يتردد كثيراً، وفي أوقات متقاربة، كلام معلقين صحافيين وسياسيين وعسكريين، في صدد حوادث صغيرة وكبيرة، على استعادة الردع أو على فقدانه وتردّيه. ويتناول هذا الكلام، عادة أو غالباً، دولاً تملك جيوشاً قوية وعدوانية، وتتوسل بالعمل العسكري إلى غاياتها السياسية، أي السيطرة على عدوها، أو خصمها أو حليفها المتلكئ أو المتحفظ. والدولتان اللتان يُنسب إليهما عامل الردع، ويفسر به نهجهما العسكري، هما الولايات المتحدة وإسرائيل. وأجمع المعلقون، على أصنافهم واختصاصاتهم، على حمل الجواب الإسرائيلي عن "طوفان (حماس)"، وإفراط عنفه، على إبطاله أو ضربه الردع الإسرائيلي.
ويترتب على الإبطال انهيار "الدولة العبرية"، أو اضطرارها إلى شن حروب دفاعية متوالية ومتصلة، رداً على أعداء لا يهابون قتالها المثلوم والمفلول، على خلاف مديح النابغة الذبياني. أي إلى خسارتها الردع الذي يحول دون المبادرة إلى الحرب، أو الرد عليها، خشية ثمنها، أو يوقفها قبل تفاقم أثمانها، أو يرجئها إلى حين إرساء "التوازن الاستراتيجي"، يوم كان حلماً يراود سياسات عربية ماهرة وقاصرة معاً. أي يترتب على خسارة الردع الانهيار كذلك، بعد حين وجراء الحروب التي توقف العدو على قدم واحدة، وتتناوب عليها بين الساحات المتضافرة على إشعال نزاعات استنزاف منسقة تدعمها خطوط خلفية منيعة.
والحق أن رَوْز المقدار الكافي من الردع، أو تقديره، أمر صعب. فهو يفترض معرفة دقيقة بعوامل يمكن قياسها، مثل أنواع السلاح، وعدد المقاتلين، وطبيعة مسرح العمليات، وخطط العدو، وربما علاقة المقاتلين بالجمهور، أو الحاضنة السياسية والاجتماعية، رغم دقة هذا الصنف من المعرفة. لكنه يفترض معرفة بعوامل معنوية تعصى التقدير أو القياس أو تنشأ عن شن الحرب.
وآخر مثل، مدوٍّ، على هذا هو انهيار هجوم جيش الرئيس الروسي على كييف، العاصمة الأوكرانية، في الأسبوع الأول من عمليات الغزو قبل سنتين. فسرعان ما أدرك الأوكرانيون ضعف التنسيق بين القطعات والأسلحة والمرافق (بين الدروع وبين التموين، بين سلاح المدفعية وبين المشاة...)، وكبّدوا القوات الزاحفة على العاصمة خسائر ثقيلة أوقفت زحفها، قبل أن تردها على أعقابها على جبهتي الشرق والجنوب. ولم يستبق الأوكرانيون لجوء الروس إلى تحصين دفاعاتهم العميقة على نحو شل الهجوم الأوكراني، وكبده خسائر ثقيلة. ولا استبقوا صدوع الجنود الروس والمجتمع الروسي من ورائهم، بخسائر بشرية تقارن بقتلى الحرب الأولى العسكريين في الخنادق الثابتة.
حين يتناول إسرائيليون معاصرون التأريخ لقومهم، ولمراحل استيطانهم فلسطين، ولما تخلل هذه المراحل من أفكار وأساطير وخلافات، تغلب على هذا التأريخ صورة الانقطاع والجدة. حملت الحركات الجماعية اليهودية، في أوروبا حيث كان معظم اليهود يقيمون، يقظتها على مسألتها، أو قلقها واضطراب علاقتها بعصرها وجوارها وماضيها، على التخفف من "جلد الإنسان القديم"، وتبديله بجلد جديد
واحتسب ردّ الإسرائيليين على العملية الحمساوية ضعف الجدوى من تكبيد "حركة المقاومة الإسلامية"، وأنصارها وجمهورها أو "ناسها"، عدداً كبيراً من القتلى، بالآلاف (كانت تكلفة الانتفاضة الثانية، 2000- 2005، الفلسطينية 3500 قتيل لقاء ألف قتيل إسرائيلي)، ودماراً مثله في المباني والمرافق التحتية والأساسية. فحرب "حماس"، بعد هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر المختلط (العسكري والمدني)، تجاوزت العملية إلى تعبئة الموارد تعبئة شاملة و"كلية"، على قول الجنرال الألماني إريك لينديندورف (1865- 1939).
