لم يعد أي مكان أو شارع أو حتى شبر في قطاع غزة صالحاً للعيش، فالتدمير الإسرائيلي طال جميع مناحي الحياة، وحول المنازل السكنية إلى تلال من الركام الاسمنتي، تجاورها حفر عميقة تمتد إلى عشرات الأمتار تحت الأرض، تحيطها أكوام النفايات على امتداد البصر.
حجبت أطنان الركام ومكبات النفايات المنتشرة بين السكان معالم المدينة، وفصلت الأحياء والطرق بعضها عن بعض، علاوة على أنها تشكل أبرز العوائق التي تواجه الغزيين، فهي تعيق مرورهم وتنقلهم من ناحية، وتسبب لهم مشكلات خطيرة تهدد صحتهم والبيئة التي يعيشون فيها من ناحية أخرى.
نعيش بين القوارض والحشرات والذباب والروائح الكريهة التي تسببها أكوام النفايات بجانبنا.
أربعة أضعاف الهرم الأكبر
وفي عملية إسعاف تبدو شاقة، استغرق وصول مركبات الإسعاف المتوجهة لإنقاذ أرواح إحدى العائلات المصابة في استهداف منزلهم في مدينة رفح جنوب غزة، قرابة ساعة وأكثر، ضمن مسافة 150 متراً، في حين يفترض ألا يستغرق قطعها أكثر من 10 دقائق، لولا وجود تلال الركام في طريقهم.
ويشير تقرير صادر عن معهد الأبحاث التطبيقية في القدس إلى أن "حجم الطمم الناتج بشكل تقديري عن تدمير 100 ألف مبنى سكني بشكل كلي وجزئي في قطاع غزة، يبلغ نحو 1.8 مليون متر مكعب، وهو ما يضاف إلى كميات كبيرة من حطام المباني والمنشآت التي دمرتها الحروب السابقة على القطاع".
وقد أشار المرصد الأورومتوسطي بعد نحو شهر على الحرب، إلى أن إسرائيل أسقطت أكثر من 25 ألف طن من المتفجرات على القطاع، وهو يزيد عما ألقي على هيروشيما التي تبلغ مساحتها أكثر من ضعف مساحة غزة، وهو ما يشي بحجم الضرر الهائل في المباني والبنى التحتية خلال أسابيع الحرب.
كما تحدثت تقارير صادرة عن خبراء في الكوارث عن "حجم الركام الذي يغطي أراضي قطاع غزة يبلغ ما يقارب 15 مليون طن، تحتوي على مزيج من الغبار والرماد، وهو ما يقارب 4 أضعاف حجم الهرم الأكبر".
"الوقت من دم"
"الوقت في غزة من دم، بين كل دقيقة والأخرى هنالك قصف لا يتوانى عن استهداف المدنيين، مما يتطلب منا كفرق إسعاف خوض ملاحم للوصول بأقصى سرعة ممكنة لإنقاذ روح، في ظل وجود أكوام من الركام تعيق خط سيرنا، مما يضطرنا للوقوف بين كل خطوة والأخرى لإزالة كل عائق اسمنتي يواجه طريقنا ونكمل، هكذا حتى نصل المكان المستهدف"، يقول المسعف علي نبيل (27 عاماً).
وتأتي هذه العوائق في ظل عدم توافر الإمكانات والمعدات اللازمة للعمل، مع قلة توافر السولار لتشغيل المركبات، ناهيك بأكوام النفايات، واستنشاق البارود الذي يسبب للمسعفين أمراضاً أبرزها أمراض جلدية ومشاكل بالجهاز التنفسي.
بخطوات متعثرة وثقيلة على ركام أحد المنازل المدمرة بجانب بيته، كان يسير المصاب أنور أبو لوز (19 عاماً)، متكئاً على عكازيه، ذاهباً لأقرب نقطة طبية للحصول على علاجه.
"قبل أن أخرج من المنزل أفكر ألف مرة، لأن الطريق صعب جداً، وغالباً ما أصطحب أحداً من أفراد عائلتي يشاركني السير، حتى ينتشلني لو وقعت أرضاً بسبب أكوام الحجارة، أو لتسهيل الحركة أمامي وإزالتها. ليس هذا فحسب، فرائحة البارود تسبب لي ضيقاً في الصدر وصعوبة بالغة في التنفس"، يقول أنور واصفاً ما يعيشه يومياً.
لم يكتف الاحتلال ببتر قدمي أنور، بل ضاعف معاناته، إذ يشكل الركام الناتج عن القصف المصحوب بمخلفات الصواريخ والبارود، ما يشبه الأغلال التي تقيد حركته وتنفسه.
قبل أن أخرج من المنزل أفكر ألف مرة، لأن الطريق صعب جداً، وغالباً ما أصطحب أحداً من أفراد عائلتي يشاركني السير، حتى ينتشلني لو وقعت أرضاً بسبب أكوام الحجارة، أو لتسهيل الحركة أمامي وإزالتها
"مرتع للأوبئة والأمراض"
تحاول التنظيف أولاً بأول بجانب خيمتها حرصاً على حياة أطفالها حتى لا يصابوا بأي عدوى، لكن أكوام النفايات المنتشرة في المنطقة بأكملها أبت إلا أن تصيب طفلها ذا السبعة أعوام، غيث البراوي، بحساسية جلدية، في وقت لا تتوافر فيه أي فرصة للاستحمام بسبب انعدام المياه.
تقول الأربعينية أم غيث: "الخيمة لا تصلح للعيش الآدمي، نحن نعيش بين القوارض والحشرات والذباب والروائح الكريهة التي تسببها أكوام النفايات بجانبنا، لا يوجد مكان آخر نذهب إليه. هذا الواقع المرير نعيشه كلنا في قطاع غزة، لكن مشكلة النازحين مضاعفة، ولا توجد مكبات نفايات قريبة"، وتضيف غاضبة: "نعيش في مرتع للأوبئة والأمراض".
تكمل: "أصيب ابني بمرض جلدي حتى الآن لم أجد له علاجاً، نظراً لعدم توافره في الصيدليات والعيادات الحكومية، وهو يصرخ ليل نهار بسبب الحساسية الجلدية التي تملأ جسده، ليس أمامي لحمايته سوى الانتقال من الخيمة، لكن هذا صعب فلا مكان آخر يأوينا، وأرتعب من فكرة أني قد أفقد طفلي بسبب المرض".
وبعد أكثر من أربعة أشهر على الحرب، ليست أكوام الركام وحدها المعضلة أو الشوكة في حلق الغزيين، بل يرافقها هواء مشبع بالغبار والسموم، وأكوام النفايات التي تنتشر بين خيم النازحين، وتساهم في انتشار الأوبئة والأمراض.
ويذكر أنه ما قبل العدوان، كانت نسبة جمع النفايات في غزة تقدر بنحو 98%، وكانت ترسل إلى المكبات الصحية، بينما انخفضت هذه النسبة في ظل العدوان إلى أقل من 20%، حيث تكدست كميات كبيرة من النفايات في الشوارع ومحيط مراكز الإيواء والمدارس وفي بعض المكبات المؤقتة، ناهيك عن اختلاط النفايات الطبية بالنفايات الأخرى، ما ينذر بكارثة صحية وبيئية، وذلك وفقاً لورقة أصدتها الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان الفلسطينية،
إعادة التدوير ضرورة
في السياق نفسه، يشير الاختصاصي الطبي محمد حسان إلى أن تجمع النفايات سواء العضوية منها أو أكوام الركام، من المنازل وأماكن إيواء النازحين والمخيمات، دون ترحيلها إلى مكبات النفايات ومعالجتها، يزيد من انتشار الأوبئة والأمراض، وله تداعيات خطيرة على المدى القريب والبعيد.
ويوضح في حديثه لرصيف22 أن تراكم النفايات لفترة طويلة يعمل على تخمرها وتحللها بواسطة البكتيريا والفطريات، منتجة غازات على رأسها الميثان، والذي ينتقل بدوره عبر الهواء مما يسبب أمراضاً صدرية وقلبية وجلطات دماغية في حال التعرض له واستنشاقه، لا سيما إن اختلط بالفوسفور وبارود الصواريخ التي تلقى على القطاع يومياً.
ويضيف: "من الممكن أن تتسرب النفايات بعد تحللها مع أطنان الركام عبر مياه الأمطار، فتكوّن مادة سائلة لزجة تعمل على تلويث المياه الجوفية وتسبب عدة أمراض أهمها الإسهال، وقد سجلنا حتى الآن 100 ألف حالة إسهال وأكثر، خاصة في الجنوب بسبب اكتظاظ المنطقة بالنازحين، هذا إلى جانب إصابة الأطفال بنزلات معوية، وقد يؤدي تحلل المواد العضوية مع المياه إلى انتشار الكوليرا".
ويتقاطع المختص البيئي ماجد سلامة في حديثه مع الاختصاصي الطبي من حيث التداعيات الخطيرة لأكوام النفايات والركام بغزة، لا سيما على البيئة، فهي تشكل أرضاً خصبة للقوارض والحشرات، لا سيما النفايات العضوية والتي هي بقايا الطعام والمنازل وتشكل ما نسبته 65% من حجم النفايات في غزة، إضافة إلى ركام المنازل، وعوادم السيارات، والفوسفور السام.
ويوضح لرصيف22 أن تحلل النفايات مع كميات البارود المنتشرة من الصواريخ تعمل على تكوين انبعاثات سامة، وتزيد من تلوث الهواء، ويتضاعف انتقالها عبر الرياح في فصل الشتاء مما يدمر الأشجار والنبات والتربة.
ويتابع أن أكوام النفايات الممتدة في شوارع قطاع غزة، تؤثر على شبكة إمدادات المياه وتمنع وصولها إلى المنازل من مصادرها، ناهيك عن تلوثها.
الوقت في غزة من دم، بين كل دقيقة والأخرى هنالك قصف لا يتوانى عن استهداف المدنيين، مما يتطلب منا كفرق إسعاف خوض ملاحم للوصول بأقصى سرعة ممكنة لإنقاذ روح، في ظل وجود أكوام من الركام تعيق خط سيرنا، مما يضطرنا للوقوف بين كل خطوة والأخرى
وهنا يقدم المختص البيئي عدة حلول، منها إعادة تدوير الركام وتفتيته لقطع خرسانية صغيرة يمكن الاستفادة منها في رصف الشوارع، أو إلقائها في البحر وبناء لسان ميناء، مشيراً إلى أن ذلك يحتاج لخطط استراتيجية وبيئية منظمة وليس بشكل عشوائي، كما نبّه إلى ضرورة فحص الركام قبل استخدامه، محذراً من استخدامه في البناء.
وبالنسبة لأكوام النفايات، يشير إلى أن الوعي البيئي مهم في هذه النقطة لدى الناس، لا سيما في ظل عدم وجود مكبات نفايات، ويؤكد على أن أهم أبرز الحلول في هذا الجانب الاتجاه إلى إعادة التدوير خاصة النفايات البلاستيكية التي تشكل عبئاً كبير على البيئة، واستخدامها لأغراض منزلية.
ويختم سلامة: "الحلول لا تحتاج إلى جهود فردية أو مؤسساتية محلية فقط، بل إلى منظمات دولية للمساهمة في حل هذه المشكلة المعقدة من جميع جوانبها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...