في المرة الأولى التي قرأت فيها لزيجمونت باومان، عالم الاجتماع البولندي، وجدته يصب جزءاً كبيراً من تركيزه على المشاكل الاجتماعية التي ترافق وجود غرباء يعيشون في بلد ما، هربوا إليها بعيداً عن الفقر أو الموت في بلادهم الأصلية.
خاطب باومان أبناء البلد أنفسهم، لا الغرباء، ليفسّر لهم بأن معظم ما يظهر كمشكلة اقتصادية، سببها اللاجئون والقادمون من بلاد أخرى، هي في حقيقتها مشاكل اجتماعية، لكن الأزمات التي تحدث، في الواقع حدثت "أثناء" وجودهم، لكنها لم تحدث "بسبب" وجودهم، وأن الميل لإلقاء اللوم على مجموعة الغرباء بدلاً من علاج السبب الأصلي، يقوده الخوف والقلق من الغرباء لكونهم غرباء فقط، ما يجعل من السهل على البعض إضفاء صفة الشرّ عليهم، كمجموعة شريرة بطبعها، أو كمتسببين في الشرّ، دون قصد على أقل تقدير، وأنه لو لم يكن هناك مجموعة تحمل جنسية مختلفة، لسوف يبحث نفس هؤلاء عن مجموعة أخرى محلية، تمتاز بما يكفي من الغرابة عن بقية المجموعات، لتحميلها كافة مشكلات البلاد الكبرى.
معظم ما يظهر كمشكلة اقتصادية سببها اللاجئون والقادمون من بلاد أخرى، هي في حقيقتها مشاكل اجتماعية، لكن الأزمات التي تحدث، في الواقع حدثت "أثناء" وجودهم، لكنها لم تحدث "بسبب" وجودهم
لم أشعر حينها أن الأمر يعنيني من قريب أو بعيد، اعتبرته أمراً أوروبياً فقط، أولاً، باعتباري لست من هؤلاء الغرباء ولا زلت أعيش حيث ولدت في موطني الأصلي مصر، وثانياً، لأنني لم أعتد على تصنيف غير المصريين -من العرب- كغرباء، إلى أن فاقت الأزمة الاقتصادية حدود تخيلي وتخيل المصريين، عندها بدأت أجد لكتابات باومان صلة بما أصبحت أقرؤه أحياناً عبر السوشيال ميديا، وما شعرت به للحظات أيضاً، إذ فجأة بات السوريون والسودانيون واليمنيون، "غرباء زيجمونت باومان"، هدفاً سهلاً للغضب من تردي الأوضاع الاقتصادية، ورغم أن الأمر واضح والرجل أثبت نظريته بالنسبة لي عملياً، لكن لنكرّر أن الأزمة الاقتصادية حدثت "أثناء" وجودهم لا "بسببهم"، والدليل أن موجة لوم الغرباء هذه بدأت فقط عندما أخطأت الحكومة في خططها وسياساتها، وأن الجميع تقريباً يعلم أن الحلول ستأتي عند تغيير السياسات والخطط، لا عندما يرحل الغرباء عن مصر.
الغرباء والفرص الضائعة
قبل قدوم السودانيين إلى مصر، توقع الجميع بأن هناك انفجاراً في أسعار العقارات لا بد أن يحدث. توقعهم كان صحيحاً. وارتفعت الأسعار لأكثر من الضعف، استغلالاً لحاجة القادمين إلى مَسكَن سريعاً، حينها غضب المتضررون من اضطرارهم لترك بيوتهم المستأجرة لمالكيها الذين يبحثون عن مستأجر سوداني. جزء من ذلك الغضب طال السودانيين أنفسهم، وطالب البعض السودانيين بعدم الانصياع للأسعار المعلنة كونها مبالغاً بها. بالطبع لم يستطع السودانيون المقاومة، لأن البديل هو المبيت في الشوارع أو اكتظاظ مسكن واحد بعدة أُسر، لذا زاد حجم الغضب تجاههم، ونظر البعض للسودانيين على اعتبارهم سبب الأزمة التي حدثت، لكن هناك من رأى في ما حدث فرصة ضائعة كادت تحل مشكلات عدة لولا تغافل الحكومة المصرية.
الفرصة كانت في تنظيم إسكان القادمين في مشاريع سكنية تتبع للحكومة على أطراف العاصمة، وما زالت هذه المشاريع شبه خالية لعدم وجود مشترين قادرين على دفع تكلفة تلك الوحدات، أو لأنها بعيدة عن أماكن عمل معظم المصريين، لو حدث ذلك مثلاً لكان قدوم السودانيين حلاً وليس مشكلة، خاصة وإن أقرت الحكومة دفع قيمة الإيجار بالدولار -المتوفر مع القادمين- إسوة بقرارها دفع قيمة شراء العقارات بالدولار في بنك وطني إذا كان المشتري أجنبياً، ليُصبح ذلك أحد حلول أزمة عدم توافر العملة الصعبة، وأيضاً لمنع تلك الدولارات من الوصول للسوق السوداء، وفي نفس الوقت تحديد سعر عادل للعقارات يمنع أن يرزح الهاربون من الحرب تحت وطأة الاستغلال، ويحافظ للمصريين على نسب الزيادات الإيجارية المعهودة في مناطق عيشهم، جزئياً، لأن من الطبيعي أن الأسعار كانت سترتفع بسبب الغلاء العام.
تستطيع أن تستمر على نفس النمط في البحث عن فرص داخل ما يمكن أن تعتبره مشكلة، ربما علم بعضنا أن الحكومة المصرية لن تفكر بمثل هذه الطريقة، لذا توقع أن يكون تسهيل قدوم السودانيين بأعداد كبيرة مشكلة كما حدث، لكني أعتبرها فرصة حوّلها أداء الحكومة السيء لمشكلة، والسبب هو الأداء السيء لا الغرباء.
الزيادة السكانية والسياحة السكانية
سؤال آخر يسوقه المطالبون بطرد القادمين خارج البلاد، وهو: "ألا يعتبر قدوم ملايين من الناس فجأة إلى دولة ما، زيادة سكانية لا تختلف عن مشكلة الزيادة التي نشترك في محاولة مواجهتها مع الحكومة عندما يتعلق الأمر بتحديد النسل مثلاً؟
حسناً، هناك إجابة بسيطة إلى حد ما على هذا السؤال، وهي أننا لن نغضب إذا علمنا أن السياحة في بلادنا قد انتعشت بدخول ملايين السائحين فجأة، فذلك سيعني أن هناك مزيداً من العملة الصعبة تتوفر، إلى جانب انتعاش الأسواق في حركة البيع ومن ثم زيادة حجم الإنتاج، أما إذا حدث عكس ذلك، فهذا يعني أن هناك مشكلة أصلاً في إدارة ملفي العملة الصعبة والأسواق، موجودة قبل قدوم الغرباء وستظل هناك سواء بقيَ هؤلاء أو غادروا، والتجربة السورية، باعتراف المؤسسات المالية المصرية، لم تضر بالاقتصاد، على العكس مرت شهور قليلة بعد توافد السوريين ورأينا تجارب استثمارية ناجحة لجميع الأطراف، شملت مكاسب واضحة، كتشغيل آلاف العمال وجني الحكومة لمزيد من الضرائب نتيجة نجاح المشروعات السورية. إذن نجاح التجربة السورية يجب أن يجعل التجربة السودانية غير مقلقة على أقل تقدير، وذلك يعيدنا إلى واقع أن القلق مصدره ليس السودانيين لكن المصريين في الحكومة.
هم ليسوا ضد منطق البحث عن حياة أفضل في بلاد بعيدة، لكنهم لا يرغبون في أن ينتهي بحث غيرهم بالوصول إلى بلدهم هم، حتى أنك تشعر أن لسانهم يكاد ينطق بعبارة "ارحلوا عن بلادنا، وخذونا معكم"
باختصار، توافد ملايين البشر إلى بلاد في أزمة، تحتاج لمزيد من العملة الصعبة والاستثمارات، لا يجب أن يكون مصدر تعاسة مواطني هذه البلد، لكن التعاسة الحقيقية هي تفويت الفرص، وصعوبة رؤية الفرص، هو ما جعلني عندما سمعت أول مرة عن نية مصر تسهيل دخول السودانيين، أرى أن لمصلحة الضيوف والمستضيفين معاً، أن تكون مصر مجرد بوابة يعبرون عن طريقها إلى بلاد أخرى، لأني لا أثق في قدرة الحكومة على إدارة الملف، ومن ثم فلا بدّ وأن تتحول الفرص على يدها لمشاكل، وأخشى ما أخشاه، أن يُقال بعد عدة سنوات إن السودانيين هم من تسببوا في جزء من الأزمة الاقتصادية، ومن هنا ستتحول المشكلة إلى كراهية جاهلة وعمياء، لكن على كل حال، من المهم أن نعرف ونتذكر أن مثل تلك الأزمات غالباً ما تحدث "أثناء" وليس "بسبب" قدوم الغرباء.
أيها اللاجئ ارحل عن بلادنا، وخذنا معك
وأخيراً، لا أستطيع الانتهاء من المقال دون أن أعتذر عن استخدام كلمة "لاجئ"، وإن كانت في أصلها لا تعتبر سُبّة لكني أعلم أن وقعها على الآذان يُشعر المعنيين بالأمر بالحزن والضيق، لكني اضطررت لاستخدامها لإيضاح حجم تناقض من يستخدمها كسُبة في معاداة الغرباء عنه في البلاد، وفي نفس الوقت كطموح شخصي لمغادرة البلاد.
فمن المثير للسخرية، أن بعضاً ممن قرّروا توجيه جمّ غضبهم على الغرباء، معللين أحياناً شعورهم هذا بأن هؤلاء قد هربوا جُبناً من مصائر بلادهم، تجدهم بأنفسهم يحلمون -إن لم يكونوا يبحثون بالفعل- باللجوء إلى بلاد أخرى، أي أنهم ليسوا ضد منطق البحث عن حياة أفضل في بلاد بعيدة، لكنهم لا يرغبون في أن ينتهي بحث غيرهم بالوصول إلى بلدهم هم، حتى أنك تشعر أن لسانهم يكاد ينطق بعبارة "ارحلوا عن بلادنا، وخذونا معكم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 5 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي