"كان في قلب طهران منزل فاخر وحديث على الطراز الغربي، يحتوي على قاعة تتسع لنحو 60 ضيفاً، ومؤثثة بسجادة يدوية ذات قيمة وأرفف تضم خمسة آلاف كتاب، إذ تستضيف فيه فتاة عصرية إلى أبعد الحدود وجميلة جداً من سلالة ملكية، مجموعة من المفكرين والشعراء والأدباء المعاصرين على شكل جلسات أدبية وحوارية، في ظل جو سياسي ملتهب جراء اندلاع الحرب العالمية الثانية. وقد تكَوَّن بعض الأدب المعاصر في تلك الاجتماعات التي تذكرنا بقاعات باريس. هذه الفتاة هي مريم".
هكذا يصف الصحافي المخضرم مسعود بِهْنُود جزءً من نشاط "الأميرة الحمراء"، إحدى أهم النساء المعاصرات حضوراً في المشهد السياسي والأدبي في تاريخ إيران حیث کانت عضوة رئيسية في اللجنة المركزية لحزب تُودِه الشيوعي.
وسط أسرة أرستقراطية من سلالة القاجار، ولدت الأميرة مريم فَرْمَانْ فَرمَايان سنة 1913 وترعرعت في قصور ملكية. ورغم السلطة الذكورية كانت العائلة تصر على أن تتعلم ابنتها القراءة والكتابة. درست مريم في مدرسة إيرانية وأتقنت اللغتين الفارسية والعربية، كما دخلت المدرسة الفرنسية في طهران.
"مريم امرأة ذكية وشجاعة ومغامرة، وفي رأيي يمكن أن نبحث عن مثلها في الأساطير"، يصفها أحد الكتاب الإيرانيين، کما قال فيها شعراً الشاعر الشاب رهي معيري عندما التحقت بالحزب الشيوعي: "مريم يا رافعة الراية الحمراء ليس مثلك مريماً حمراء"
تشرح مريم في فيلم وثائقي أنها كانت تذهب إلى مكتبات طهران وتشتري كمية كبيرة من الكتب، خاصة الفرنسية منها. وتنهمك طول الوقت بالقراءة والتعرف على الأدب والتاريخ والسياسة.
وحين كانت في المراهقة، تغيرت السلالة الحاكمة من القاجاريين إلى البهلويين، وأصبح الملك رضا شاه بعدما كان رئيساً للوزراء. فقرر والدها تزويجها من ابن رئيس المجلس الوطني زواجاً سياسياً ليحتفظ بنفوذه عند رجال الدولة الجدد. ففي السادسة عشرة من عمرها تزوجت مريم من الجنرال عباس قلي إسفندياري.
الفارق في السن بين مريم وعباس هو 26 عاماً، وبعدما أنجبت ابنتين منه، وبسبب انعدام الانسجام بينهما إذ كانت هي تهوى القراءة والكتب بينما هو لم يرتَح هو لذلك، قررت الانفصال دون الطلاق بشكل رسمي، احتراماً لوالدها الذي لم تفلح محاولاته في إصلاح ذات البين، إذ أذله رضا شاه وقتل ابنه وأخذ الكثير من ممتلكاته وثرواته. وبعد وفاة الوالد تطلقت مريم رسمياً سنة 1943، أي بعد مرور عقد على زواجها.
نشاط أدبي
عادت مريم إلى منزل والديها الفاخر، وحلت الحرب العالمية الثانية، واحتلت بريطانيا وروسيا البلاد، وتم تنحي رضا شاه من منصبه، ليصبح ابنه امحمد رضا ملكاً على إيران.
في تلك الآونة، انفتحت الأجواء السياسية بعد فترة من الاختناق والقيود والديكتاتورية، فقامت مريم باستضافة جلسات أدبية في منزل أسرتها، حضرتها قامات الأدب الفارسي من اليساريين، مثل الروائي صادق هدايت، واللغوي والشاعر برويز ناتل خانلري، والشاعر والمنظر الشيوعي إحسان طبري، والشاعر الغنائي رَهي مُعيّري وكثيرون آخرون.
اعتبر البعض أن هذه الاجتماعات الأسبوعية كانت بداية إقامة المحافل الأدبية الإيرانية المعاصرة، ومنها دخلت الأميرة المشهد السياسي بشكل جدي. وبعد تعرفها على الأفكار اليسارية، وحزب توده الشيوعي، وجدت نفسها من أنصار الحزب، "كنت أبحث عن مكان يحترم المرأة فوجدت ذلك في حزب توده"، قالت.
