شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الشعر الفارسي يفقد طفلَه الشقي أحمد رضا أحمدي

الشعر الفارسي يفقد طفلَه الشقي أحمد رضا أحمدي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الأربعاء 12 يوليو 202304:16 م

حين دخلت بيته لأول مرة قبل عدة سنوات (عام 2010) كان أول حديثه لي عن الأفلام المصرية التي كان تعرض في صالة سينما في طهران قبل عقود وعن حبّه لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ. كنت قصدت زيارته لأطرح عليه فكرة ترجمة مختارات من شعره منذ البداية حتى ذلك الوقت في كتاب، فرحّب وأهداني الكثير من دواوينه مع بعض الكتب الجميلة التي كان قد كتبها للأطفال. أتذكر أنني كعادتي لم أتحدث كثيراً، لكنني ضحكت كثيراً، فبين جملة وأخرى كان يذكر نكتةً أو يمزج حديثه بظرافته التي اشتهر بها.


صورة صوفيا لورين وكثير من أزهار الخبيزة في شرفته هما ما بقي في بالي حتى اليوم برغم الزيارات التي تلت الزيارة الأولى خلال سنوات. وخلال هذه السنوات دخل المستشفى وخرج ثم دخل وخرج وقال إنني الشاعر الوحيد الذي يشتغل قلبه بالبطارية. لم يضحك وضحكت وصار الأصدقاء يتداولون جملته هذه إلى جانب كثير من الحكايات والجمل التي يتذكرونها منه ويذكرونها بين الحين والآخر في "قعدات" الليل.

كيف لنا أن نوصل بهذه الأغنية
إلى المدينة؟
فالأغنية
سوف تموت
خلف بوابات الحدس.

لكن هذه المرة دخل أحمد رضا أحمدي المستشفى وخرج، ولكن ليس باتجاه بيته في الطابق الأول من بناية "دوما"  في طهران، بل إلى الأبدية. أحمد رضا أحمدي، الشاعر والكاتب والرسام، وصاحب الصوت الجميل الذي سُجّلت كثير من الألبومات الشعرية بصوته، صوته الذي كنت أسمعه أيام الصبا في الأهواز، قبل  أن ألتقيه بسنوات، الرجل الذي كلما كبر كان يوصف بـ"الطفل الشقي"، رحل يوم أمس في طهران.

أحمد رضا وابنته ماهور

لن يردّ أحمد رضا بعد الآن حين أتصل بهاتف بيته ليسألني قبل كل شيء: "هل كبدك بخير؟". لا أعرف كيف يتدبر ذلك البيت ليعيش ألم غيابه وخطواته الرقيقة، لكننا، نحن محبيه، ليس لنا أن نفتح بعد الآن باب شعره فقط، ونحاول أن نسمع صوت تلك الروح يقول: "هل تعرفين أنني جارُ أصيص أزهار الخبيزة؟"

هنا نحن ضيوف بعض شعرِه (بترجمتي من الفارسية):

البداية في الدّفن

مدينة تهتف:

نعم

تصل حمامة وحيدة

إلى البرج القديم

وتقول:

لا. 

للربيع

-لفرط ما هو وحيد-

لغة أخرى.

زهرة الآلام

تبوح بموت الأيام وأزهار البتونيا.

كيف لنا أن نوصل بهذه الأغنية

إلى المدينة؟

فالأغنية

سوف تموت

خلف بوابات الحدس.

أطلّي على المدينة 

مع النّوم

كي يكون النشيد مختبئاً في عينيك.

نحن الذين أتينا من الأمس الساخن

في الغرف الاستوائية

موعدنا

سيكون في أغاني الصبح.

من العاصمة

عندما نبتعد عن العاصمة تعترينا هواجس: هل الثلاجة تشتغل الآن؟ هل فسدت الفواكه واللحوم؟ هل الكتب ما زالت فوق الطاولة؟ هل قبلت الدائرةُ إجازتَنا أم لا؟ هل ودّعْنا الجميعَ عند مغادرة العاصمة؟ هل كانت السيجارة مشتعلة في المنفضة أم مطفَأة؟ هل ذبلت الأزهار في غرف البيت وفي الأصص؟ وهل تهدد الحشرات والعثة ملابسَنا الشتوية في خزانة الثياب في الصيف؟

نحن لا نستطيع الإجابة عن كل هذه الأسئلة. جالسون الآن على الكراسي الحديدية في البلدة في مساء ربيعي. هناك شجرة تفاح قرب الكراسي وكثير من أشجار العنب. الرجل الذي أوصلنا إلى البلدة نائم في المستشفى الآن ولا يمكنه أن يشاركنا متعةَ الأشجار.


