شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الصهيونية المتواطئة مع

الصهيونية المتواطئة مع "أعداء السامية"!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتطرف

الجمعة 16 فبراير 202401:10 م

مع كل حملة عسكرية تخوضها إسرائيل ضد الفلسطينيين، تنطلق حملة إعلامية موازية عن "معاداة السامية" في صحافتها، وفي الصحافة الغربية، وتربطها بـ"معاداة الصهيونية"، لإرهاب منتقدي إسرائيل وإسكاتهم، خاصةً الأوروبيين منهم، لأنهم، إلى جانب مؤيدي الفلسطينيين من اليهود، يملكون تأثيراً أكبر في الرأي العام الغربي، ما يشكل تهديداً أكبر لمشروع إسرائيل.

لا يمكن الاستخفاف بتزايد نشاط الموجات المتبقية من معاداة السامية في أوروبا وأماكن أخرى من العالم، لكنَّ الخطورة تكمن في مصطلح "معاداة السامية الجديدة" الذي تروّج له إسرائيل، وتسعى من خلاله إلى جعل "معاداة الصهيونية"، أو حتى انتقاد إسرائيل، شكلاً من أشكال "اللاسامية".

وتهدف الصهيونية، بوصفها أيديولوجيا سياسيةً، إلى إنشاء وطنٍ قوميٍّ لليهود في أرض فلسطين، وهي فكرة لاقت معارضةً في بعض أوساط اليهود أنفسهم، وتمثلهم في الوقت الراهن العديد من المنظمات اليهودية المناهضة للعنصرية الصهيونية، ومن المنتقدين لإسرائيل وممارساتها الاستيطانية، والمجازر التي ترتكبها بحق المدنيين الفلسطينيين.

شكّل ذلك الأمر هاجساً في عقول قادة إسرائيل، بما يفسر سعيهم الحثيث والمستمر في الأروقة الغربية إلى عدّ "معاداة الصهيونية" و"معاداة السامية"، مفهومين متساويين من حيث الممارسة والمعنى، والهدف البعيد إسكات هذه الأصوات اليهودية وتكميم أفواهها، كونها تشكل خطراً إستراتيجيّاً على إسرائيل ومشروعها.

وُلد مصطلح "معاداة السامية"، ليصف منتجاً أوروبياً مسيحياً يتمثل في هذه الأشكال من كراهية اليهود واضطهادهم. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت محاولات إعادة تعريف المصطلح في الدوائر الغربية والأوروبية. كيف تطوّر المصطلح حتى بات سلاحاً تُشهره الصهيونية في وجه مُنتقديها؟

ضمن هذا الإطار، تناولت الصحف الإسرائيلية والبريطانية علاقة معاداة الصهيونية بمعاداة السامية، ومن بينها صحيفة "جيروزاليم بوست" التي عنونت افتتاحيتها في 31 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، بـ"معاداة الصهيونية تعني معاداة السامية"، وعلّقت فيها على مظاهرات دعم الفلسطينيين التي اجتاحت أوروبا. تذكر الصحيفة أنه "بالرغم من وجود قلة من اليهود يعبّرون عن مناهضتهم للصهيونية، فإن هذا لا يجعلها أقلَّ شرعيةً ولا يجعل مناهضتها أقلَّ عداءً للسامية".

منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، لم يختلف الواقع كثيراً في أوروبا مع طرح الصحيفة. فقد شُبّهت أنشطة مناهضي الحرب في حملتهم ضد إسرائيل، بالأنشطة المعادية لليهود في أوروبا، وعُدّ حراكهم من مظاهر "معاداة السامية"، وتعرّض كثيرون ممن أبدوا تضامناً مع الفلسطينيين أو إدانةً لسلوك إسرائيل للوصم أو الملاحقة أو التضييق أو الفصل من العمل.

من بين هؤلاء، الكاتبة في "نيويورك تايمز"، جازمين هيوز، التي اضطرت إلى الاستقالة بدعوى "انتهاكها السياسات التحريرية"، بعد توقيعها على بيان داعم لفلسطين. وفصلت الصحيفة الأمريكية نفسها، المصوّر الصحافي الفلسطيني حسام سلام، بسبب منشوراته الداعمة لفلسطين على السوشال ميديا، وللسبب نفسه فُصل رئيس تحرير مجلة العلوم الأكاديمية (eLife)، مايكل آيسن، وهو يهودي، والصحافية الكندية من أصول فلسطينية زهراء الأخرس، من وكالة الأنباء الكندية (جلوبال نيوز).

هذا السياق، دفع كتّاباً يهوداً مناهضين لإسرائيل إلى توجيه رسالة مفتوحة للمجتمع الدولي، نشرتها المجلة الأدبية الإلكترونية (n+1)، ووقّع عليها الآلاف حول العالم، يوضحون فيها أن "مفهوم معاداة السامية استُخدم لحماية إسرائيل من المساءلة، وإخفاء حقيقة الاحتلال، وإنكار السيادة الفلسطينية، وهو يُستخدم اليوم لتبرير قصف إسرائيل لغزة وإسكات الانتقادات داخل المجتمع الدولي، وأن إسرائيل استخدمت الحرب ضد معاداة السامية كذريعة لارتكاب جرائم حرب بقصد الإبادة الجماعية".

