شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
قمت بقصّ شعري للتوّ

قمت بقصّ شعري للتوّ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الثلاثاء 12 مارس 202411:24 ص

خرجت صغيرتي مع أبيها لشراء بعض الأغراض، جاءتني الفكرة بينما أتوضأ لصلاة الظهر. لم أفكر كثيراً، ذهبت لمكان وجود المقص "الحامي" الذي أبعده عن يد الصغيرة. وقفت أمام المرآة، وقمت بقصّ شعري.

لم يكن قصّاً منظماً بالتأكيد، هناك بعض الأطراف أطول من الأخرى، لكن لا بأس، فعلت ما أريد بالنهاية، وهو أمر جلل لم أتمكن من فعله مرّات كثيرة، في الشهور الستة الأخيرة على الأقل.

لملمت أطراف شعري المتناثر ونظفت ملابسي من بقاياه وألقيت به بداخل التواليت، ثم ضغطت على الماء، فذهب إلى حيث يلتقي بقايا فضلات الناس. كم كنت أتمنى أن ألقي بعض الذكريات والطاقات السلبية التي دفعتني إلى التفكير في قصّ شعري مع بقاياه التي ألقيتها غير مبالية بها.

لو كانت أمي هنا، لأمرتني أن ألقي الشعر المقصوص في ماء الترعة أو النهر، أو أي ماء جار، ليطول ويصبح أكثر صحة وجمالاً. كنت بكرية أمي التي ورثت عنها الكثير من الصفات والطباع، لكني بالتأكيد لم أرث طول وكثافة شعرها.

لو رأت أمي الآن شعري المقصوص لم تكن لتكتم دهشتها وشعورها بالخيبة، لأن ابنتها، صاحبة الرابعة وثلاثين عاماً، ظهر لها شعر أبيض يخالط شعرها الأسود

كان شعري ومظهره أحد الأمور التي ترى أمي أنها عيوب بي، لم تترك أمي فعلاً إلا وقامت به من أجل أن يصبح شعري الناعم أكثر طولاً وكثافة، حتى عندما قامت بقصّ شعري في صغري، وذهبت لتلقيه في ماء الترعة القريبة من محل عملها ليطول شعري. لم يطل شعري بالتأكيد، ولكن بقيت ندبة صغيرة من أم تحاول أن تصلح ابنتها لتكون أكثر أنوثة، وهي الندبة التي مكنتني دائماً أن أفكر بصغيرتي التي ورثت عني صفات شعري بأنها جميلة جداً على أي حال.

"يا نيل يا طويل خلي شعر بنتي جميل... يا نيل حنين طول شعر بنتي طول"

لا يخلو الإنسان من بعض الانحياز، أنا مثلاً أعرف عن نفسي انحيازي لجنسي. أحب البنات وأعتبرهن حاملات جينات الونس والبهجة في هذا العالم، لذا فلهن وحدهن أحب الكتابة، وأفضل مشاهدة الأفلام التي تناقش أمورهن مهما بدت بسيطة.

فيلم "فتاة المصنع" من إخراج محمد خان، مخرج المرأة كما يعرفه الجميع، فيلم بسيط حد الماء، حتى قصته، وعلى الرغم من تكرارها، لا يمكنك ألا أن تتابعها للنهاية. بطلة الفيلم هي فتاة تعمل في مصنع، من بيئة فقيرة تحب المهندس الذي يعمل معها بنفس المصنع، ويستوقفني مشهد قص شعر الفتاة بطلة الفيلم.

حب الفتاة للمهندس الذي يبدأ الكثير من المحيطين بها بالسماع عنه، وهو أمر مشين بالتأكيد لفتاة من تلك الطبقة. تفكر جدتها في حل لتلك الفضيحة فلا ترى سوى قصّ شعرها، في إشارة واضحة لتهذيبها، حتى أنها لم تعد فتاة بل تشبه الذكور بشعرهم القصير.

تعرف أم البنت التي تفهم جيداً قيمة الشعر في حياة البنت وأنوثتها بالأمر، فتذهب للجدة وتأخذ الشعر المقصوص، وتذهب للنيل للتوسّل إليه بسخائه وجوده أن يطول شعر ابنتها ويجعله جميلاً، تماماً كما فعلت أمي في صغري، لكنني أوقن أنه لو رأت أمي الآن شعري المقصوص لم تكن لتكتم دهشتها وشعورها بالخيبة، لأن ابنتها، صاحبة الرابعة وثلاثين عاماً، ظهر لها شعر أبيض يخالط شعرها الأسود.

" يا بني سيب شعري، نصه وقع، حرام عليك"

قلت إن قصي لشعري هو رغبتي التي تخطت حدود الرغبة الداخلية ودخلت حيّز التنفيذ، وهو أمر لم أتمكن من فعله في الشهور الستة الأخيرة، لكني لم أكتب السبب في السطور الفائتة. السبب الحقيقي هو أنني أصبحت أمّاً لصغير يبلغ في وقت كتابة تلك السطور ستة أشهر بالتمام.

مثل الولادة الأولى تماماً، أوجاع منفصلة ثم أوجاع متصلة لا تحتمل، تنبئني بأنني على وشك إخراج روح من داخلي يزيد بها الأنس في هذا العالم الشرير، أضع صغيري "تميم". يخبرني أبيه الذي رآه قبلي أنه جميل وعنده شعر.

يعرف الكثيرون عن تحديات الأمومة، عن التقلبات الهرمونية التي تصيب الأم من فترة الحمل حتى فترة الرضاعة، عن التعليقات السلبية التي تثقل قلبها ممن حولها مهما فعلت لرضيعها، عن السهر وقلة النوم ودائرة الهالات السوداء حول العين التي تكاد تصل للفم من اتساعها، عن مرحلة التسنين وعن الكثير والكثير من المصاعب... لكن لا أحد يتحدّث عن المصاعب اليومية التي تواجهها الأمهات بقلب لين مهما كانت شدتها. لا أحد يتكلم عن لفّ الحجاب بسرعة لأن الرضيع يتمسّك بقدم الأم، ولا عن النوم بثبات تام لأطول فترة حتى لا يستيقظ الطفل، ولا عن مرحلة شدّ شعر الأم عندما تبدأ يدا الطفل الصغير بالقبض عليه.

 أعيش مرحلة التحديات الأخيرة تلك مع طفلي الآن.

أحمل ابني على يدي، فيقبض على شعري من منبته الخلفي، لأنه الأقرب لموضع حملي له، ويحاول شدّه بأقصى قدرة له، ولا يتركه إلا بعد محاولات عديدة بتسليكه بأقل خسارة ممكنة. عادة تكون الخسارة عدداً من شعر رأسي في قبضة يده الصغيرة القابضة عليه كمن فاز بجائزة بعد مسابقة كبيرة.

كانت مفاجأة واضحة عندما لاحظت شعرة بيضاء في يد رضيعي، ولكني أعتقد أن أغلب جيلي لديه تلك الشعرة البيضاء.

لا أحد يتكلم عن لفّ الحجاب بسرعة لأن الرضيع يتمسّك بقدم الأم، ولا عن النوم بثبات تام لأطول فترة حتى لا يستيقظ الطفل، ولا عن مرحلة شدّ شعر الأم عندما تبدأ يدا الطفل الصغير بالقبض عليه

"اسمه يوسف 7 سنين شعره كيرلي وأبيضاني وحلو"

الندبة التي أحدثتها أمي بداخلي، عن غير عمد بالتأكيد، في قبول شعري القصير، والتي كانت كثيراً ما تسبب شعوراً لدي بأنني لست جميلة بقدر كاف، أحاول ألا أحمّلها لابنتي التي أؤكد عليها في كل وقت أنها جميلة على أي حال.

ولكنه جيل الصغار الذي يجادل في كل شيء. أطلب من صغيرتي أن تسمح لي بتهذيب شعرها بدلاً من تركه على حاله، فتخبرني أنها تحب شعرها "كيرلي" أكثر، أجادلها بأن تهذيب الشعر له علاقة بالنظافة أكثر من الجمال. بعد جدال طويل أكون أنا من تعلن استسلامها أولاً.

لا يمكن لأم أن ترى ما يحدث بغزة مثلما يراه أي شخص في العالم، وحدهن الأمهات يغلف قلوبهن غلاف رقيق يجعله أكثر تأثراً بما يحدث لأي طفل، لأن كلاً منهن ترى في الأطفال أبناءها، فكيف يكون الحال مع أطفال يتم قتلهم عمداً في حرب؟

أتابع أحداث غزة بقلب مفطور، أبكي- قدر استطاعتي- خلسة عن طفلي، لكني، في المشاهد التي تبحث فيها الأمهات بلوعة عن أطفالهن، لا أتمالك نفسي عندما أسمع: "الأولاد وين... الأولاد ماتوا بدون ما ياكلوا"، وأبكي حد الاختناق عندما أسمع أماً تبحث عن طفلها، واصفة إياه بأنه "شعره كيرلي"، كأول صفة تميزه، ثم تكمل: "وأبيضاني وحلو".

أرى شعر يوسف الكيرلي في شعر ابنتي تماماً عندما تترك شعرها كيرلي، ولا أعرف كيف أحدّد مشاعري، يوسف في الجنة- وفقاً لعقيدتي- وسيدخل أبوها الجنة بسببه، لكن أعرف جيداً الحال عندما يصاب أحد الأولاد بنزلة برد شديدة، وأعلم يقيناً كيف يكون حال قلب الأم، فماذا عن فقدان الولد على يد عدو؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image