أحفظ قلب دمشق عن ظهر قلب، ما إن أصادف صورة لها وأنا أتصفّح فيسبوك حتى أحدّد المكان بدقة، حتى لو كان ما يظهر في الصورة تفصيل أو زاوية شارع لا يكشف الفضاء الكامل، وعلى الفور تنتقل بي الذاكرة إلى ذلك المكان، لأستحضر مواقف وأشخاصاً وتفاصيل مرّت عليه خلال سنين حياتي، أشخاص جمعتني بهم لحظة زمن ثم افترقنا، إما بالموت أو السفر. مؤلم أن تكون ذاكرتك ممتلئة بالغياب إلى هذا الحد، أليس كذلك؟
علاقتي بدمشق قد تبدو غريبة، فمشاعري تجاهها تتراوح بين الحب لأقصاه والكره لأقصاه أيضاً. سافرت كثيراً خلال السنوات الماضية ودائماً كنت أعود بشوق، وأفتقد إحساس الطمأنينة الذي يلفّني فيها. أجل طمأنينة رغم القذائف والقصف والتفجيرات والموت والفقدان وانقطاع الكهرباء، رغم الغارات الإسرائيلية المتواصلة، وحتى رغم الزلزال، كنت أشعر أنني يجب أن أكون هنا، معها، وكيف لي أن أتركها تجرّب كل ذلك الألم وحدها؟
في حقيبة سفري، إضافة إلى أغراضي، كنت أدسّ قطرميزاً صغيراً بين الملابس كيلا ينكسر، يشبه علبة البهارات الزجاجية، داخله ذاكرة ممتلئة بالصور والروائح، وأطوي كوابيسي اليومية أيضاً، وأفردها على جميع الأسرّة التي نمت عليها فلا أشعر بالغربة، وأتجاوز الوزن المسموح به في المطارات وأجهزة التفتيش التي تمنع حمل ذواكر ثقيلة غير مصرّح عنها، وقد تشكل خطورة على المسافرين الآخرين.
لكني كنت أرتبك من الأسئلة التي تواجهني بعد عودتي من كل سفرة: "لماذا عدتِ طالما تستطيعين الخروج من هذا السجن؟ لمَ لم تبقي هناك؟".
هكذا أعود كل مرة، لكن إلى بلد لا يحبني، ولا ينتظر عودتي سوى لتقاضي المئة دولار ضريبة العودة لحضنه. وإن لم تحبنا بلداننا فمن سيحبنا؟ من سيمنحنا ذلك الإحساس بالأمان الذي يجعلنا نمتلك الكون بأكمله، ونشعر بفرادتنا وبذواتنا كسوريين؟
الحقيقة لا أعرف بالضبط لماذا، ربما لأنني أخاف الخوض في تجربة انفصال جديدة؟ ربما لأني أرتعب من ألم قصّ جذوري؟ وربما لأنني أجبن من أن أبني ذاكرة جديدة في مكان لا يشبهني؟ أو لأنني لا أستطيع محو ذاكرتي، وأدرك تماماً أنها ستمنعني من العيش في المكان الجديد بسلام؟
أفكر دائماً بما يعنيه "الوطن"، وأخترع له مفاهيم جديدة في كل مرّة، مفاهيم على مقاسي، وليس كما علّمونا في المدرسة فظللنا مخدوعين به سنيناً طوال، لا الأرض تحدّده ولا الجغرافيا ولا حتى اللغة ولا البيت.
كم كانت سوريا جميلة يا الله، كم كانت جميلة
مؤخراً أضفت إلى قائمة مفاهيمي عن الوطن بأنه في الناس الذين نحبهم فنتحرّق دائماً للعودة كي نراهم، ولكن كم ظل من هؤلاء الناس "هنا"، أقصد في هذا الوطن الافتراضي؟ أتواصل مع معظم أصدقائي حين أكون "هنا" على واتساب، تزدحم ذاكرة هاتفي بالأرقام الهولندية والألمانية والإماراتية واللبنانية، أما الأرقام السورية فخاصة فقط بمن أحتاجهم لأواصل العيش بشكل أقرب إلى الطبيعي، أبو عبدو غاز، أبو إيهاب صحية، أبو ياسر كهربا، أبو فلان انفيرتر وغيرهم، كلهم مجتمعون في قائمة حرف الألف، بالمناسبة لدي أيضاً رقم أبو حيدر فرع الخطيب، احتفظت به كي لا أردّ في حال اتصل.
لكن، إن ذهب من بقي ممن نحب، فماذا سيبقى من هذا الوطن؟
إذن هل هو ذلك المكان الذي نحسّ بالأمان فيه؟ ربما، وربما لا.. بحسب تعريفنا للأمان الذي نحتاجه، فأنا حتى إن سافرت لا أشعر بالأمان وأتوتر لأن قلبي بقي "هناك".
ما الحل إذن مع كل هذا الحنين والشوق والمشاعر المتضاربة؟ أيعقل حقاً عدم وجود حلّ لمتلازمة ستوكهولم السورية هذه؟
منذ سنوات لم أر دمشق من الجو. كان إحساساً غريباً، فقد اعتدت السفر عبر مطار بيروت لسنوات، بل هو ليس اعتياداً ولا خياراً بل واقع أجبر عليه السوريون القادرون على السفر خلال سنوات الجمر. أنظر بذهول إلى الأرض اليابسة تحتي والتضاريس الصحراوية ورغم ذلك أحسّها جميلة وغريبة جداً في نفس الوقت، ربما حزينة أكثر من اللازم، وربما مشتاقة للماء والمطر، والحب الذي ظلت تنتظره حتى يبست.
كنت سعيدة كطفلة صغيرة أن هناك من ينتظرني في المطار قلقاً ويبحث عني بعينيه بين المسافرين. عكس الإحساس الذي يراودني في مطار بيروت، فلا أحد ينتظرني هناك سوى السائق الذي يحمل ورقة باسمي.
تزدحم ذاكرة هاتفي بالأرقام الهولندية والألمانية والإماراتية واللبنانية، أما الأرقام السورية فخاصة فقط بمن أحتاجهم لأواصل العيش بشكل أقرب إلى الطبيعي، أبو عبدو غاز، أبو إيهاب صحية، أبو ياسر كهربا، أبو فلان انفيرتر
جميل أن تعود لمكان ينتظر عودتك فيه أحد.
بالمناسبة، بيروت من الجو أجمل من دمشق بكثير، تستلقي بكامل بهائها على الشاطئ، بعشوائياتها وأبنيتها الفخمة. لا أستطيع إلا أن أقارن المدن، وأحزن عليها وأصبّح عليها أيضاً حين أتنفّس هواءها.
العلاقة مع المدن الأخرى والبلدان التي زرتها أجبرتني على أن أكتشف نفسي أكثر، أكتشف مشاعري وأقوم بالمقارنات، هل أستطيع العيش هناك مثلاً أو لا؟ إذن ما الذي يربطني ببلد لم يعد يحبني، مثل الحبيب الذي وثقت فيه لكنه تخلى عنك في أكثر وقت حرج تحتاجه فيه، فأحسست كأنك معلق على غيمة تحركها الريح، لا تحس بالأرض والثبات والأمان تحت قدميك؟
إذن، لم أعذب نفسي وأتعلّق ببلد لا يتعلّق بي؟ أما آن الوقت لأقصّ هذا الخيط الرفيع؟ لكن يدي لا تساعدني وأشعر بسذاجة أن علي أن أعطيه فرصة ثانية وثالثة ورابعة، وأظلّ أمسك المقصّ في يدي إلى أن يصدأ، لا أقصّ ولا آخذ القرار.
في البلدان التي سافرت إليها التقيت بسوريين كثر، كلهم تركوا قلوبهم "هنا"، يشتاقون ويحنوّن، كوابيسهم مطوية في حقائب سفرهم التي أتوا بها، يفردونها كل ليلة كملاءات سرير معطرة برائحة سوريا في بهائها وخرابها وينامون.
أشعر بقليل من الارتياح أنني لست وحدي، كثر مثلي، نبحث عن استقرار وأمان لا نجده أينما كنا، كلنا نحمل سوريا داخلنا، نداريها بقلوبنا ونغلق أضلعنا عليها حتى لو آلمتنا. يؤلمني أن هذا الوطن أغلق أبوابه أمامنا وخاننا، أكل الذكريات من جوعه وقصف طريق العودة.
كم كانت سوريا جميلة يا الله، كم كانت جميلة.
وهكذا أعود كل مرة، لكن إلى بلد لا يحبني، ولا ينتظر عودتي سوى لتقاضي المئة دولار ضريبة العودة لحضنه. وإن لم تحبنا بلداننا فمن سيحبنا؟ من سيمنحنا ذلك الإحساس بالأمان الذي يجعلنا نمتلك الكون بأكمله، ونشعر بفرادتنا وبذواتنا كسوريين؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...