وأضافوا أن "الأيديولوجيا الصهيونية استغلت معاناة اليهود من أجل هضم حقوق الشعب الفلسطيني. ومعاداة إسرائيل لا تعني معاداة السامية، ولا يمكن المفاضلة بين حرية الفلسطينيين وأمن اليهود".

العقدة الأوروبية وإعادة التعريف

تعود جذور كراهية اليهود في أوروبا المسيحية إلى ألفي عام تقريباً. فقد أسس القادة الكاثوليك فكرةً راسخةً تُحمِّل اليهود مسؤولية صلب المسيح ، عدا عن عدّ المسيحيين رفض اليهود ألوهية المسيح تكبّراً منهم.

وزادت هذه الكراهية بعض الحكايات المتداولة في الأوساط المسيحية الراديكالية عن تقديم اليهود أطفال المسيحيين قرابين في طقوسهم الدينية، حتى وصل الأمر إلى تحميل اليهود المسؤولية عن الطاعون الذي فتك بملايين الأوروبيين في القرن الرابع عشر. تراكم هذا الكره، وولّد حقداً انتهى بمشاهد الهولوكوست.

في هذا السياق، وُلد مصطلح "معاداة السامية"، ليصف منتجاً أوروبياً مسيحياً يتمثل في هذه الأشكال من كراهية اليهود واضطهادهم. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت محاولات إعادة تعريف المصطلح في الدوائر الغربية والأوروبية.

في كتابه "صنع معاداة السامية… أو تحريم نقد إسرائيل"، ينظُر الكاتب الألماني إبراهام ملتسر، إلى "معاداة السامية" باعتبارها مفهوماً غير ثابت، بل "تبدّل كثيراً مع مرور الوقت، ولاءم نفسه كثيراً مع الاتجاهات السائدة وروح العصر والقوى السياسية الحاكمة". ويرى أنَّ "أساس الأيديولوجيا الصهيونية هي الشوفينية العنصرية، والكولونيالية التوسعية".

من هنا يمكننا القول إن الصهيونية استخدمت "معاداة السامية" كسلاح تُشهره في وجه مُنتقديها، وكان هذا السلاح فعّالاً. ففي خطوة ليست ملزمةً قانونياً بعد، اعتمد قادة أوروبيون في بوخارست عام 2016، تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى محرقة اليهود" لمعاداة السامية، الذي يشمل مظاهر وأشكالاً "معاصرةً" لها من بينها "إنكار حق الشعب اليهودي في تقرير المصير، كالادّعاء بأنَّ وجود دولة إسرائيل يُعدّ مسعى عنصرياً"، وهو تعريف "معاداة الصهيونية".

في السياق نفسه، جاء إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عام 2019، أن بلاده ستطبق "مفهوماً عالمياً" لمعاداة السامية تعدّ فيه "معاداة الصهيونية أحد الأشكال الحديثة لمعاداة السامية"، وذلك بعد أن جرَّم البرلمان "معاداة الصهيونية" كما تُجرّم "معاداة السامية"، وعدّها تمييزاً عنصرياً، وكراهيةً للأجانب.

وبعد أيام من "طوفان الأقصى"، بدأ مجلس الشيوخ الفرنسي دراسة مشروع قانون جديد قدّمه 16 عضواً، يُجرّم ويدين كلَّ أشكال التعبير عن إنكار وجود إسرائيل، أو يُهينها ويُثير الكراهية ضدها. وهو تطور ملحوظ لمفهوم "معاداة السامية" نحو انتقاد إسرائيل نفسها.

جذور كراهية اليهود في أوروبا المسيحية تمتد إلى ألفي عام تقريباً. أسس القادة الكاثوليك فكرةً راسخةً تُحمِّل اليهود مسؤولية صلب المسيح ، عدا عن عدّ المسيحيين رفض اليهود ألوهية المسيح تكبّراً منهم. زادت هذه الكراهية بعض الحكايات عن تقديم اليهود أطفال المسيحيين قرابين في طقوسهم الدينية، حتى وصل الأمر إلى تحميل اليهود المسؤولية عن الطاعون الذي فتك بملايين الأوروبيين في القرن الرابع عشر

وعقدة الذنب آنفة الذكر، ما هي إلا خصوصية ألمانية، تحولت إلى مشاع أوروبي لاحقاً، لذلك نرى أن ألمانيا "هي ثاني أهم شريك لإسرائيل (بعد الولايات المتحدة)، وما كانت لتكون إسرائيل بهذا الرخاء وهذه القوة الاقتصادية والعسكرية لولا هذا الشريك"، بحسب البروفسور هايو فونكه، من معهد أوتو سور للعلوم السياسية في جامعة برلين الحرة.

ولطالما عبَّرت ألمانيا عن دعمها غير المحدود لإسرائيل، وبات كل ما يمسُّ إسرائيل، إلى حدٍّ ما، يُوصف بأنه "معادٍ للسامية". ومع تظاهر الآلاف في ألمانيا تضامناً مع الفلسطينيين في قطاع غزة في الفترة الأخيرة، فرضت الشرطة قيوداً صارمةً وأكدت أنَّ أيَّ "إنكار لحق إسرائيل في الوجود، أو الإدلاء بمواقف معادية للسامية" سيواجه بـ"الملاحقة القضائية".

لا يخرج عن السياق السابق، تصريح رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، مؤخراً بعد حرب غزة، والذي أشارت فيه إلى أن "معاداة السامية هي سرطان تجب هزيمته"، وأضافت: "إنها مشكلة حقيقية، وهي تنمو في جميع أنحاء أوروبا وفي الغرب، وغالباً ما تكون متنكرةً في شكل انتقاد إسرائيل".

لكن مع مرور الوقت، وطول أمد هذه الحرب، والمخاوف من تصاعد التوترات داخل المجتمع الأوروبي، خاصةً في فرنسا، التي تقطنها أكبر جالية مسلمة في أوروبا، وأكبر عدد من اليهود في الوقت نفسه، بدأت المواقف الأوروبية تأخذ منحى أكثر اعتدالاً.

تواطؤ "الصهيونية" و"معاداة السامية"

يبدو المسعى الإسرائيلي لحصر مفهوم "العداء للسامية" في المسألة الفلسطينية، وتركيزه في "معاداة الصهيونية" و"انتقاد إسرائيل"، محاولةً لطمس عدالة القضية الفلسطينية وتشويهها.

والمفارقة المثيرة التي يمكن التماسها في أي تحليل أو نقاش حول جوهر الصهيونية أو معاداة السامية، هي صعوبة التفريق بينهما، وفي هذا يرى الكاتب والصحافي التونسي الراحل صالح بشير، وتحت عنوان "هل أن الصهيونية معادية للسامية؟"، تواطؤاً عميقاً بين "الحركة الصهيونية" و"معاداة السامية".

وهذا التواطؤ ليس براغماتياً أو مرحلياً، بل هو "تواطؤ من طبيعة أبعد وأعمق، يتعلق بالمنطلقات والأسس الفكرية" لكلٍّ منهما. إذ يبني بشير تحليله على أنَّ الحركة الصهيونية في حلها للمسألة اليهودية بإنشاء "وطن قومي لليهود" على أرض فلسطين، "تقوم على التسليم بالمبدأ الأساسي الذي قامت عليه معاداة السامية، والقائل بأن اليهودي 'أجنبي' ولا يمكنه أن يكون إلا كذلك، لسمة فيه جوهرية، أي أجنبيته تلك أصيلة وتكوينية".

ويضيف أن "تلك الفكرة ترددت في الأدبيات المعادية للسامية، خصوصاً في فترة ما بين الحربين العالميتين". ومن كل هذا؛ ينتهي صالح بشير إلى أنَّ "ذلك ما قد يكوّن اللبس الأخلاقي الأساسي الذي يسِم الحركة الصهيونية ويصِمُها: ذلك أنها كانت الأداة اليهودية في تحقيق مطلب أثير لدى أعداء السامية".

كلمة أخيرة

لا شك في أنَّ المحرقة اليهودية وصمة عار على جبين أوروبا، وأنَّ "اللاسامية" بوصفها "كراهيةً لليهود" عنصرية مرفوضة ومنبوذة كأي فكرٍ عنصريٍّ آخر. ولكنَّ التغاضي عن غيرها من المجازر أو الخطابات العنصرية لا يقل عاراً، والأمثلة كثيرة حول العالم وآخرها المجازر التي ترتكبها إسرائيل في غزة.

من المؤسف أيضاً أنه في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ القضية الفلسطينية، تطفو فوق السطح ثقافة "الضد" المطلق أو "مع" المطلقة، فأي انتقاد لإسرائيل تتهم من خلاله باللاسامية في بعض الأوساط الأوروبية، وأي انتقاد لحماس وعمليتها، التي استحضرت الويلات للفلسطينيين، يُتّهم صاحبه بالصهيونية في الأوساط العربية

ومن المؤسف أيضاً أنه في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ القضية الفلسطينية، تطفو فوق السطح ثقافة "الضد" المطلق أو "مع" المطلقة، فأي انتقاد لإسرائيل تتهم من خلاله باللاسامية في بعض الأوساط الأوروبية، وأي انتقاد لحماس وعمليتها، التي استحضرت الويلات للفلسطينيين، يُتّهم صاحبه بالصهيونية في الأوساط العربية.

هذا المناخ جعل الأصوات الموضوعية تخفت، ليعلو صوت العنصرية من كل أطراف هذه الحرب.

لكنَّ حشود المظاهرات في أوروبا وأمريكا، التي خرجت مننددةً بإسرائيل، توحي بتطور نظرة الشعوب الأوروبية لناحية التمييز بين اليهود والحركة الصهيونية، كحركة توسعية كولونيالية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image