أحمد رضا إلى جانب لوحة رسم له

صاحب البيت نائم طوال النهار. يفيق بين حين وآخر وينظر نحونا من خلف النافذة ولا يقول إلا: كوكو، كوكو... ثم يسدل الستارة ثانية وينام. في الصيف الماضي عندما كنا في هذا البيت وسمعنا من الراديو خبر قصف العاصمة، كنا نخرج من تحت الأشجار ونذهب مساء إلى الشارع لنسأل عن أسعار البضائع، ثم لا نشتريها.

ذات يوم ذهبنا في البلدة إلى محل بيع التحف. قال صاحب المحل: نحن نبيع قططاً حية أيضاً، أتريدون مشاهدتها؟ تحدّثْنا لساعاتٍ مع صاحب المحل حول القطط، وفي النهاية اتفقنا فاشترينا قطتين: بيضاء وسوداء. عندما غادرنا المحل سألنا البائعَ: ماذا تأكل القطط؟ اللحم أم الخضار؟ أجاب: هاتان القطتان تحفتان ولا تأكلان سوى الأحلام. قلت للبائع: تعرف أن الحرب قائمة والحلم شحيح. أجاب: عندما يبذل المرء نقوداً يجد كل شيء.

أنا 

الآن

أعرف الآن صوت الخطوات

والآن

أريد أن أسيرَ من جديد

وأقول:

من جديد

أقول:

صوت

أقول:

أبيض

أقول:

أنت

وأقول:

لا أعرف.

الجار

لفرطِ ما هو ودود

يقول:

العين السوداء

وأنا لفرط انتظاري أريد أن

أقول:

الوحدة.

لكن الحديقة أودعت مساحتَها للأشجار.

جالسون الآن على الكراسي الحديدية في البلدة في مساء ربيعي. هناك شجرة تفاح قرب الكراسي وكثير من أشجار العنب. الرجل الذي أوصلنا إلى البلدة نائم في المستشفى الآن ولا يمكنه أن يشاركنا متعةَ الأشجار

كم كانت يافعة

تناديني ثانية لأذهب نحوها. أنا لا أعرف مكانها. كم كانت يافعة عندما التقينا. كانت تتدلى من شعرها كهرمانات شتوية. قدمت لها معطفي البالي تحت المطر. أخذتْه ووضعتْه على كتفيها. مررنا من المفترقات في الليل تحت المطر. لم أكن أعرف اسمها. كنا تائهَين. نسير. إلى أين نسير؟ لم أعرف. أولئك الرجال والنساء الفضوليون كانوا يحدقون بنا. وعلى الشوارع كان غطاء غسله المطر. مررنا من مفترق آخر. كانت السنوات تمرّ ونحن نسير في الشوارع. كنت أعرف أن لا نهاية هناك. ربما كان باستطاعة الموت أن يُطلق معجزة. لكننا واصلنا السّيرَ. تناديني ثانية لأذهب نحوها. لكنني لم أعرف مكانها. لكم هرمتْ فجأة. يا إلهي!

***

ولد أحمد رضا أحمدي عام 1940 في كِرمان/إيران. انتقل مع عائلته إلى طهران في السابعة من عمره، ودرس هناك ومن ثم اشتغل في مركز الأطفال والناشئين للإبداع، وهو أهم مركز تأسس بأدب الأطفال في إيران، فكان بداية عمل كثير من المبدعين الإيرانيين منهم المخرج عباس كِيارُستَمي. عمل أحمد رضا في هذا المركز في تحرير الكتب وإدارة إنتاج الموسيقى حتى تقاعد منه.


بدأ كتابة الشعر في العشرينيات من عمره، وأسّس برفقة عدد من الشعراء والكتاب والفنانين الإيرانيين منهم نادر إبراهيمي، ومحمد علي سِبانلو، وبَهرام بيضائي وغيرهم جماعةَ "طُرفة" الأدبية بهدف الانتصار لما يسمّى "الموجة الحديثة" في الشعر الفارسي.

يعتبر أحمدي من رواد قصيدة النثر في إيران، كما أنه يُعدّ من أهم كتاب الأطفال، إذ كتب العشرات من القصص والقصائد للأطفال، ورُشح عام 2009 لجائزة هانس كريستيان أندرسون العالمية. نال العديد من الجوائز الشعرية المهمة في إيران، منها جائزة الشاعر "بيجَن جلالي" للشعر. ترجمت أعماله إلى الألمانية والفرنسية والإسبانية والعربية واليابانية ولغات أخرى. من أعماله: "دفاتر الشيخوخة" (سبعة أجزاء)، "أنقاض قلبي أودعها للريح"، "يوميات منثورة"، "نحن على الأرض"، "كانت الساعة العاشرة صباحاً"، "الجريدة الزجاجية"، "سأبوح لك يوماً ما"، "غاليتي"، "من نظراتك تحت السماء اللازوردية"، "الشاي يبرد على الطاولة غروب يوم الجمعة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image