"مريم امرأة ذكية وشجاعة ومغامرة، وفي رأيي يمكن أن نبحث عن مثلها في الأساطير"، يصفها أحد الكتاب الإيرانيين، کما قال فيها شعراً الشاعر الشاب رهي معيري عندما التحقت بالحزب الشيوعي: "مريم يا رافعة الراية الحمراء ليس مثلك مريماً حمراء".
الحب فداء النضال
ذاب الشاعر رهي معيري في حب مريم، هو الذي حرص على حضور جلساتها الأدبية، حتى أنشد أرقى قصائده الغرامية الغنائية المستوحاة من ذلك الحب، واستمر الإثنان في علاقة حب حتى طلبت مريم منه أن يكتب مقالات نقدية في الصحف باسم حركي.
دخلت الأميرة الفاتنة الحراك النسوي اليساري، متحدثة بارعة وسط الجموع حتى حجزت لنفسها مكانة خاصة وأخذ صيتها يشيع بين الجميع، وفي بداية الحكم الجديد للملك الشاب وعودة إخوانها للمناصب الحكومية، خالفت عائلة مريم نشاطها السياسي، حتى أنها حذفت لقب العائلة الشهير والذي يحمل معنى ملوكياً، احتراماً للشعب ولنشاطها ضد الشاه، وفضلت اسم جدها، لتبدأ هويتها الجديدة باسم "مريم فيروز".
أما مؤسسات الإعلام التي صدمها قرار الفتاة التي رجحت النضال على العيش الهني، فلقبتها صحيفة لوموند بـ"الأميرة الحمراء"، إذ بذلت أموالها التي ورثتها في سبيل أهدافها، وخاصة في سبيل حزب تودة الشيوعي.
تعرفت في هذه الأثناء على المعمار نور الدين كِيَانوري، المسؤول على الحراك السري في الحزب، ويصغرها بأربع سنوات، وقد كثر الحديث عن علاقتهما الغرامية، ثم تزوجا رسمياً، وكانت حينها عضوةً فعالةً في المنظمة النسائية، الجناح النسائي في الحزب الشيوعي، إذ تتابع المطالب النسائية وتطالب بالمساواة والحقوق الاجتماعية والسياسية، كما شرعت في كتابة تقارير ومقالات عديدة في مجلة "بيداري ما"، أي صحوتنا، التابعة للحزب.
"وقتذاك كان التحاق مريم بالحزب الشيوعي صيداً جيداً، نظراً لأموالها الطائلة التي بذلتها في هذا الطريق"، يكتب عنها الصحافي الإيراني مسعود بهنود الذي شرح قصة حياتها في كتابه "أولئك النساء الثلاث". ويذكر أنها تركت الرفاهية نحو حياة سياسية مليئة بالتشرد والسجن وصلت بها إلى حدود عقوبة الإعدام لتكون أول امرأة إيرانية تنال هذه العقوبة في التاريخ المعاصر.
ورغم مخالفة بعض قيادة الحزب الشيوعي الذين يحملون أفكاراً رجعية حول دور النساء، أصبحت مريم ضمن الفريق الاستشاري للجنة المركزية للحزب سنة 1948.
حياة سرية في شوارع طهران
نفذ أحد أفراد الحزب عملية اغتيال فاشلة ضد الشاه في مطلع عام 1949، ليتم حظر نشاط الحزب، واعتقال كثيرين، منهم زوجها نور الدين كما فرت مجموعة كبيرة من المحازبين إلى الخارج، لتكون هذه الحادثة النهاية على النشاط العلني للحزب الشيوعي داخل إيران. وفشلت السلطات الأمنية في إلقاء القبض على الأميرة المتمردة.
تمت محاكمتها غيابياً وحكم عليها بعقوبة السجن المؤبد، فاستمرت في حياة سرية لسنوات، إذ راحت تتخفى تحت العباءة والأحذية الممزقة كي تستمر بنضالها السياسي وعلاقاتها الحزبية مع من تبقّى في طهران وتفقد عوائل المعتقلين ومساندتهم في ظل ظروف أمنية صعبة. ويعزو البعض سبب فشل البلاط الملكي في احتجازها أو منعها من العمل، إلى معرفتها بالأماكن السرية التابعة للحزب داخل العاصمة من خلال زوجها الذي كان يترأس هذا الجناح، ومن خلال نسبها الملكي السابق، إذ ما زالت أسرتها المنحدرة من السلالة القاجارية تتمتع بمناصب في النظام الملكي البهلوي.
وبما أنها ابنة خال رئيس الوزراء محمد مصدق، فقد كانت حلقة الوصل بين الأخير وقيادة الحزب الشيوعي، حين وقوع الانقلاب العسكري سنة 1953 ضد مصدق الوطني، الذي أمم صناعة النفط وحدد صلاحيات الملك.
حياة في المنفى
"مريم امرأة جديرة حقاً، كل ما لديها باعته شيئاً تلو شيء ومنحته للحزب. في فترة الحياة السرية تكفلت بمصاريف الحزب، وحين خرجت أنا من السجن، كانت مريم تصرف عليه، لأنني لم أكن أملك شيئاً."، يشرح نور الدين دور زوجته.
وبعد سبع سنوات من الحياة السرية، غادرت البلاد نحو روسيا، من ثم قطنت وزوجها في ألمانيا الشرقية، حتى أصبحت أستاذة اللغة الفرنسية في جامعة لايبتزغ بعدما نالت شهادة الدكتوراه في اللغة الفرنسية.
لم تتنازل عن مشروعها السياسي، واستمرت بنضالها من هناك، فكتبت الكثير من التقارير والمقالات في مجلات أوروبية وعملت في إذاعة إيرانية معارضة في المهجر، كما باتت عضوة في اللجنة المركزية وأصبح زوجها نورالدين أمين عام الحزب.
عودة غير محمودة
بعد انتصار الثورة الإيرانية ضد النظام الملكي عام 1979، وعودة جميع قوى المعارضة للبلاد، عادت مريم ونور الدين بعد غياب دام حوالى 23 سنة. وباشرت عملها الحزبي وأسست المنظمة الديمقراطية للمرأة الإيرانية وترأستها، وأطلقت مجلة "زنان جهان"، أي نساء العالم.
كانت تحث النساء على الحضور في المجتمع ونيل حقوقهن الاجتماعية والسياسية والدفاع عن الثورة الفتية بزعامة رجل الدين آية الله الخميني.
وبعد عملية تصفية الأجنحة السياسية المختلفة من قبل التيار الإسلامي، والسيطرة التامة على البلاد، تم حظر نشاط الحزب الشيوعي سنة 1982 أي بعد ثلاث سنوات من انتصار الثورة، بحجة العمل على انقلاب ضد الثورة.
اعتقلت مريم ذات السبعين سنة وزُجّ بها في السجن كما اعتقل زوجها، وبقيت هناك عشر سنوات، وتم تعذيبها بأشد الأساليب الممكنة الجسدية والنفسية، وتقول في فيلم وثائقي سجل في أواخر حياتها، إنها في السجن حفظت ثلث المصحف لكثرة تكرار قراءته، "وبهذا كنت أحتج على المحققين وضباط السجون الإسلاميين، وحاربت أفعالهم بآياتهم القرآنية".
في رسالة أرسلها نور الدين من زنزانته إلى علي خامنئي، المرشد الجديد للجمهورية الإسلامية بعد روح الله الخميني، يذكر تفاصيل تعذيبه وتعذيب زوجته وابنتهما. يقول عن مريم: "تعرضت زوجتي مريم للجلد حتى أنها وبعد سبع سنوات، ما زالت قدماها أثناء النوم تؤلمانها. كان هذا هو التعذيب (القانوني) الذي ينفذ مرفقاً بمختلف الإهانات والشتائم البذيئة (العاهرة ورئيسة العاهرات...)، كذلك أقدموا على صفعها وضربها على رأسها إلى أن فقدت السمع في أذنها اليسرى. أذكّرك بأنها كانت تبلغ من العمر 70 عاماً في ذلك الوقت".
تقول في فيلم وثائقي سجل في أواخر حياتها، إنها في السجن حفظت ثلث المصحف لكثرة تكرار قراءته، "وبهذا كنت أحتج على المحققين وضباط السجون الإسلاميين، وحاربت أفعالهم بآياتهم القرآنية"
برغم كل ذلك لم تتنازل عن معتقداتها ولم تشِ تحت الضغط بأحد من أفراد حزبها، لتبقى وفية للحزب. وبعد سنوات من السجن الانفرادي، أوصى الطبيب بأن تعالج فوراً، فخرجت من السجن للعلاج ثم بقيت مع زوجها تحت الإقامة الجبرية في منزل بطهران.
وبعد مضايقات كثيرة شهدها أعضاء الحزب وإعدام الكثير من الشيوعيين واعتقالهم وموت بعضهم تحت التعذيب، شاركت مريم وزوجها غدى بدء الحركة الإصلاحية مع عهد الرئيس محمد خاتمي، في الانتخابات ودعما الاصلاحات وتم تخفيف القيود عليهما.
توفي نور الدين عام 1999. وتوفيت مريم عن عمر ناهز 94 عاماً في طهران عام 2008. وفي فيلم وثائقي بث بعد وفاتها، سألها المخرج "أما زلتِ ملحدة؟"، فردّت "ليس من شأنك أن تسألني عن عقيدتي". وتقول في اللقطة النهائية من الفيلم "لست نادمة أبداً على طريقي الذي سلكته".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه