كانت صديقتي تجلس بجانبي على الكنبة، في غرفة معيشتي، سويةً نراقب النافذة أمامنا، شاردتين نتأمّل الرياح التي تحمل معها أوراق الأشجار وأحلامنا.
بعد لحظة صمت طويلة، شبيهة بحلم دافئ قطع مسيرة الأفكار الوحشية، اقترحت عليها أن نلعب لعبة الأسئلة ولكن بنسخة مبتكرة نضع قواعدها بمزاجنا، لربما نتجاوز بها حالة العدمية التي بدأت تتسرّب إلينا.
وافقت صديقتي على اللعبة، ولكنها لم توافق على الجهد الذي يتطلّبه اختراع قواعد جديدة لها.
في الحقيقة، كنت قد اخترعت قواعد للعبة حتى قبل اقتراحها، فأردفتُ مسرعة قبل أن تغيّر صديقتي رأيها: "كل منا ستطرح خمسة أسئلة، على أن يرتبط كل سؤال منها بحاسة من الحواس الخمس: النظر، السمع، الشم، التذوق واللمس".
للحظة كدت أنسى أننا نملك حاسة اللمس. كل الحواس الأخرى مرتبطة بعضو واحد محدّد في الجسم. العينان، الأذنان، الأنف واللسان، وكلها في الوجه إلا اللمس. كيف أنسى اللمس وهو ممتد على الجسد بأكمله؟ يمكنك أن تلمس الأرض بجبينك والمخدة بخدك وحافة المطبخ بكرشك وقدم الطاولة المؤلم بإصبع قدمك. يمكنك أن تلمس يدك اليسرى بيدك اليمنى.
لعنة البلدان التي أتينا منها هي حرماننا من اللمس. لن أسرد كافة الطرق التي حرمونا بها من اللمس، لن أتكلم عن القواعد الاجتماعية المتشدّدة، لن أتكلم عن الاعتقالات، لن أتكلم عن القصف والقتل والحروب والطائرات والتهجير والحدود وجوازات السفر
اللمس هو أول حاسة نواجه بها العالم وآخر حاسة تتركنا عند اقترابنا من حافة الموت. كتبت مارجريت أتوود في روايتها "القاتل الأعمى": "اللمس يأتي قبل البصر، قبل الكلام. إنها اللغة الأولى والأخيرة، وهي دائماً ما تقول الحقيقة".
ما أصعب أن ترغب بلمس أحدهم وتدرك أنه لم يعد حياً. أفكّر بهذا وأذكر موتانا. كيف رحلوا؟ ماذا كانت ظروف رحيلهم؟ كيف خسرنا كل هؤلاء ونحن مازلنا لم نتجاوز ثلث عمرنا بعد؟ بعضنا لم يتجاوز ربع عمره، بعضنا ولد للتو، خاسراً الجسد الذي خرج منه. بعضنا لم تسنح له الفرصة حتى بلمسة الأم.
لعنة البلدان التي أتينا منها هي حرماننا من اللمس. لن أسرد كافة الطرق التي حرمونا بها من اللمس، لن أتكلم عن القواعد الاجتماعية المتشدّدة، لن أتكلم عن الاعتقالات، لن أتكلم عن القصف والقتل والحروب والطائرات والتهجير والحدود وجوازات السفر وبرودة دمهم في الغربة وحرق الأعصاب في الأوطان.
فقدت الأمل وبدأت بالبحث عن حاسة أخرى تعوضنا عن حاسة اللمس. الحاسة السادسة.
يقترح البعض بأن الحاسة السادسة هي الشعور بالحالة الداخلية لجسمنا. الإحساس إذن هو حاستنا السادسة.
بماذا أحس أنا في هذه اللحظة؟ أبحث عن كلمة تصف هذا الشعور. بقيت ليلتي كلها أشاهد الفيديوهات المؤلمة، المشاهد المريرة والأخبار التعيسة، باحثةً عن كلمة أصف فيها كل هذا. لم أجد. استسلمت للنوم رغماً عني. جاءتني كلمتي في الحلم. إنها الرابوص.
وهو ما يسمى أيضاً بالجاثوم أو شلل النوم، وتعريفه على "ويكيبيديا" هو التالي:
"شلل النوم هو خروج الإنسان من مرحلة النوم الحالم إلى مراحل النوم غير الحالم، ومن ثم الاستيقاظ والوعي بما حوله، إلا أنه - خلافاً لما هو طبيعي - لا يمكن للإنسان هنا التخلص من خاصية الارتخاء العضلي الكامل التي تميز النوم الحالم، ما يؤدي إلى الشعور بالتوتر والرعب الشديدين، نتيجة لرؤية بعض الأطياف المزعجة، والإحساس بالعجز والاختناق وعدم القدرة على الكلام والحركة، وكأن شعور الشخص يشابه حالة الاحتضار".
حين بدأ الرابوص، أدركت خلاله أني على سريري وفي غرفتي، أرى كل شيء بألوان قاتمة وضوء خافت. أنا مشلولة وغير قادرة أبداً على الحراك، ولا حتى على الالتفاف برأسي كي أرى هذا الطيف الذي يتحكّم بي ويرعبني.
رماني الطيف من سريري بقوة تشبه الرياح العاتية، اصطدمت بالحائط إلى جانب الشباك، رماني ثانية فوقعت على الأرض إلى جانب الخزانة، في وضعية تشبه وضعية الجنين. جنين مشلول وغير قادر على الكلام. شعرت هنا بما يصفونه بالاحتضار. كنت أحتضر من الرعب، محرومة حتى من الحشرجة.
ما زالوا إلى اليوم يعبثون بحواسنا الخمس ويجبروننا على خسارتها، لكنهم كيف سيقضون على حاستنا السادسة؟ كيف سيقدرون على إحساسنا؟ نحن الذين حمينا الإحساس هذا كالطفل في أحشائنا، تخلينا عن كل شيء، ومازلنا إلى اليوم نتمسّك بإنسانيتنا
صدقاً، في تلك اللحظة تحديداً وقبل أن أموت في رابوصي هذا بثانية، قلت لنفسي: إن كان الفلسطينيون قادرين على مقاومة كل هذا الذي حصل ويحصل، لا بد أنني أستطيع أنا أيضاً أن أقاوم هذا الطيف وهذا الرابوص اللعين. ما إن أنهيت جملتي هذه حتى استيقظت. فتحت فلسطين عينيّ على يوم جديد. أنا سورية المنشأ والألم والتاريخ، غفوت مع فلسطين واستيقظت معها، تمنيت للحظة لو لم أحرم أنا أيضاً من النوم في بلدي، ومن الاستيقاظ فيه.
ما زالوا إلى اليوم يعبثون بحواسنا الخمس ويجبروننا على خسارتها، لكنهم كيف سيقضون على حاستنا السادسة؟ كيف سيقدرون على إحساسنا؟ نحن الذين حمينا الإحساس هذا كالطفل في أحشائنا، تخلينا عن كل شيء، ومازلنا إلى اليوم نتمسّك بإنسانيتنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...