تشكل "شعبانة" أشهر وأعرق الطقوس التي تسبق شهر رمضان، والتي دأب المغربيات على الاحتفال بها وإحيائها في النصف الأخير من شهر شعبان وسط جو احتفالي روحاني يُدخل البهجة والسرور إلى القلوب. وتختلف طقوس الاحتفال بها من منطقة إلى أخرى. وعادة ما تسبق هذه الليلة الاحتفالية استعدادات وطقوس كثيرة.
نُزيّن المنزل ونجدّده في شعبانة
تنظيف البيت أو "التخمال الكبير" كما يسميه المغاربة، من أبرز العادات والاستعدادات المرتبطة بـ"شعبانة"، إذ تعكف الأسر المغربية على تجديد وتزيين البيت وتغيير بعض أثاثه، إضافة إلى اقتناء مقادير ومستلزمات "سلو" أو "السفوف"، وهي عبارة عن حلوى تقليدية مغربية أصيلة أساسية في شهر رمضان، والتي تحرص المغربيات على تحضيرها في شعبان من أجل استهلاكها في رمضان.
تقول لرصيف22 لالة ياقوت (48 عاماً)، وهي امرأة من العائلات الفاسية العريقة ذات الامتداد الروحي بمدينة فاس الإدريسية: "شهر شعبان هو فرصة للاستعداد لسيدي رمضان، وتطهير النفس والبيت معاً، والتقارب بين الأحباب والجيران، حيث نقوم في العواشر بالتخمال الكبير، من تنظيف شامل للبيت وتصبين الملابس والأغطية والأفرشة، وأيضاً إعادة ترتيب الفراش والستائر وغسل وتلميع أواني البيت واقتناء أشياء جديدة للبيت".
ونحضّر الحلوى مع الجارات
تكمل وهي منحنية منشغلة بتنقية حبات الزنجلان (السمسم) من الأوساخ والشوائب في فناء بيتها الشاسع في المدينة القديمة لفاس من أجل تحضير "سلو"، وتقول وهي تستحضر ذكريات شعبان في طفولتها : "نشأت في بيت أسرة فاسية عريقة محافظة على العادات والتقاليد محبة للمة والفرحة، إذ بحلول هذا الشهر نصل الرحم ونبارك العواشر فيما بيننا، وكانت العائلة جميعها تعتكف في البيت الكبير لمي لالة "الجدة"، بعدما يكون الجميع قد اشترى مؤونته لتحضير (سلو) من دقيق وزنجلان (سمسم) ولوز وكاوكاو (الفول السوداني)، وتشتغل جميع نساء العائلة والجارات بشكل جماعي، وكل واحدة تقوم بدورها، فإحداهن تقوم بتقنية الزنجلان من الشوائب، وأخرى بتحميص الدقيق والكاوكاو، وأخرى تُسند إليها مهمة قلي اللوز، وأخرى تطحن الحبوب والتوابل من مسكة حرة والجوزة في المهراس (المهراس هو أداة نحاسية قديمة تستعمل في طحن وهرس الحبوب والتوابل) تقام كل هذه التحضيرات في أجواء حميمية وسط لعب وفرح الأطفال".
تشكل "شعبانة" أشهر وأعرق الطقوس التي تسبق شهر رمضان، والتي دأبت المغربيات على الاحتفال بها وإحيائها في النصف الأخير من شهر شعبان
تضيف لالة ياقوت أن هذه الأجواء والعادات والتقاليد الجميلة التي فتحت عينيها عليها في الصغر طبعت ذاكرتها ورسمت لها ذكريات جميلة في الكبر تأبى أن تندثر/ وتحاول ما أمكن المحافظة عليها ونقلها ورسمها أيضا بدورها في مخيلة أبنائها حتى تظل راسخة في ذاكرتهم، وتقول بلكنة فاسية: "كيف ما حليت عيني على يمة ولالة والجيران كيديرو هذا الطقوس، حتى أنا كنحب أولادي يشاركوني في هذا الطقوس باش يبقاو عاقلين عليها ويتفكروها منين يكبرو".
غير بعيد عن لالة ياقوت وفي نفس الحي في المدينة العتيقة في فاس، تجلس لالة زهيرو وهي جارة ستينية جارة للالة ياقوت، تتحدث لرصيف22 وهي منهمكة في عجن حلوى الشباكية، وتسترجع لنا شريط ذكرياتها في هذه المناسبة مع جاراتها، تقول: "جرت العادة في هذه المناسبة أن نشمر نحن النساء الفاسيات على سواعدنا لتحضير الحلويات، خصوصاً حلوى الشباكية التي لا تخلو أي مائدة مغربية منها في رمضان"، وتتحسر لالة زهيرو على الأجيال التي لم تعد تعطي أهمية لهذه الطقوس وتعلق: "كنا في الماضي بمجرد حلول شهر سيدي شعبان علينا نجتمع نحن النساء في بيت جارة واحدة، ونفترش الأرض، وكل واحدة تأتي بقصريتيها ونقوم بعجن الشباكية، وبعدها نشارك جميعاً في تشبيكيها وطهيها، رحم الله أيام زمان، اللمة والتجمعات العائلية والتآزر بين الجيران وكنا نعتمد على أنفسنا ولا نشتري أي شيء جاهز من السوق".
ونزور الحمامات الشعبية ونتطيّب
دأبت لالة زهيرو على تنظيم وإحياء ليلة شعبانة لنساء الحي الذي تقطن فيه، وحول طقوس هذه الليلة الاحتفالية تقول: "يبدأ التحضير لهذه الليلة الاحتفالية في الصباح الباكر، والذهاب إلى الحمام من أجل الاسترخاء والتخلص من تعب التحضيرات الرمضانية، وأيضاً لاستقبال ليلة شعبانة بهيئة نظيفة، إذ نحرص نحن الجارات فيما بيننا على الاستيقاظ باكراً والعمل على طلي شعورنا بالحناء المعطرة بأنواع من الأعشاب كالقرنفل والريحان والسنبل والخزامة والورد، أما المواد ومستلزمات الحمام التي نصطحبها معنا فكلها مواد طبيعية تتجلى في الغاسول (عبارة عن طين طبيعي من مستحضرات التجميل المغربية الطبيعية يتم دمجه مع الماء لتنظيف الجسم)، والصابون البلدي الطبيعي، والسواك (مادة تجميلية طبيعية يستخدم لتنظيف وتجميل الأسنان، وتؤخذ من لحاء شجرة الجوز) والحركوس (مادة تجميلية طبيعية كانت ولازالت تستعملها النساء المغربيات لتلوين الحواجب)".
تقول لالة ياقوت بأن تنظيف البيت أو "التخمال الكبير" من أبرز الاستعدادات المرتبطة بـ"شعبانة"، إذ تعكف الأسر المغربية على تجديد وتزيين البيت وتغيير بعض أثاثه، إضافة إلى اقتناء مقادير ومستلزمات "السفوف"، الحلوى المغربية التي لا تغيب عن مائدة رمضان
بعد طقس الاغتسال والاستحمام والعودة إلى البيت تهيئ النساء طبق الكسكس أو الرفيسة والتي تعتبر من الأطباق الرئيسية الخاصة بالاحتفال الرسمي لشعبانة، ويجهزن أنفسهن ويتزيّن للاحتفال من خلال ارتداء أنفس ما لديهن من ملابس تقليدية، تتجلى أساساً في القفطان المغربي، القطعة الأساسية في كل فرح مغربي.
ونرقص ونأكل وننقش بالحناء
تقول لالة زهيرو: "نبدأ حفل شعبانة وراء صلاة العصر، فأستقبل جميع نساء الحي في بيتي الكبير، ونجتمع على قصرية الكسكس بـ(سبع خضاري والقديد)، نسكت بها جوعنا قبل الاندماج في جو الرقص والاحتفال".
تندمج الفاسيات في جو احتفالي فيما بينهن في هذه المناسبة دون الرجال، وتتخلل هذه الاحتفالية الروحانية طقس نقش الحناء للفتيات العازبات وسط أهازيج وأغاني تقليدية تراثية من كلام منظوم يبدأ بذكر الله والصلاة على رسول الله، ومن إحياء فرقة "الجيلاليات" أو "عيساوة"، هذا الفن التقليدي الذي لم يعد مرتبطاً بالرجال فقط بعد أن أنثته أصوات نسائية.
حول رمزية هذا الطقس الشعبي المغربي تقول لرصيف22 مريم حلب (30 عاماً) وهي ربة منزل من أصول مراكشية ومستقرة في مدينة "سلا" بأن مناسبة شعبانة تشكل لها موروثاً ثقافياً يجب الحفاظ عليه في زمن التكنولوجيا والعصرنة، حيث اعتادت على تنظيم حفل شعبانة بعد النصف من شهر شعبان ودعوة عائلتها وصديقاتها على وليمة طبق "الرفيسة"، وتقديم الحليب والشاي والحلويات والنقش على إيقاع أغان شعبية مغربية.
تقول لالة زهيرو بأن حفل شعبانة يبدأ بعد صلاة العصر، فتستقبل نساء الحي في بيتها، ويجتمعن للأكل من "قصرية الكسكس" قبل أن يبدأ جو الرقص والاحتفال، مع نقش الحناء والمدائح.
وتتابع: "هذه العادة ورثتها ونقلتها عن أمي وخالاتي وتعلمت الاحتفال بها، فهي مناسبة أولاً لتطهير وتفريغ تراكمات عناء أشغال البيت، وأيضا لتوديع وليمة الكسكس أو الرفيسة وغيرها من الأطباق التقليدية التي لا تحضر في رمضان، ومنها فرصة للقاء الأصحاب والأحباب والعائلة والاحتفال لأجل استقبال شهر الصيام والغفران بقلوب صافية ملتزمة".
حتى في الغربة... نحتفل بشعبانة
تقول فاتن البوني، وهي شابة مغربية فاسية الأصل مقيمة في فرنسا، ومنسقة شعبانة هناك: "أحرص بمعية النساء المغربيات المقيمات في الديار الفرنسية أن نحافظ على تقاليدينا المغربية التي تتسم بالتنوع والغنى، والتي تعد مصدر فخر لنا في العديد من المناسبات ومنها شعبانة، هذا الموروث المغربي الذي يحيل على الفرح واللمة والاستعداد للشهر الفضيل".
وقد شهد حفل شعبانة الذي أقامته هذه السنة بحسب فاتن حضور 180 سيدة مغربية، حرصن على ارتداء الملابس التقليدية المغربية "القفطان و"التكشيطة"، وساهمن مادياً في تنظيم الحفل ونجاحه، وتخلل الحفل عدة فقرات تتمثل في طقس الحناء والرقص على أهازيج "العونيات وعيساوة" وزغاريت و"مدح سيد الخلق"، كما تضمن الحفل تجهيز بوفيه يتضمن أشهى المأكولات والحلويات المغربية التقليدية بلمسة عصرية .
أما نساء الجالية المغربية في الولايات المتحدة الأمريكية، فاغتنمن فرصة الاحتفال بهذه المناسبة، التي تشكل لهن جسراً لتجديد الوصل مع هذا الإرث المغربي، ومناسبة تخفف عنهن وطأة الاغتراب.
أحلام بنعدادة، شابة مغربية فاسية الأصول مقيمة في أورلاندو في ولاية فلوريدا، ومنسقة حفل شعبانة هناك لرصيف، تقول لرصيف22: "هذه أول مرة أخوض فيها تجربة تنظيم حفل شعبانة في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد جاء تنظيم هذا الحفل بطلب كبير من الصديقات فقلت لما لا؟، نغتنم هذه الفرصة من أجل إحياء تقاليدنا وعاداتنا، خصوصاً وأن أغلبنا هنا يتعذر عليهن السفر إلى المغرب، وإحياء مثل هذه المناسبات الروحية مع الأسرة التي نتعطش إليها".
تحتفل المغربيات في الخارج وتحديداً في فرنسا والولايات المتحدة أيضاً، حيث تقوم امرأة في كل مدينة بالتطوع لتكون "منسقة شعبانة" مع مساعدة ومساهمة من جميع المغربيات، ومع الحفاظ على كل الطقوس كما هي في الوطن، بما فيها الطعام المغربي، وارتداء القفاطين، والأغنيات والمدائح
وحول أجواء حفل شعبانة في الولايات المتحدة الأمريكية، تقول بنعدادة إنها اختارت تنظيمه في قاعة "Emerald"، حيث حضرت أكثر من 100 سيدة مغربية من مختلف المدن من أجل تقاسم لحظات الفرح والاحتفال والاستمتاع بالأهازيج المغربية التقليدية من الريبرتوار المغربي، والذي أحياه الفنان هشام غيث، وتضمن الحفل في فقراته طقس الحناء والذي يعتبر طقس ضروري في هذه المناسبة ، فضلاً عن حضور الأطباق المغربية، إضافة إلى هذا تضمن الحفل عرضاً للملابس التقليدية المغربية للمصممة إيمان قفطان، هذه القطعة التي تشكل عنوان احتفال المرأة المغربية في جميع المناسبات على مختلف العصور.
طقوس قديمة اختلطت بالإسلام
حول تاريخ ظهور هذه العادة التقليدية في المغرب، يقول الباحث في علم الاجتماع محمد العيساوي لرصيف22: "طقس شعبانة هو عبارة عن ممارسة تجمع بين ما هو ثقافي وما هو ديني، إنه امتداد لمجموعة من الممارسات المغربية التي كانت لدى المغاربة قبل دخول الدين الإسلامي، فالمغاربة قبل دخول الإسلام لم يكونوا صفحة بيضاء، بل كانت لهم مجموعة من الممارسات الاحتفالية الخاصة بهم، ومع الإسلام ستنصهر كل تلك العادات والتقاليد مع الدين الإسلامي، فهذا الاختلاط الذي وقع بين الثقافة الأصلية للمجتمع المغربي وما بين الدين الإسلامي الذي كان جديداً عند المغاربة آنذاك سوف يولد لديهم مجموعة من الطقوس الاحتفالية الدينية الخاصة مثل (شعبانة) و(المولد النبوي) و(عاشوراء)".
ويختم العيساوي بأن طقس شعبانة يحمل أبعاداً اجتماعية مميزة ومتفردة، بحيث ترسخ وتعزز من مبادئ وقيم التضامن والتآزر، وتساهم في خلق وتعزيز الروابط والعلاقات بين أغلب التنظيمات الاجتماعية بما فيها الأسرة والجيران.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...