أصول الهوية
ومن هذه الموارد الهوية التاريخية التي يتماسك بها شعب من الشعوب، ويستمدها (أو منها) المعاني التي يبني بها صروحه، أي دولته ومجتمعه ومواثيقه أو قوانينه الأساسية، ويتعهّد دوامها وتجددها. وعلى هذا، وصل الطرفان حربهما، منذ اليوم الأول، بأصول هويتيهما.
فاستصرخ يحيى السنوار – قائد "حماس" في معقلها، ومهندس عمارتها العسكرية (جسم المقاتلين وشبكة الأنفاق) والسياسية والديبلوماسية (الرهائن و"وحدة الساحات" والحلف الإيراني)- الأمة فرداً فرداً، وناشدها إخراج البنادق والمسدسات والعصي والحجارة، والقتال والقتل بها. وعلى رغم سعي السنوار نفسه، في أثناء السنوات الست التي تولى في أثنائها قيادة "حماس" الداخلية، في "توطين" الإسلام الفلسطيني وحمَلَ مرجِعَ حركته الإسلامي على وطنية جامعة، بعث نداؤه الأول الوتر الإسلامي الحاد، ورفع لواء المسجد الأقصى فوق ميدان حربه.
وحمل إسرائيليون كثر، وحكومتهم أولاً، الهجوم على فصل متأخر من فصول المحرقة، أي إبادة اليهود النازية، واعتقالاتها الجماعية البوليسية العزَّل، ومعسكراتها المجمّعة، وغازاتها الصناعية القاتلة. وكأن الهجوم لم يستهدف دولة قائمة محتلة و"شعباً مسلحاً"، منذ ثمانية عقود، على ما نبه إسرائيليون وغير إسرائيليين كثر.
وعدد القتلى المدنيين الكبير- على رغم "هذه روايتنا... لماذا طوفان الأقصى؟" (المكتب الإعلامي، حركة المقاومة الإسلامية، حماس، في نحو 20/1/2024)- لم يحرك، لبعض الوقت، ذاكرة المحرقة التلقائية، بسبب الشبه المجرد وحده. فهذه الذاكرة لا تتحدر من الواقعة التاريخية المروعة على حدة، وحيث حصلت. فثمة مصدر داخلي، إسرائيلي، للتشبيه ببعض فصول المحرقة، ولبعث ذاكرتها. ولهذا المصدر معانٍ سياسية واجتماعية متنازعة، وحية، تتناول وقائع ووجوهاً مهمة من نشأة الدولة والمجتمع اليهوديين والإسرائيليين. وقد يكون للمصدر الداخلي هذا دور في الجموح الحاد إلى العنف، لا يقتصر تعليله على "استرداد الردع".
مثالات يهودية وإسرائيلية...
حين يتناول إسرائيليون معاصرون التأريخ لقومهم، ولمراحل استيطانهم فلسطين، ولما تخلل هذه المراحل من أفكار وأساطير وخلافات، تغلب على هذا التأريخ صورة الانقطاع والجدة. وعلى شاكلة الثورة على الماضي، وعلى أركان النظام القديم التي تتيح له- على رغم "فواته"، على قول ياسين الحافظ (1930- 1978)، و "تأخر" قدراته وتصوراته عن استجابة حاجات المجتمع الراهنة- الدوامَ. حملت الحركات الجماعية اليهودية، في أوروبا حيث كان معظم اليهود يقيمون، يقظتها على مسألتها، أو قلقها واضطراب علاقتها بعصرها وجوارها وماضيها، على التخفف من "جلد الإنسان القديم"، وتبديله بجلد جديد.
وماشت حركة "الأنوار اليهودية" (الهاسكالا)، في القرن الثامن عشر الأوروبي، النازع التنويري المعاصر إلى وصم الماضي كله، الاجتماعي والسياسي والثقافي والديني، بالظلامية والعقم والانكفاء والقصور. وبدت دواعي هذه الحركة إلى الثورة على التراث اليهودي، الاجتماعي والديني على وجه الخصوص، وفي شرق أوروبا وأريافها (في روسيا وأوكرانيا وليتوانيا وبولندا)، أقوى من دواعي الحركات الأوروبية الأولى أو الأصلية. وكانت صورة "اليهودي الجديد" في مرآة هذه الحركة، وفي مرآة الحركة الصهيونية التي خلفتها أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ثم في أطوار الهجرات والاستيطان والاستيلاء والاستقرار اللاحقة، إلى أواخر القرن العشرين- دليلاً بارزاً على مضمون العلاقة بالماضي، ووجهة تغييرها المنشودة.
وفي الفصل الذي عقدته المؤرخة الإسرائيلية، أنيتا شابيرا (1940)، في كتابها مخيال إسرائيل- تاريخ ثقافة سياسية (الترجمة الفرنسية، 2005، كالمان- ليفي)، لما سمته "أسطورة اليهودي الجديد"، تناولت المثالات المتفرقة التي حكمت بناء الأسطورة، وملابسات بنائها، وأحوال بُناتها ومقاصدهم. وعلى خلاف صورة السعي في بعث الماضي اليهودي في عصر الهيكلين- وهو سعي اضطلع به، ويضطلع تيار قلةٍ من اليهود الإسرائيليين وغير الإسرائيليين- أصلى التيار الصهيوني الرئيسي التراث اليهودي التقليدي، وعلى الأخص أهل هذا التراث المعاصرين، واجتماعهم وسننهم، أواخر القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين والمحرقة جزؤه الراجح- النقد المرّ.
فنعى التيار الذي تصنّفه شابيرا ثانياً، ورائداه رغم اختلافهما، هما أحاد هُعام (1856- 1927) وثيودور هرتزل (1860- 1904) على الجمهور اليهودي في الشتات ضعف "عقلانيته" وصدوفه عن الإيمان بالتقدم. وبينما حرص الأول على الجمع بين العالم الروحي اليهودي وبين الليبرالية الحضارية- وتابعه على رأيه أنصار "الفصل الديموقراطي" من السياسيين، على شاكلة حاييم وايزمان (1874- 1952)-، صدر أعلام التيار الثاني، هرتزل نفسه وماكس نوردو وجابوتينسكي ("شيخ" الليكود، ونتانياهو على وجه خاص)...، عن الثقافة الغربية. وقدموا، على غيرها، قيم الكرامة الشخصية، والشرف القومي، والشجاعة في صيغتها الفردية والجسدية. وهي قيم لم يعرها أنصار التراث اليهودي، وقبلهم التنويريون المثقفون ودعاة الاندماج في المجتمعات الوطنية والقومية الأوروبية، انتباهاً أو اعتباراً.
ويضمر دعاة التيار الهرتزلي، المركزي تاريخياً ودوراً، رأياً قاسياً في أهل المجتمعات اليهودية المعاصرة، وفيما ينبغي أن تتخفف هذه منه إذا شاءت "العودة" من "المنفى" والشتات، وإرساء كيان يهودي خالص ومتجدد. فيهود المجتمعات الأوروبية، في مرآة الدعاة الهرتزليين، يفتقرون إلى القيم التي لا غنى للشعب عنها إذا شاء الاستواء أمة- دولة، على المثال الأوروبي، فكيف إذا طمح إلى تبوؤ مكانة رائدة، على ما حسب وأمل هؤلاء الدعاة، فهم، عامة اليهود، خانعون، وجبناء، وكسالى. ويقدمون السلامة على الانتصار لحقوقهم. وتنقصهم الأناقة، على المعنى المتعارف والعادي، والرهافة، وينقصهم حس الجمال وتذوقه.
يضمر دعاة التيار الهرتزلي، المركزي تاريخياً ودوراً، رأياً قاسياً في أهل المجتمعات اليهودية المعاصرة، وفيما ينبغي أن تتخفف هذه منه إذا شاءت "العودة" من "المنفى" والشتات، وإرساء كيان يهودي خالص ومتجدد. فيهود المجتمعات الأوروبية، في مرآة الدعاة الهرتزليين، يفتقرون إلى القيم التي لا غنى للشعب عنها إذا شاء الاستواء أمة- دولة، على المثال الأوروبي
هرتزل ونيتشه
ويضمر دعاة التيار الهرتزلي، المركزي تاريخياً ودوراً، رأياً قاسياً في أهل المجتمعات اليهودية المعاصرة، وفيما ينبغي أن تتخفف هذه منه إذا شاءت "العودة" من "المنفى" والشتات، وإرساء كيان يهودي خالص ومتجدد. فيهود المجتمعات الأوروبية، في مرآة الدعاة الهرتزليين، يفتقرون إلى القيم التي لا غنى للشعب عنها إذا شاء الاستواء أمة- دولة، على المثال الأوروبي، فكيف إذا طمح إلى تبوؤ مكانة رائدة، على ما حسب وأمل هؤلاء الدعاة، فهم، عامة اليهود، خانعون، وجبناء، وكسالى. ويقدمون السلامة على الانتصار لحقوقهم. وتنقصهم الأناقة، على المعنى المتعارف والعادي، والرهافة، وينقصهم حس الجمال وتذوقه.
وعلى النقيض من اليهودي الذي نشأ وشب في مجتمعات الشتات، وأورثته هذه الضعفَ والتسليمَ والتقوقعَ، ينتصب اليهودي الجديد، الذي شب على "أرض الأجداد" القديمة، فتيًا وقوياً، جسداً وروحاً، أنيقَ المظهر والمسلك، مستقيماً ومتسامحاً، شجاعاً ومتأهباً للدفاع عن شرفه، وخصوصيتُه ومناعتُه فرع على أصل هويته القومية، وعلى دولة هذه الهوية.
وتُلاحظ أنيتا شابيرا أن ضعف معرفة هرتزل بالشعب اليهودي، بتراثه الثقافي والحضاري وبمجتمعاته، هو السبب في الفرق الكبير بين المثال الذي يرسمه وبين "الطبيعة الذاتية للحركة القومية اليهودية"، أي يهوديتها، رغم أن مرجع تعريف الجماعات التي تتوجه دعوته عليها هو ديانتها القومية. ولكن الفجوة بين المثال السياسي المرجو، الليبرالي الأوروبي، وبين التعريف التاريخي، سمة مشتركة بين هذه الحركات. وليس المثال الهرتزلي أكثرَ المثالات تطرفاً في توسيع الفجوة هذه، وفي اطراح المرجع التاريخي.
فالمثال الثالث الذي تسميه المؤرخة المثال الحيوي (فيتاليست) النيتشوي، وهو أوسعها صدى وأعرضها والغالب بين المثالات، نقل المناقشة من العمومية الجامعة والعقلانية إلى الخصوصية والأصالة الأسطوريتين، ورجح كفة التلقائية الفردية، وتحديها روابط الماضي. ومجّد هذا المثال المجابهة الخالصة، ورآها غاية في نفسها وعبارة عن إرادة قوة جامحة. وفكها من السعي في إنشاء عالم جديد. وثار على صورة الشعب المُجتَمِعِ على التوراة، جيلاً بعد جيل، وناقضها بتاريخ قومي مليء بالانشقاقات والنزاعات والخلافات.
وبعث أحد وجوه هذا التيار شاوول تشيرنيخوفسكي (1875- 1943) آبولون اليوناني، إله الحياة والبطولة والجمال، ورفعه فوق "الآلهة" الأخرى. وخلص منه إلى مديح العنف والحرب والقوة، وأصدر هذه عن نازع حيوي ورجولي، وأوكل إلى "اليهودي الجديد" تجسيد هذه "الفضائل". وسخر ميشا بيرديتشيفسكي (1865- 1921) رائد المثال النيتشوي- من الذين يحسبون أن الحصول على وطن ودولة قد يجيء من طريق الديبلوماسية أو العمل السياسي والاجتماعي المنظّم. وديفيد بن غوريون هو أحد مؤسسي هذا التيار وحزبه، "حزب الوحدة والعمل" سلف حزب الماباي الذي حكم إسرائيل إلى أواخر العقد الثامن (1977) من القرن العشرين.
مسألة المحرقة
وشارك جمهور المثال الرابع، الاشتراكي- ومعظم هذا الجمهور تحدّر من روسيا القيصرية ثم السوفياتية، واعتنق الإرادوية الشعبوية، وقارن بين الثورة البلشفية، وبناء الاتحاد السوفياتي الملحمي، وبين الحرب التي ولدت الدولة العبرية- جمهور المثال الثالث، الحيوي والنيتشوي معظم قيمه، رغم التباس تنديد المثال الاشتراكي بالروح العسكرية، ودعوته إلى التضامن الأممي. ومن المسائل التي أجمع عليها أصحاب المثالين ازدراء يهود الشتات.
ويعزو بعض المؤرخين الإسرائيليين إغفال المحرقة في السنوات الثلاثة عشر التي أعقبت قيام إسرائيل، أي إلى حين محاكمة آيخمان في 1961، إلى الازدراء هذا. وإلى عشية حرب 5 حزيران/ يونيو (1967)، واختبار الإسرائيليين الخوف والقلق من جواز أو احتمال القضاء على كيانهم الاجتماعي والسياسي، نسب المولودون في إسرائيل، أو جيل "الصابرة"، على ما يسمَّون، وموشي دايان أحد أبرز رموزهم، الضعف اليهودي، التقليدي، إلى تربية الشتات ومجتمعاته. وحملوا المحرقة، وامتثال يهود أوروبا إلى التوقيف، والتفريق، والاعتقال، والسوق إلى المعتقلات، وعمل السخرة، والفرز، والقتل- حملوا هذه على اخلاق الغيتو والشتات.
فأظهر "زلزال" 1967، وبعده "زلزال" 1973، وصور الأسرى الإسرائيليين المعصوبي الأعين والمستسلمين لحراسهم، جواز الضعف على الذين ولدوا وتربوا في مجتمع يُكبر القوة والشرف، والكرامة، والشجاعة على خلاف المعايير السائدة "هناك"، في مجتمعات الشتات. وكان على الثقافة العامة استقبال نماذج أخرى، أو وجوه آخرى من التجارب والمكونات في بنية الهوية الوطنية، وإخلاء محل لتجربة المحرقة، والناجين منها، في الصورة المشتركة عن النفس. واضطرت الحروب والسياسات الخارجية، والمساومات الداخلية والخارجية، عامة الإسرائيليين إلى الإقرار بأنهم يبنون دولة لا تختلف عن سائر الدول في شيء جوهري، وبأن مثال الدولة العادلة و"الأخلاقية"- حتى في حال استبعاد أوضاع الفلسطينيين من النظر والفحص والمقارنة- بعيد من المتناول.
العنف الشرس والمستميت الذي ردت به إسرائيل، وترد إلى اليوم، على "طوفان الأقصى"، يتخطى الحساب السياسي إلى تصفية حسابات أليمة ومعقدة ومتضاربة مع النفس المنقسمة والجريحة. هذا الغليل الذي لا يبلّه الدم والأنقاض، ولا سقوط القتلى من قوم المصاب به. وقد يكون إجراء علاجه الأولى دفن ربات الثارات تحت أساسات المدينة
ولما كان مثال "اليهودي الجديد" الغالب من صنع التيار العمالي وثقافته الحيوية، وجمهوره الأوروبي، عُدَّ الخارجون عن هذا العالم، أي أوساط اليمين، والمتحدرون من المنظمات السرية المنشقة مثل "إيتسيل" و"ليهي" و"الإيرغون"، واليهود الشرقيون، والناجون من المحرقة، من مرتبة دنيا، وأُقصوا من المناصب (إستابليشمنت) أو نُبذوا. ولم يلبث أن أدى أفول النخبة القديمة، وخسارتها هيمنتها الثقافية المستتبة إلى دمج المحرقة، والناجين منها، في الهوية الجديدة.
النفس المنقسمة
وقسمت، في منتصف الخمسينات، التعويضات الألمانية- ورضي بن غوريون، العمالي، بها، ورفضها ميناحيم بيغن، على رأس حيروت، سلف الليكود-، الجمهورَ. وندد الفريق المقصي واليميني بقبول خصمه الحالم "بيع" يهود المحرقة، بعد أن "تخلى" عن يهود الشتات في أثناء الحكم النازي، ولم يفاوض على نقلهم إلى بلاد غير فلسطين (وهم "المليون السابع")، لقاء تعويضات الدولة الألمانية.
فتجدد الخلاف على مكانة المحرقة، ومحل الناجين، والعلاقة بمجتمعات الشتات وجماعاته، وبماضي اليهود. واندرجت وجوه الخلاف هذه في الانقسامات والنزاعات السياسية والاجتماعية الراهنة، وفي القسمة الكبيرة بين الكتلة العمالية (المندثرة) والكتلة "اليمينية" (الليكودية). وأدخل فوز "الليكود" في انتخابات 1977 القسمة هذه في صلب المؤسسات السياسية. وعهود حكم بنيامين نتانياهو الطويلة، وحلفه بأشد المتطرفين علواً وتمجيداً للعنف والتغلب والقهر، في الداخل والخارج، هي من ثمرات التاريخ الذي تعقّبت أنيتا شابيرا بعض حلقاته.
وعندما هجم مقاتلو "حماس" (و "الجهاد"....) على المستوطنات المحاذية، غلب، في الأخبار الأولى، اقتحام المستوطنات وقتل المدنيين، الساهرين والأهل المقيمين في منازلهم، على اقتحام القواعد العسكرية، والمرافق الأمنية، والأجهزة الدفاعية. وتبادر إلى أذهان الإسرائيليين أن العملية العسكرية بوليسية خالصة، واقتصرت على اقتحام المنازل، وصيد الأطفال والنساء والمسنين وسَوْقِهم إلى مخزن الرهائن والمقايضات. والوجه الآخر لهذه الصورة هو تسليم اليهود المدنيين للمهاجمين على شاكلة تسليم "أجدادهم"، وإذعانهم للاعتقال النازي في أثناء سنوات المحرقة (على الصورة التي شاع عليها، في وقت من الأوقات، وصف مسلك اليهود الأوروبيين).
ولا شك في أن الوجه الآخر هذا طعن طعناً أليماً في مثال المحارب والمقاتل والمهاجم الذي يبادر إلى نقل مسرح الحرب إلى أرض العدو حال اندلاع القتال. وروعت الصورة، الخاطفة، جمهور الإسرائيليين، وفئاته وجماعاته المتفرقة. وبدا للحظة، أن الهجوم الفلسطيني محا القرن، على تأريخ هذه روايتنا..، الذي بنى فيه الإسرائيليون كيان دولتهم، وثلاثة أرباع القرن التي مضت عليه، وأرجعهم أو ردهم إلى زمن "العتمة والرماد".
والعنف الشرس والمستميت الذي ردت به إسرائيل، وترد إلى اليوم، على "طوفان الأقصى"، يتخطى الحساب السياسي إلى تصفية حسابات أليمة ومعقدة ومتضاربة مع النفس المنقسمة والجريحة. وهي توكل إلى السحق المسترسل على غاربه نفي شبهة الضعف، والنكوص أو الارتكاس إلى الهشاشة، عن الجماعة، ومحوَ محاولة المحق. لا سيما وأن محاولة المحق الحمساوية- على خطو "الاجتثاث" الخميني الإيراني- صادرة عن "عرب" تصنّفهم عقيدة المثال اليهودي "العظيم" ("اليهودية العظيمة" وصاحبها بن غفير) على مرتبة عرقية دنيا.
ومثل هذا الغليل لا يبلّه الدم والأنقاض، ولا سقوط القتلى من قوم المصاب به. وقد يكون إجراء علاجه الأولى دفن ربات الثارات تحت أساسات المدينة (شأن وضع ثارات الجاهلية تحت قدمي الرسول، في الأثر المحمدي؟)، ودوام تذكرها وتكريمها، في انتظار شرع "جديد" لا قيامة له إلا بنهوض دولةِ شعبٍ فلسطيني كامل الأوصاف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...