في بلدة ألنيف التابعة لإقليم تنغير (شرق وسط المغرب)، يتم إحياء التاريخ على شكلِ احتفالات بأعراس جماعية، في شهر آب/ أغسطس من كل سنة، صوناً لذاكرة المنطقة، وتجديدَ عهدٍ بالتاريخ وأعرافه.
تعني "تِيمْغْريوين تِيغْراويتِينْ" في الأمازيغية، الأعراس الجماعية، وهي تقليد أخرجته من طي النسيان والاندثار منذ سنة 2007، جمعية بوكافر للتنمية الثقافية والاجتماعية في ألنيف، خشية اندثار هذا الطقس الجماعي الضارب في جذور التاريخ، بالإضافة إلى ما له من فوائد جمّة على المنطقة.
لا يرتبط هذا الحدث بأسطورة تاريخية معيّنة، كما هو الحال مع موسم "إملشيل"، إنما هو تجديدٌ وإحياء لطقوس تاريخية ارتبطت بقبائل آيت عطّا. إلا أنها حالياً تجاوزت القبيلة نحو الامتداد القبلي والشعبي والمجتمعي، لكن يُشترط في العريس أن يكون ابن منطقة ألنيف، أما العروس فلا يحكمها هذا الشرط، سواء أكانت أمازيغيةً أو من مكوّن آخر.
وفاء للتاريخ
وفق حسن أزواوي، الأستاذ الباحث وأحد أعضاء الجمعية المنظمة للاحتفال، فإن فكرة الأعراس الجماعية فكرة متجذرة في التاريخ.
يُردف في تصريح لرصيف22: "تنظّم مناطق الجنوب الشرقي في غالب الأحيان، أعراسها الجماعية، بعد انتهاء الموسم الفلاحي. وهذا التقليد ضاربٌ في التاريخ عند قبائل آيت عطا، لذلك حاولنا كجمعية إعادة إحيائه، لأجل الأجيال القادمة، وتحصيلاً لمجموعة من النتائج والفوائد".
لا تعكس الأعراس الجماعية هنا في ألنيف، الطابع نفسه الموجود في المدن الكبرى، وفق المتحدث، بمعنى أن الأمر لا يقتصر على أخذ شريحة من المواطنين لديهم مشكلات اقتصادية، فنحاول تزويجهم مثلاً. قد تكون هذه فائدة من الفوائد، لكن الأصل هنا أننا نأخذ الأعراس الجماعية وفق الأعراف والتقاليد باعتبارها موروثاً ثقافياً.
كانت العروس في ما مضى، ترمي "أمزيد"، أي اللوز الذي يوضع في إناء، في عين ماء، في أثناء مراسيم "أسوفغ"؛ وهي لحظة كشف النقاب عن وجه العروس، متبوعةً بإحضار العروس إلى بيت الزوجية
دور الجمعية يقتصر فقط على التنظيم والتأطير في ميدان عامّ، في حين أن العروسين يتكفّلان بالمأكل والمشرب إلى غير ذلك. إشارة أخرى يضيفها أزواوي: "لا نقومُ بـ'العَزْلة'، أي اختيار الفتيات يوم الزفاف، بل هناك ترتيبات مسبقة بين العروسين، بحيث تكون كل الأمور القانونية منجزةً مسبقاً، وتبقى فقط تقاليد الزفاف في الساحة، التي نشرف عليها".
تنظيم هذه الأعراس الجماعية يحتاج إلى أمور لوجستيّة مهمة، برغم بساطتها الظاهرة. يقول أزواوي: "مثلاً، في سنة 2008، أشرفنا على تنظيم 46 عرساً، بما مجموعه 92 عريساً وعروساً من مناطق مختلفة، بالإضافة إلى أن الآباء يمنحوننا ثقتهم الكاملة في الإشراف على الأعراس الجماعية لأبنائهم، لذلك فأي خطأ وإن كان بسيطاً، قد يؤثر سلباً. لكن وللأمانة، الأعراس أصبحت الآن ذاكرةً للمنطقة، لذلك فالكل مسؤول عن تنظيمها بشكل جماعي لا الجمعية فقط. أبناء المنطقة يساهمون بشكل كبير كذلك في التأطير، ما يحدّ بشكل كبير من الخصومات والتعقيدات".
ما هي تقاليد الأعراس الجماعية في ألنيف؟
رافقنا وسيم وعلي، وهما من المهتمّين بالثقافة الأمازيغية، في هذه الرحلة للتعرّف أكثر على التقاليد والخطوات التي تتم من خلالها عملية الأعراس الجماعية، لمدة ثلاثة أيام.
في اليوم الأول من الحدث، تصل جميع العرائس (تسلاتين)، إلى المنطقة، مع من يُرافقهن من الأهل والأقارب، في ساعات متأخرة من الليل، ويُعرفون بـ"أسناين".
والأسناين، وفق وسيم، هم أشخاصٌ يفوضهم العريس لإحضار العروس، وقديماً كَان يُشترط في الأسناي أن يكون ثقةً وذا قوة، حمايةً للعروس من المتربصين أو قطاع الطّرق.
صباحاً، يتم إحضارهنّ إلى ساحة خاصة على متن سيّارات بصحبة أمّهاتهن، لكي يركبن في حافلة مكيّفة، وهنا بعض الاختلاف عن الماضي، إذ كانت البغال قديماً وسيلة نقل العرائس، لتنطلق بهن الحافلة عند الساعة التاسعة، مُعلنةً بذلك بداية طقوس "أسوكز"، والتي تعني عملية نقل العرائس إلى خيمة الوصول في جوّ احتفالي.
يحضر أسناين واحد لكل عروس، للقيام بتنفيذ أوامر "إقطاعن" (قطاع الطرق)، وهي عبارة عن عقوبات تُفرض على الأسناين تكون في أغلبها هزليةً تخلق جوّاً من المرح، للسماح لهم بإيصال العرائس إلى خيمة "أسوكز" (العرس).
لا يرتبط هذا الحدث بأسطورة تاريخية معيّنة، إنما هو تجديدٌ وإحياء لطقوس تاريخية ارتبطت بقبائل آيت عطّا
في مساء اليوم نفسه، عند الساعة السادسة، تتم في ساحة إنرارن المجاورة لخيمة "أسوكز"، مراسيم "تغمي نْسْلان"؛ أي تحنئة العرسان، يتكلف بها "أسناي بمرافقة أم العريس، ويتم فيها تزيين العريس بالحنّاء والكُحل والمسواك والعطر وبلباس تقليدي خاص ومميّز، يتشكل من السلهام الأبيض، بالإضافة إلى رداء أحمر مزركش بألوان زاهية يوضع على رأس العريس يسمّى بالأمازيغية 'تكرزيت'". زد على ذلك البلغة والجوارب البيضاء، ويزيّن كتفه "أبوقس"؛ وهو حبل حريري أحمر يضعه العريس والأسناي أيضاً.
يُصبح العريس في أبهى حلة وطلعة في أثناء استقباله عروسه. بالتوازي مع هذه المراسم، تجدُ النساء ينشدن أهازيج خاصةً بهذه اللحظة تُسمّى "وارو".
مباشرةً مع الانتهاء من مراسيم الحنّاء، تبدأ العروض الفنية المستقاة من التراث المحلي؛ "أحيدوس"، و"رقصة أسمخان"... إلخ. وهنا تنتهي تقاليد اليوم الأول لينسحب الجميع من إنرارن.
يوم ثانٍ وثالث... من اللّوز والهدايا
في اليوم الثاني، تُستكمل مراسيم تحنئة العريس كما هي في اليوم الأول. لكن ما يميّزها عن اليوم الأول هو تقديم رقصة "أحيدوس" من طرف "إسلان وتسلاتين" أي العريس والعروس، بالإضافة إلى تقديم عروض "أحيدوس" بلمسات أخرى تؤديها فرق محلية عدة، من بلدة ألنيف، ومن بلدة النقوب التابعة لإقليم زاكورة، وفرقة "أسمخان"، ثم ينسحب بعدها الجميع من ساحة الاحتفالات.
مساء اليوم الثالث، تُجهز ساحة "إنرارن" من طرف اللجنة المنظمة، بإضافة نافورة صغيرة بمثابة منبع مائي بجانبه حوض محاط بشجيرات النخيل، وذلك لخلق مشهد يمثّل "خطارة"، أي ساقية القرية، وحقولها.
تُقدّم هدايا رمزية للعرسان، الذين يصطفّون في طابور برفقة عرائسهم المحمّلات بسطول من اللوز، يمسك العرسان قصبةً مزيّنةً بألوان وأشكال زاهية
وكانت العروس في ما مضى، ترمي "أمزيد"، أي اللوز الذي يوضع في إناء، في عين ماء، في أثناء مراسيم "أسوفغ"؛ وهي لحظة كشف النقاب عن وجه العروس، متبوعةً بإحضار العروس إلى بيت الزوجية.
بعد ذلك تُقدّم هدايا رمزية للعرسان، الذين يصطفّون في طابور برفقة عرائسهم المحمّلات بسطول من اللوز، يمسك العرسان قصبةً مزيّنةً بألوان وأشكال زاهية. يتقدم كل زوجين تباعاً لرمي اللوز ملء سطل من النافورة، وإفراغه في الحوض المائي. بعد ذلك يتم تقسيم الأزواج إلى ثلاث مجموعات استعداداً للخروج من الساحة من ثلاثة مخارج درءاً للازدحام، وتسهيلاً لعملية المغادرة.
هنا ينتهي العرس الجماعي، لتتمكن العائلات من مرافقة عرسانها في مواكب بهيجة تحفّها الأغاني والأهازيج المحلية التي تُدعى "تمحطارت"، مع إبراز وجه العروس للعامة لأول مرة منذ ليلة مجيئها من بيت أسرتها، ليتم الوصول أخيراً إلى بيت العريس وترافق الزوجة الشابّة أم العريس لتُريها مرافق بيتها الجديد.
احتفالات بقيم تضامنية
في جوّ بهيج، تقام الأعراس الجماعية لمدة ثلاثة أيام، تُعاد فيها صياغة التاريخ، وتمجيد عادات الأجداد وتقاليدهم، ولا يقتصر الأمر على هذا الجانب، بل لهذا الحدث قيمٌ إنسانية وكونية، يُجملها أزواوي قائلاً: "تساهم الأعراس الجماعية في خلق جوّ من الانصهار القبلي والمجتمعي. لم يعد الأمر مقتصراً على قبائل آيت عطا، بل تجد 'أسمخان' و'إكرامن' و'الشرفاء'، كلهم في ساحة واحدة. تنظرُ إلى الأزواج في الساحة فلا تفرّق بين الأستاذ والمهاجر والطبيب والمهندس والفلاح، كلهم بلباس موحّد، يجلسون على الحصيرة نفسها، وينصهرون في بوتقة واحدة. أضف إلى ذلك أنّ الأعراس الجماعية تساهم بشكل كبير في التقليل من المصاريف الاقتصادية. تخيّل فقط أن يقوم كل بيت بتنظيم العرس فردياً، مع ما يلازم ذلك من دعوة جميع أبناء المنطقة. هنا يظهر التضامن والتكافل الاقتصادي والاجتماعي".
فضلاً عن ذلك، تُعدّ الأعراس الجماعية متنفساً للساكنة في غياب أماكن الترفيه والتسلية، فحتى المهاجرون تجدهم ينتظرون شهر آب/ أغسطس من أجل المشاركة في هذا الحدث الاستثنائي والجماعي.
قبل أن تكون الأعراس الجماعية في منطقة ألنيف، حدثاً فلكلورياً، لا بد أن تكون محط اهتمام باحثي علم الاجتماع، والسيميائيات، والأنثروبولوجيا، فكلّ شيء هنا ليس عبثاً، بل يأخذ صيغة تفاصيل دقيقة توارثها الأبناء عن الأجداد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه