شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
نحن من بلاد المحبّة... لا الحرب والأزمات!

نحن من بلاد المحبّة... لا الحرب والأزمات!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والمشرّدون

الجمعة 23 فبراير 202401:27 م

يسافر الواحد منّا فتلحقه المحبّة ظلّاً من أدعية وكلمات، وأغانٍ وذكريات. يحاول الأحبّة تعويض لمس وجوه أحبّتهم عبر مكالمة فيديو أو رسالة صوتية أو إرسال صورة لمكان مفضَّل أو ربما عبر إرسال كمشة زعتر أخضر مع صديق مسافر أو قنينة من زيت الزيتون من نتاج القرية، وأحياناً رغيف خبز من فرن الحي. أرسلَتْ لي صديقة ذات يوم إلى الهند مشروب "3 بـ1" فقط لتوصل رسالةً مفادها أن الأحاديث بيننا كالتي كانت تدور في سوريا مع مشروبنا المفضل، لا تنقطع. كذلك، يعود الواحد منا فيستقبله الأحبّة الحقيقيون بالطريقة نفسها؛ عناق وقبلات، وأحاديث لا تنتهي وطبخات و و و إلخ. لا مكان للعتاب ولا وقت للجدال، الجميع مرهق يستهلك ما تبقّى من طاقته للتفكير في أصغر مفاصل الحياة. لا مكان للتخفّي بحجة الوضع. لا مكان لتفريغ الضغط الذي شكلته الغربة أو زيادة العقد التي فرضتها حالة البلاد المستعصية. هناك فقط فسحة صغيرة تُسمّى المحبّة ومهمة الجميع حمايتها قبل موت آخر أمل في أن الحياة هنا وهناك ممكنة.

تعوّدت قبل السفر أواخر عام 2019، ارتياد كل الأماكن والمطاعم مع صديق مقرب، وبعد عودتي صنع شاياً في منزله ودعاني لشربه على الكورنيش الغربي، ولم ينقطع أو يتأثر الود بيننا برغم ضيق الحال وتدهور الأوضاع. كانت المحبة تغمر الحديث والمكان دون أن نفكر في كل ما يحدث.

لا مكان للعتاب ولا وقت للجدال، الجميع مرهق يستهلك ما تبقّى من طاقته للتفكير في أصغر مفاصل الحياة. لا مكان للتخفّي بحجة الوضع. لا مكان لتفريغ الضغط الذي شكلته الغربة أو زيادة العقد التي فرضتها حالة البلاد المستعصية. هناك فقط فسحة صغيرة تُسمّى المحبّة

المحبة فعل مستمر بطبيعته، وهذه الاستمرارية أساس المحبة وجوهرها، لا يمكن أن أحبّك فقط وأنت بعيد أو أحبّك فقط وأنت قريب. لا يمكن أن أحبّك فقط إذا أمّنت سفرةً، أو أن أحبك فقط لأنك قررت البقاء. لا يمكن أن أحبّك فقط لأنك اتصلت حال وصولك أو أن أحبّك فقط لأنك قررت أن تكون آخر شخص في البلد يودّعني. أذكر قبل توجهي إلى مطار بيروت، أن صديقتي امتنعت عن عناقي بعد أن قطعت مئات الكيلومترات لوداعي، بسبب إصابتها بالزكام، إذ لا تريد نقل العدوى إليّ، مع أنه كان من الممكن أن تكون آخر مرة تقابلني فيها. كان همّها الوحيد أن أصل إلى وجهتي بصحة جيدة. المحبة الحقيقية تصل أكبر من أي تقاليد مرهِقة.

بعد نحو خمس سنوات على الغياب، تغيّر كل شيء! شاخت الوجوه والطرقات، تصدَّعت المنازل والقلوب، توقّفت الحياة والعجلات، احترقت الأراضي وتلوّعت الأرواح، ارتفعت الأسعار وضغط الدم، شابَت النواصي والآمال؛ وحدها المحبّة بقيَت، تكبُر، تسند، تربت، تحضن، وتهتف: حيّ على أهل هذه البلاد.

لا تزال المحبة مغروسةً في وجوه كل الذين قابلتهم بعد عودتي، العائلة والأصدقاء والمعارف والجيران، وحتى سائقي باصات النقل العامة وأصحاب البسطات. تغطّي تلك المحبة تجاعيد واضحة يستطيع أي شخص قراءة سببها: الظروف المعيشية الخانقة. يستحيل أن تقابل واحداً ويخلو حديثه من الغلاء وجنون الأسعار واستحالة الحياة وانعدام الخدمات وسوء شبكات الاتصالات والإنترنت؛ يتكلمون بكل عجز ثم يبتسمون ويقولون "نوَّرتنا"، مع نصف ساعة من التغذية الكهربائية فقط، في اليوم طبعاً.

بالنسبة لي، لم يختلف سوء الخدمات كثيراً. أذكر أنّي عشت فترةً كانت مدة تغذية الكهرباء فيها ربع ساعة مقابل خمس ساعات من الانقطاع في اليوم. لكني في صدمة منذ نحو شهر ونصف، بسبب الغلاء الفاحش مقابل رواتب لا تكفي لخمسة أيام في الشهر. الغريب في الأمر أنك في كل مرة تزور أحدهم فيها، يخترع أشياء للضيافة تغمرك بالمحبة نفسها التي كانت عندما كانوا يستطيعون تقديم ما لذّ وطاب. بدل المتّة هناك زهورات وملّيسة، وبدل القهوة هناك شاي، وبدل سندويش الشاورما هناك سندويشات الزعتر، وهناك الآلاف من الأمثلة، مثل تجهيز الشاي على القش والحطب بدل الغاز أو الكهرباء! نعم الحال وصل إلى هذا الحد وأكثر، لكن نكهة الشاي والأحاديث حافظت على جودتها بفضل المحبّة.

إذا قررت اللجوء إلى أحد مقاهي المدينة المخصصة للدراسة، والتي توفِّر الكهرباء والإنترنت، عليك أن تكون جاهزاً لدفع مبلغ لا يقلّ عن نصف مليون ليرة في الشهر، من دون أي مصاريف يومية أخرى، ومن دون حضور مناسبات أو الخروج مع أصدقائك أو حضور مناسبة عائلية أو مواجهة ظرف طارئ؛ الظرف الطارئ ممنوع. نعم عليك أن تكون حذراً إلى درجة ألا يحدث شيء طارئ! وإلا ستضطر إلى الاتصال عشرات المرات للاستدانة أو اللجوء إلى الفائدة والدخول في دوامة الدَين كما هو الحال مع معظم مَن أعرفهم.

بكل محبّة عرض صديقي غرفته للدراسة في منزله حيث تتوافر بطارية وأمبيرات على حساب راحته إلى حين قدرتي على ترتيب مكان مناسب. نعم المحبة قد توفر أشياء عصيّةً في بلاد لا تستطيع فيها التفكير في أبعد من تأمين لقمة اليوم. لم أملك شيئاً في هذه البلاد قط، لا منزلاً أو سيارةً أو أرضاً أو أصولاً. لم أملك ذهباً أو أموالاً ولا حتى دراجةً هوائيةً. كانت المحبة وحدها رصيدي الممتلئ وكنت في كل مرة أَميل فيها، أجد هذه المحبة سنداً ثابتاً.

هل تستطيع المحبة وحدها ترميم ما تهشّم في دواخلنا؟ لا أعلم. لكنّي أجزم أنها واحدة من أهم السمات التي تميّزنا، وبدلاً من أن يصفونا في نشرات الأخبار والسفارات بأننا من "بلاد الحرب والأزمات"، عليهم أن يستبدلوها "ببلاد المحبّة"، ومن ثمّ فليسردوا ما يشاؤون

أٌدرِك أنَّ زمناً جميلاً قد انتهى، كالذي كان يتحدث عنه أجدادنا ويتحسّرون عليه، من عقلانية الأسعار وإمكانية الحصول على معظم متطلبات الحياة من منزل وسيارة ودفء. كنا نضحك في سرّنا ونقول: أي زمان هذا الذي انتهى ويتحدثون عنه؟ لكني اليوم عرفته وكأننا نعود إلى الخلف. اليوم نسي الجميع المقارنة حتى بما قبل الأزمة، ونَسوا التفكير في ما قد يكون الحل، والحسرة تكاد تكفي على حال السنة الفائتة. ثمة شيء مفقود في بحّة أصواتهم ونظرات عيونهم. ربما هو الأمل، لقد فقدوا الأمل! لكنّ المحبة موجودة.

لم تتأثر المحبة بالعلاقات عبر الإنترنت، ولم تختلف عن العلاقات وجهاً لوجه، بشرط أن يكونا الطرفان حقيقيَين وأن تكون هناك على الأقل رغبة متبادلة في اللقاء مهما طال موعده أو تعثّر. قطَعت إحدى الصديقات مسافة ثلاث ساعات ونصف لنلتقي ساعتين في اللاذقية، ثم عادت مسافة ثلاث ساعات ونصف، وكنت قد تعرفت إليها عبر الإنترنت ولم يتغير شيء في أحاديثنا. كل حجج قطع العلاقات أو فتورها بسبب البعد كانت واهيةً. لا تصدّقوا عبارة "بعيد عن العين بعيد عن القلب"، فهي كذبة سمجة اخترعها أحدهم ليبرر فعلاً ما. لو أنّها غير ذلك، فلماذا لم ينقطع تواصلي مع بعض الأصدقاء يوماً واحداً! ولماذا لم أنسَ واحداً منهم أو أُنسى من قبل أحدهم؟ لماذا استمرت العلاقات وازدادت قوّتها؟

قابلت في الهند مئات الناس من عشرات الجنسيات والثقافات من الهند نفسها والدول المحيطة بها ومن بلاد عربية وإفريقية وآسيوية وأوروبية. لم ألمس محبّةً ورغبةً في المساعدة كالتي في قلوب السوريين، ولا أزايد هنا طبعاً. في كل جلسة لطلاب دوليين في الجامعات الهندية، كان السوري/ ة يُضفي محبةً خاصةً على الجلسة، ويترك أثراً إيجابياً في نفوس جميع الحاضرين. لكن في الوقت نفسه لم أجد قهراً على أحوالهم وغصّةً على ظروف أهاليهم وأحبّتهم كالتي في ذواتهم.

هل تستطيع المحبة وحدها ترميم ما تهشّم في دواخلنا؟ لا أعلم. لكنّي أجزم أنها واحدة من أهم السمات التي تميّزنا، وبدلاً من أن يصفونا في نشرات الأخبار والسفارات بأننا من "بلاد الحرب والأزمات"، عليهم أن يستبدلوها "ببلاد المحبّة"، ومن ثمّ فليسردوا ما يشاؤون من تقارير صحافية وقرارات رفض وقبول وأفلام ووثائقيات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard