"يبيع فلان (رجل قوتشاني) ابنته. معلومة بكل تأكيد تصدم القارئ وتدفعه للتساؤل عن الأسباب التي تدفع القوتشاني إلى ذلك. فالفلاح الفقير يضطر إلى بيع ابنته والحصول على الأموال، وذلك لدفع الضرائب الحكومية وخوفاً من العصي والسياط التي ستنهال عليه إذا لم يدفعها"؛ هذا النص كتبه الصحافي مجد الإسلام كرماني، في عهد القاجاريين، ونُشر في صحيفة "نداء الوطن" في 26 شباط/فبراير 1907. والنص هذا عيّنة صغيرة من الإشارات العديدة التي كتبها صحافيون ومناضلون سياسيون في أواخر عصر القاجاريين، تنديداً بأزمة بيع الفتيات في مدينة قوتشان، شمال شرق إيران، للتركمان والأرمن في بداية القرن العشرين.
مناصرة القضية من قبل نخب المجتمع، أثارت أزمةً أضرمت النار في الهشيم واندلعت ثورة دستورية وانتفاضة ضد ظلم الحكّام في إيران عام 1906، كما توسعت هذه الأزمة إلى درجة أنها تسببت في أول محكمة رسمية في تاريخ إيران بعد تشكيل وزارة العدل التي أُنشئت جرّاء تلك القضية. وبرغم أن حكم المحكمة لم يؤدِ إلى النتيجة المرجوة للمناضلين، إلا أنه لم يقلل من أهمية قصة فتيات قوتشان.
لماذا قوتشان؟
عُدّ الحكم على ولاية خراسان في العهد القاجاري، بمثابة الحكم على كامل أراضي إيران، وذلك بسبب موقعها الإستراتيجي والتنافس عليها بين الدولتين البريطانية والإمبراطورية الروسية، وخصوبة أراضيها الزراعية، وتواجد مقام الإمام الثامن لدى الشيعة الاثني عشرية، علي بن موسى الرضا، في مدينة مشهد. وجود الضريح هناك تسبب في استقطاب التجار ومئات الآلاف من الزوّار سنوياً، إلى تلك المنطقة.
"يبيع فلان (رجل قوتشاني) ابنته. معلومة بكل تأكيد تصدم القارئ وتدفعه للتساؤل عن الأسباب التي تدفع القوتشاني إلى ذلك. فالفلاح الفقير يضطر إلى بيع ابنته والحصول على الأموال، وذلك لدفع الضرائب الحكومية وخوفاً من العصي والسياط التي ستنهال عليه إذا لم يدفعها"؛ هذا النص كتبه الصحافي مجد الإسلام كرماني، في عهد القاجاريين
كما أن إنشاء خط سكة حديد من قبل الروس بين مدن خراسان وأراضي القياصرة، وإحداث طريق بين عاصمة تركمانستان عشق آباد وقوتشان، وتأسيس مكتب بريد ومكتب تلغراف هناك، أضفت أهميةً تجاريةً على هذه المدينة، إلى درجة أن بلغت ستين في المئة من إيرادات جمارك الاستيراد والتصدير في خراسان، لكن التحسن النسبي للزراعة والتجارة في هذه المناطق، لم يكن له أي تأثير إيجابي على حياة قاطنيها. وفي المقابل تسببت في زيادة في دخل الضرائب للحكومة، لكن لم تجلب سوى المشقّة والاستياء لسكان هذه الولاية.
بيع الفتيات في قوتشان
بيعت فتيات قوشان للتركمان في عهد ولاية غلام رضا خان آصف الدولة، على خراسان، ومن ثم في عهد ولاية خسرو خان شجاع الدولة، وابن آصف الدولة أمير حسين خان، على ميدنة قوتشان في ربيع عام 1905. كان آصف الدولة قد حكم مناطق مختلفةً من إيران مثل كرمانشاه وكرمان وطبرستان (مازندران)، وعربستان (خوزستان)، وفارس وبلوشستان، منذ عام 1875، قبل توليه سيادة خراسان، وكان استبداده وحكمه القاسي مشهورَين جداً لدى الإيرانيين/ات.
وحول هذا، كتب الصحافي والمؤرخ في فترة القاجار في إيران، عبد الحسين خان سبهر، الملقّب بملك المؤرخين، في مذكراته عن عهد آصف الدولة في كرمان، والذي تزامن مع الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر، التالي: "بسبب الضريبة، تعامل مع أهل كرمان بقسوة شديدة، إلى درجة أنهم اضطروا إلى بيع فتياتهم، كي يستطيعوا دفع ضرائب حكومة آصف الدولة".
وبحسب ملك المؤرخين، ومع بداية حكم آصف الدولة على خراسان عام 1904، ارتفع سعر القمح ستة أضعاف، كما وقعت كارثة طبيعية في ربيع عام 1905، أدت إلى تفاقم معاناة أهل خراسان، ولم تنتهِ أزمات القوتشانيين هنا، حيث جاء هجوم الجراد على الحقول في تلك الفترة ليزيد الطين بلةً.
وكتبت صحيفة "حبل المتين" في 18 أيلول/سبتمبر 1905، عن ذلك، التالي: "كان هجوم الجراد على حقول قوتشان وضواحيها عنيفاً جداً، إلى درجة أن جميع الناس أصيبوا بالذعر والقلق من ارتفاع الأسعار، وفي كثير من الأحيان لم يكن لديهم ما يكفي من المؤن، وفي الوقت نفسه كان عليهم دفع ضريبة الديوان بأي شكل من الأشكال". وبحسب "حبل المتين"، بالرغم من تحديد معدل الضريبة بقيمة خمسة تومانات (عملة إيران) في جميع البلاد، إلا أن حكومة ولاية خراسان، كانت تجبر رعاياها على دفع عشرين توماناً.
لقاء حفنة من القمح!
سرعان ما انتشرت أخبار الظروف الصعبة التي يعيشها أهل قوتشان، واعتصم أهالي هذه المدينة أمام مكتب التلغراف احتجاجاً على التمييز في حقهم مقارنةً بأهالي مدينة "أهال" المتضررة أيضاً من هجوم الجراد، والتي كانت تحت حكم روسيا آنذاك، كما قارنت صحيفة "حبل المتين" هذا الأمر، في 17 حزيران/يونيو 1905، وكتبت: "في أهال تم تعيين بعض المفتشين وقاموا بالتحقيق في الأضرار التي لحقت بمحصول الناس، ولذلك تم منح قروض وخصومات وفترة تسديد لكل من المزارعين والمتضررين وتعويض لزراعة العام المقبل. أما هل حكومة شجاع الدولة في إيران حاولت حل المشكلة ومنح قروض لفقراء قوتشان؟ فنعم. خمسون أو ستون من الرعايا الذين طلبوا القرض أو المهلة لدفع الضرائب، قُتلوا برصاص بنادق الدولة، فيما قُتل مئة وخمسون آخرون ممن باعوا بناتهم إلى التركمان، مقابل خمسة عشر إلى أربعين توماناً لدفع ضرائب حكومة شجاع الدولة".
وكانت نتيجة اعتصام أهالي قوتشان، إقالة شجاع الدولة وتعيين نجل آصف الدولة أمير حسين خان، حاكماً على قوتشان، إلا أن هذا التعيين تسبب في المزيد من الصعوبات، لأن الأب والابن لم يستطيعا تخفيض الضرائب. وعن هذا كتب مجد الإسلام كرماني، أن "ابن آصف الدولة كان يجمع من الناس ضعف ما كان يأخذه آصف الدولة، وباع البنات بأربعة أضعاف مبلغ الضريبة في حكومة والده".
أصبح جباة الضرائب تجّاراً تجارتهم بيع فتيات قوتشان. وقد اشتروا كل فتاة مقابل 36 كيلوغراماً من القمح وباعوهن إلى التركمان بأثمان باهظة، وقد ترددت شائعات بأن التركمان أخذوا الفتيات إلى أسواق عشق أباد، وقاموا ببيعهنّ في المزاد العلني، وكان التجار الأرمن يشترونهن لبيعهن كخادمات أو مغنيّات أو راقصات في بيوت الضيافة.
في هذه الأثناء، عمل المشرّعون في طهران على إنشاء محكمة، لمحاكمة هذا القمع الحكومي، ووصف ناظم الإسلام كرماني، في كتاب "تاريخ صحوة الإيرانيين"، أحد اجتماعات الجمعيات المطالبة بالحرية، كما يلي: "يجب أن نحاول إيقاظ الشعب، دعونا لا نفشل في إرسال التقارير والمقالات إلى الصحف المصرية وما إلى ذلك". في أحد هذه التقارير المرسلة إلى "مصر" و"كلكتا"، يشار إلى فتيات قوتشان باسم فتيات إيران، وذلك لإثارة ذهن القارئ بأنهن ينتمين إلى إيران بأكملها وأنهن بمثابة ثروة وطنية مفقودة.
فتيل الثورة الدستورية تشعله نساء قوتشان وباشقانلو
في خريف عام 1905، قام شقيق صهر شجاع الدولة، سالار مفخّم بجنوردي، بتجنيد بعض التركمان المرتزقة لنهب رعايا شجاع الدولة، وذلك من أجل تشويه سمعة نجل آصف الدولة، وإثبات جدارة عشيرته لحكم خراسان واستعادة حكومة قوتشان. خلال هذه العملية قُتل عدد من الأشخاص وأُسرت 62 امرأةً وقاصراً، إثر الهجوم الذي واجهته قبيلة باشقانلو (أكراد قوتشان).
جددت مأساة فتيات قوتشان ونساء باشقانلو، جرح الشعب الإيراني فتذكروا هزائمهم أمام الدول الأجنبية والتركمان في القرن التاسع عشر، وشبّه الكثيرون هذه الأحداث بمأساة كربلاء ومصير الإمام الحسين وأصحابه. وبدأت جميع الصحف الفارسية المطبوعة في الداخل والخارج، كـ"ثريا" التي كانت تطبع في القاهرة، بالتذكير بتجاوزات التركمان على أراضي إيران، إذ كان هدفها تجديد وتكثيف الشعور بالإهانة من تلك الأحداث، بأقوال مثل: "التركمان لم يأخذوا ’نساءنا’ فحسب، لكنهم تسببوا أيضاً في خسارة ’أراضينا’، وحاولوا انتهاك ’شرفنا وشرف الوطن’". جاء هذا النص والنصوص المماثلة، من أجل جرح مشاعر الشعب وتشجيعه على تقويض الحكومة غير القادرة على إقامة العدل في البلد.
وبرغم أن دور فتيات قوتشان في إنشاء الحكومة الدستورية قد تم تجاهله في التأريخ الإيراني، إلا أن الوثائق التاريخية لمكتب المدعي العام تعدّ "فتيات قوتشان" من العوامل الرئيسية في إصدار المرسوم الدستوري من قبل مظفر الدين الشاه، في آب/أغسطس 1906، وتشكيل الجمعية الوطنية في تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام.
وبعد مرور عام ونصف على الثورة الدستورية، كانت قصة فتيات قوتشان لا تزال تُناقَش في الصحف وفي البرلمان، وكانت هذه المناقشات تُنشر بانتظام في الجرائد وتُقرأ بصوت عالٍ في المقاهي والشوارع، وتثير شعور الاستعطاف والانتماء الوطني في المجتمع. وكانت النتيجة الأولى لهذه المناقشات، إقالة آصف الدولة من حكومة خراسان في أوائل عام 1907، واستدعاءه إلى طهران للبت في أمره.
أول محكمة رسمية في إيران... تحصيل حاصل
كتب الصحافي هاشم محيط مافي، في عهد القاجار، في "كتاب مقدمات الدستورية": "بعد أيام قليلة من وصول آصف الدولة إلى طهران، ظهرت تجمعات معارضة شعبية، إذ كان الناس يقيمون كل يوم وقفةً احتجاجيةً أمام البرلمان، ويعتصمون هناك من المساء حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل". وأخيراً، في 20 حزيران/ يونيو 1907، بدأت لجنة التحقيق عملها في وزارة العدل بشأن قضية فتيات قوتشان وسبي نساء باشقانلو، ووصلت أهمية هذه المحاكمة إلى درجة أن صحيفة "المحاكم" التابعة لوزارة العدل اقترحت تسجيل هذا اليوم في التقويم الإيراني وإعلانه يوم "احتفال وطني".
بيعت فتيات قوشان للتركمان في عهد ولاية غلام رضا خان آصف الدولة، على خراسان، ومن ثم في عهد ولاية خسرو خان شجاع الدولة، وابن آصف الدولة أمير حسين خان، على ميدنة قوتشان في ربيع عام 1905
لكن الحجر الأول لهذه القضية وُضع معوجّاً، حيث أنهت الهيئة عملها بعد أن عقدت جلسات عدة في أقل من أسبوعين، وأُرسل آصف الدولة إلى إجازة صيفية، كما عُزل سالار مفخّم من حكومة مدينة "بجنورد"، ولم يُحكم عليه إلا بدفع غرامة مالية واحتجازه إلى حين عودة الأسرى.
هل عاد الأسرى؟
تطوع شخص يُدعى سردار سبهدار تنكابني، للذهاب إلى إستراباد وإعادة الأسرى، ونُشرت أخبار إطلاق سراح السجناء أو شرائهم في الصحف المختلفة، لكن لم يُعرف ما إذا كان هؤلاء المطلَق سراحهم، هم الأسرى السابقون أنفسهم أو أولئك الذين تم أسرهم في الهجمات التركمانية اللاحقة.
مع قصف المجلس على يد محمد علي ميرزا، في 23 حزيران/يونيو 1908، أُطلق سراح سالار مفخّم، من السجن، واستعاد حكومة بجنورد. وفي بداية عام 1910، ترددت شائعات بأن آصف الدولة سيصبح حاكم خراسان مرةً أخرى، لكن الأجل لم يمهله إذ مات في 28 آذار/مارس 1910.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...