شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
صناعة الأزرار الحريرية في مدينة

صناعة الأزرار الحريرية في مدينة "صفرو"... عن أناقة المغربيات التي لا تشبه سواها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الاثنين 15 يناير 202412:08 م

 مدينة صفرو، أو "أورشيلم اليهود"، أو حبة الكرز التي يعشقها المغاربة، ربما يعرفها الجميع بكونها عاصمة فاكهة الكرز منذ سنة 1919، وبقدر ما منحها مهرجانها َ"مهرجان حب الملوك" شهرة عالمية، منذ أن صنفتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو" في العام 2012 في العاصمة الفرنسية باريس، تراثاً لا مادياً للإنسانية، إلا أن لديها المزيد من المفاجآت والأسرار. 

فهي تعرف أيضاً بعاصمة صناعة الأزرار الحريرية المعروفة بالـ"عقاد"، ليس فقط في المغرب بل في العالم، حيث تحتل هذه الصناعة مكانة هامة عند الصفريوين، فهي رمز من رموز الثقافة المغربية المتوارثة والضاربة في عمق التاريخ . 

حرفة يهود المغاربة قديماً

ارتبط حضور هذه الحرفة التقليدية تاريخياً بوجود الحرفيين اليهود المغاربة في إقليم صفرو، والذين كانوا يشكلون في نهاية الستينيات قوة اقتصادية رئيسية، واﻧﺘﺸﺮت داخل الأوساط السكانية المسلمة تدريجياً مع حلول عهد الحماية، ولأسباب وطنية وتضامنية بين المسلمين واليهود، الشيء الذي فتح المجال لفئات عريضة من النساء لإقبال تعلم أصول وفنون هذه الحرفة التي أصبحت اليوم نشاطاً صناعياً مهماً يساهم بشكل كبير في إثراء مداخيل الآلاف من نساء المدينة.

خرجت حرفة صناعة الأزرار الحريرية من مدينة صفرو في المغرب، والتي اشتهرت عالمياً بمهرجان "حب الملوك"، وبكونها  عاصمة فاكهة الكرز، وقد صنّفتها اليونسكو إرثاً عالمياً لا مادياً 

تُستعمل الأزرار الحريرية بشكل أساسي في الملابس التقليدية المغربية "القفطان و"التكشيطة" والجلباب"، بحيث لا تكتمل أناقة وجمالية الزي التقليدي المغربي بدون "الأزرار الحريرية" التي تعطيه شكله ورونقه وتضفي عليه طابع الأصالة، حتى أضحى أهم ميزة ينفرد بها عن غيره. 

مصدر قوت النساء 

في ركن بيتها الدافئ والبسيط في منطقة "صنهاجة" في إقليم صفرو، تبدع فاضمة (62 عاماً) بأناملها وهي التي تمتهن هذه الحرفة منذ الصبا، ولا تزال تطمح إلى الاستمرار فيها رغم تقدم سنها وتدهور بصرها، لشغفها بها وعلى اعتبارها مورد رزقها الوحيد.

تنحني فاضمة باتجاه طبقها الذي تضع فيه "أزرارها الحريرية "، وهي تغرس الإبرة بيدها اليمنى والـ"موندي" بيدها اليسرى، وتروي لرصيف22 عن بداياتها الأولى في هذه الحرفة، تقول: "كانت بدايتي في هذه الحرفة مبكرة عندما كنت في سن 12، ورثتها عن أمي رحمة الله عليها والتي كانت صارمة وملحة في تعليمي، (الصنعة إلا ما غنات تستر واقيلا تزيد في العمر) كانت أمي تقول لي وهي تقنعني بتعلمها".

والسابق هو مثل شعبي متداول في المغرب يقال لبيان قيمة الحرفة في حياة الأفراد، ويعني أن هذه الحرفة حتى وإن لم تجعل المرء غنياً لكنه ستجعله في غنى عن الآخرين، والمعنوي في كون الحركة والنشاط في الصناعة يقوي الإنسان جسدياً ويطيل عمره.

وتكمل: "كانت تخبرني أنني سأحتاجها في يدي لا محالة في يوم من الأيام، وقد وصلت لكلامها الآن، أشكر الله وأمي على هذه الحرفة التي أمتلكها بين أناملي، فرغم ثمنها الضعيف والبسيط، إلا أنها تشكل قوتي، ومنها درّست أولادي إلى أن أصبحوا يافعين ، وأتساعد مع زوجي على مواجهة تكاليف الحياة".

وتقول إنه لا يكاد يخلو بيت في المدينة من النسوة اللواتي يصنعن الأزرار الحريرية سواء كن عازبات أو متزوجات فقيرات أو ميسورات، والمحظوظة هنا هي من لديها بنتين أو أكثر يساعدنها في هذه الحرفة لزيادة كمية الإنتاج ومضاعفة الأرباح. 

أسرار النساء من الجدات إلى الحفيدات 

غير بعيد عن بيت فاضمة، تجلس عائشة (42 عاماً) في زقاق الحي برفقة جاراتها وبناتها الأربع: فاطمة الزهراء، مريم، خديجة، ونهيلة. يتبادلن أطراف الحديث، ويشتغلن بشكل جماعي، فيتنافسن فيما بينهن على إنتاج أكثر كمية ممكنة من الأزرار الحريرية.

تقول عائشة لرصيف22: "نجتمع نحن المعلمات (العقاد) في هذا الزقاق بعد عصر كل يوم، ونتنافس فيما بيننا في إنتاج الأزرار الحريرية، ونتقاسم همومنا وأفراحنا. ورثناها عن أمهاتنا وجداتنا، وليس لدينا أي بديل عنها، لذا نسعى ما استطعنا أن نحافظ عليها ونلقنها للأجيال الجديدة، ولها صعوبتها، فهي صناعة تتطلب الدقة والصبر والنفس الطويل وساعات عمل طويلة". 

علّمت عائشة هذه الحرفة لبناتها وبنات الجيران، وتقول كما علمتها أمها أن الصنعة إن لم تجعلها غنية لكنها ستغنيها عن الآخرين. 

وعائشة هي من علمت بناتها الأربع، وبنات أخريات من الحي، أسرار هذه الحرفة، تقول فاطمة الزهراء (17 عاماً) ابنتها الكبرى والطالبة في سنة أولى بكالوريا: "بدأت أمي تعليمي صناعة الأزرار الحريرية في السادسة من عمري، حيث تعلمت كيف أصنع نصف العقدة وتسمى (الفريدة)، وكانت أمي تكمل عني الجزء الباقي من العقدة، وفي التاسعة أصبحت أتقن فن صناعته، وحصلت على لقب معلمة (العقاد)، وقد ساعدت أمي في تلقين اخواتي".

وتضيف أنها من خلال هذه الحرفة تؤمن مصروف دراستها رغم قلة ثمن الأزرار، حيث يتراوح سعرها ما بين أربع إلى خمسة دراهم لباقة الأزرار الحريرية التي تتكون من 40 عقدة وتسمى بـ"العمارة". 

طقوس وأدوات صناعة الأزرار الحريرية

تقول فاضمة: "تحتاج الصانعات من أجل إنتاج الأزرار الحريرية بأناملهن إلى مواد أولية تتمثل في خيوط الحرير، والصمغ والورق أو حجر العقيق، بالإضافة إلى المغزل خشبي يدوي أو آلي، وأداة الموندي والإبرة والمقص".

أولى الخطوات تتمثل في غزل خيوط الحرير بأداة "المغزل" تم تأتي مرحلة تفوير هذه الخيوط على درجة حرارة مرتفعة، كي يسهل تشكيلها لاحقاً. وبعد مرحلة غزل خيوط الحرير تأتي مرحلة إنتاج "التكويرة" التي تنبني على أساسها "العقدة" ويتم صناعتها بواسطة ورق الصحف أو الغشاء الكهربائي بعد نزع قضيب النحاس من وسطه، أو من حجر العقيق. 

ارتبطت هذه الحرفة تاريخياً بوجود الحرفيين اليهود المغاربة في إقليم صفرو، والذين كانوا يشكلون في نهاية الستينيات قوة اقتصادية رئيسية، واﻧﺘﺸﺮت داخل الأوساط السكانية المسلمة تدريجياً مع حلول عهد الحماية، ولأسباب وطنية وتضامنية بين المسلمين واليهود

تجمع فاضمة خيوط الحرير الذهبية الـ"صقلي" وتشكلها حول أصابعها كي تشكل ما يسمى بالـ"تسدية"، وتقص هذه الخيوط من الوسط بالمقص. وبنظرة ثاقبة وبأنامل مبدعة، تشاركنا فاضمة أولى خطوات إنتاج "الأزرار الحريرية" وهي تضع الخيط في عين الإبرة و"تكويرة" بقلب الموندي وتشكل ما يشبه علامة "X" عليها قبل أن تبدأ في عملية تشكيل "العقدة"، حيث تغرس الإبرة بيدها اليمنى وتسحبها بيدها اليسرى، وشيئاً فشيئاً ومع كل غرزة دقيقة تغرزها فاضمة تشكل لنا "عقدة" هذه التحفة الفنية، التي تجد طريقها إلى ورشات الخياطة التقليدية ليتم تثبيتها على الملابس التقليدية المغربية. 

 إلى العالمية

استطاعت رئيسة تعاونية "حب الملوك للأزرار الحريرية" أمينة يابس في مدينة صفرو أن توصل الأزرار الحريرية إلى العالمية، من خلال تسويقها وعرضها في معارض وطنية ودولية.

تقول لرصيف22: "بدأت قصة تأسيس التعاونية سنة 2000، بهدف التعريف بالأزرار الحريرية على أوسع نطاق ممكن، كمنتج تقليدي يدوي يبرز خصوصيات وهوية وتاريخ وثقافة ساكنة مدينة صفرو، وكذلك لمساعدة صانعات هذه الحرفة من تسويق منتجاتهن بأنفسهن، وبطريقة مبتكرة تساعدهن على مضاعفة الربح دون الحاجة إلى السماسرة والوسطاء الذين يقتاتون من عرقهن".

وتدرجت تعاونية سيدة أمينة يابس من إنتاج "العقاد" وتسويقه بطريقة تقليدية، إلى دخول ومواكبة عالم الموضة والأكسسوارات المتوفرة على الأزرار الحريرية. تضيف: "بدأنا في التعاونية بـ10 صانعات وقد وصل عددهن الآن إلى 40، كان همنا في البداية أن نأخذ طلبيات من مدن كبرى ونوزعها بثمن أكثر، لكن رغم ذلك لم يكن مدخولنا يرقى إلى المستوى المطلوب، حتى سنة 2005 حين شاركنا في معرض الصناعة التقليدية في الدار البيضاء، وسط هذا المعرض وأنا أتجول، وقفت أمام رواق للحلي النسائية المصنوعة من العقيق ، واستلهمت الفكرة ، فقلت لما لا نوظف الأزرار الحريرية في صناعة الحلي النسائية، وعند عودتي من المعرض ابتكرت أول سوار، قمت بتصويره وإرساله إلى جمعية في إيطاليا فرحبوا كثيراً بالفكرة وأعجبهم المنتج، وطلبوا منا 400 سوار، ومن هنا كانت الانطلاقة، والحمد الله التي توالت بعدها طلبيات كثيرة من المغرب وخارجه".

وتضيف أنها أضحت مطالبة بدوام الإبداع والابتكار ومواكبة عالم الموضة في الإكسسوارات، وفق ما يطلبه الزبائن الأجانب، إذ توالت مشاركات التعاونية في معارض دولية في إيطاليا، إسبانيا، كندا، بلجيكا، الولايات المتحدة الأمريكية، إندونيسيا، والسعودية.

في العام 2009، عرفت هذه التعاونية للمرة الأولى تجربة الدخول في السوق العالمي الفني، وكانت أول مشاركة للمغرب في هذا السوق، تقول يابس: "تشرفت بكل فخر أن أمثل بلدي ومدينتي، وأن أكون أول صانعة تقليدية مغربية في سوق الولايات المتحدة الأمريكية في مجال الحلي النسائية المصنوعة بالحرير بطريقة يدوية، مما زاد من إشعاع التعاونية، وأصبحنا كل عام نشارك بفضل منتجاتنا اليدوية المبدعة والمبتكرة والمتفردة التي لا ينافسنا فيها أحد". لذا وبفضل مجهوداتها هي والصانعات حازت التعاونية وساماً ملكياً ولقب "سفيرة الأزرار الحريرية ".

وتختم بأن غايتها هي تسويق الأزرار الحريرية في العالم، وحماية هذا التراث المغربي من الضياع من خلال تلقينيه للأجيال القادمة، والتركيز على جودة المنتج التقليدي الأصيل، خصوصاً "عقدة المدبرة والصمة" القديمة، التي تصمد مع مرور الزمن، و التي بدأت تندثر وسط ظهور الأزرار الحريرية العصرية والجديدة. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard