكرها مبتسمة.
يصل رجال الأمن إلى المبنى، فيهرع زوجي إلى الدّاخل مغلقاً الباب، أتمتم: "نحن نخاف القرع العنيف لكنّنا نخاف رجال الأمن أكثر"
متحاذيان نمشي عبر طريق العودة، كل منّا غارق في صمته، وقبيل وصولنا إلى الغرفة، يسألني زوجي عما أفكّر فيه فأجيبه: "لا شيء يستحق".
عند وصولنا الغرفة، قابلنا جارتنا الأفريقية "اليكا" التي اجتاحها الخوف إثر سماع صوت قرع عنيف على أحد أبواب الغرف في المبنى، وبينما يحاول زوجي وحارس المبنى تهدئتها، أدخل غرفتي لأبدّل ملابسي.
يصل رجال الأمن إلى المبنى، فيهرع زوجي إلى الدّاخل مغلقاً الباب، أتمتم: "نحن نخاف القرع العنيف لكنّنا نخاف رجال الأمن أكثر".
متكّئةً على الفراش، أفتح هاتفي مسدلةً السّتارة استعداداً لوضع خاصيّة "الطيران"، فتصلني رسالة من أحد أقاربي يقول فيها: "كيف حالك؟ أعتقد بأنّ الحياة في أوروبا جميلة للحدّ الذي يلهيكِ عن التواصل معنا".
أضحك مطوّلاً، لأكتب له جهراً: "عقبالك"، محتفظةً بعبارة أصدق: "اللي بيعرف بيعرف، وما البيعرف بيقول كف عدس".
قبل النوم، أُلقي تحيّة إلى الوطن الذي اقتلعني منه فيعتصر قلبي. أُطفئ الهاتف وأستذكر قصيدة للشاعر مظفّر النوّاب يقول فيها: "هذي الحقيبةُ عادت وحدَها وطني، ورحلةُ العمر عادت وحدَها قَدَحِي/ أصابحُ الليلَ مصلوباً على أملٍ، ألا أموتَ غريباً مِيْتَةَ الشَبَحِ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...