"نحن لم نبكِ/ساعة الوداع/لم يكن لدينا وقت/ولا دمع/ولم يكن وداع!/ نحن لم ندرك/لحظة الوداع/أنه الوداع/فأنّى لنا البكاء؟!". بهذه القصيدة للشاعر الفلسطيني طه محمد علي(1931- 2011)، يفتتح المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابِهْ، صفحات كتابه "التطهير العرقي في فلسطين".
واختيار بابِهْ للشاعر وقصيدته دالّ وموحٍ من عدة جوانب؛ وُلد طه محمد علي في قرية صفورية عام 1931، وفي السابعة عشرة من عمره، كان مقدراً له أن يكون شاهداً على المجزرة التي ارتكبتها القوات الصهيونية في أهل قريته، ضمن عمليات التطهير العرقي التي محت من الوجود مئات القرى الفلسطينية عبر خطة "دالِت" الإجرامية.
نجا الشاب الصغير من المجزرة مع بعض أفراد عائلته، وعاش لفترة لاجئاً في جنوب لبنان، لكنه لم يستطع العيش بعيداً عن صفورية، وبعد فترة وجيزة عاد متسللاً للعيش في مدينة الناصرة، حيث لم يكن مسموحاً للاجئين بالعودة، كما أن قريته كانت قد أُزيلت من الوجود، وشُيدت على أنقاضها قرية يهودية تحمل اسم "تسيبوري".
أما القصيدة فهي تشير إلى أن الفلسطينيين القرويين لم يكن لديهم إدراك لما حلّ بهم؛ لم يكن يعرفون بعد أن ما حدث لهم هو الحلقة الدرامية المفصلية في تاريخهم الحديث، وأنهم لن يعودوا إلى قراهم التي دُمرت، ومن ثم كما يقول الشاعر: "لم يكن وداع".
يُلقي بابِه بعمله الرائد والمثير للجدل، ضوءاً جديداً على أصول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتطوراته، ويكشف الكثير من التفاصيل التي ظلت مجهولة لسنوات طويلة، معتمداً على عدد هائل من الوثائق الرسمية الإسرائيلية
في هذه اللحظة التي يُقاوم فيها أهل غزة الحرب والجوع والدمار، ليس هناك ما هو أكثر حضوراً من الذاكرة الفلسطينية المحفورة بالألم، فمع كل عدوان إسرائيلي على الشعب الفلسطيني، ينهض الماضي بكل حمولته التراجيدية، ليقف جنباً إلى جنب الحاضر في خط مستقيم، وكأنه طريق مُقدر للفلسطينيين أن يسيروا فيه وفي مواجهتهم آلة القتل الإسرائيلية، وفي الحرب التي تُشن حالياً على قطاع غزة، كان الماضي أكثر حضوراً، بل وكأنه يُعيد نفسه لأن "القاتل"، "المُغتصب"، لا يزال يحيا على الدماء المسفوكة لآلاف القتلى والجرحى الفلسطينيين.
وكانت حكايات وصور نكبة 1948 هي الأكثر تداولاً على مواقع التواصل الاجتماعي من جانب الناشطين والداعمين للقضية الفلسطينية، استدعتها مشاهد النزوح والتهجير القسري لمئات الآلاف من سكان غزة من الشمال إلى الجنوب، فثمة تطابق مأساوي بين المشهدين، ويُمكننا أن نضع في المسافة الزمنية الفاصلة بينهما هذا السطر الشعري للشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي: "عدودة من أقدم خيوط سودا في توب الحزن"، من قصيدة رثائه للفنان ناجي العلي.
وكما استدعت مشاهد نزوح أهل غزة صورَ التهجير القسري للفلسطينيين في عام 1948، عادت كذلك إلى الواجهة الكتابات التاريخية والدراسات البحثية التي تناولت أحداث النكبة، وحظى كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" على اهتمام كبير من جانب القراء والمتابعين لحرب غزة، حتى أنه أصبح من الكتب الأعلى مبيعاً في متاجر بيع الكتب، ليس في الوطن العربي فقط بل في جميع أنحاء العالم.
لا شك أن هوية إيلان بابِهْ على غلاف كتابه، تُمثل ريبة لبعض القراء في مدى مصداقيته، لكن العنوان يُبدد هذه المخاوف. أما الكتاب نفسه، فهو كما وصفته الكاتبة الفلسطينية غادي الكرمي: "بحث رائد في سر إسرائيلي مكتوم بحرص، وإنجاز علمي تاريخي يُعالج موضوعاً حُرّم البحث فيه، بقلم واحد من أبرز المؤرخين الجدد الإسرائيلين".
ينتمي إيلان بابِهْ إلى جماعة "كتاب التاريخ الجديد"، وتضم مجموعة صغيرة من المؤرخين الإسرائيليين، الذين عكفوا منذ الثمانينيات على مراجعة الرواية الرسمية الصهيونية الخاصة بأحداث النكبة، ونجحت هذه المجموعة في كشف سخف وكذب القصة الإسرائيلية التاريخية التي جرى تلفيقها، والتي تقول إن نزوح وهجرة الفلسطينيين كانت طوعية وبمحض إرادتهم، لكي يفسحوا الطريق أمام الجيوش العربية الآتية لتدمير الدولة اليهودية الوليدة.
وبرغم نجاح هؤلاء المؤرخين في كشف هذا التزييف التاريخي، إلا أنه يرى أن هذا النضال لم يكن كافياً ما دام تحاشى الخوض في مسألة التطهير العرقي الذي كان - بحسب رأيه- "منذ البداية جزءاً لا يتجزأ من استراتيجيا رُسمت بعناية ودقة ويكمن في أساس الصراع المستمر إلى الآن في الشرق الأوسط".
يُلقي بابِه بعمله الرائد والمثير للجدل ضوءاً جديداً على أصول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتطوراته، ويكشف الكثير من التفاصيل التي ظلت مجهولة لسنوات طويلة، معتمداً على عدد هائل من الوثائق الرسمية الإسرائيلية (العسكرية والسياسية)، ولكن ما سعى إليه هذا المؤرخ الإسرائيلي بشكل أساسي، هو تفحص آلية التطهير العرقي الذي حدث في سنة 1948، ومنظومة المعرفة التي سمحت للعالم بأن ينسى الجريمة التي اقترفتها الحركة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في عام النكبة ومكنت مرتكبيها من إنكارها.
إنه يرى أن أحداث النكبة التي كانت بمثابة واحدة من أكبر التهجيرات القسرية في التاريخ الحديث، حيث جرى طرد نحو مليون نسمة من بيوتهم بقوة السلاح وارتكاب مجازر بحق المدنيين، وتدمير مئات من القرى الفلسطينية عمداً، يرى أن كل ذلك لا يمكن أن يكون شيئاً آخر سوى تطهير عرقي مع سبق الإصرار والترصد، غير أن التشويه الهائل والطمس الممنهج لما حدث، قد محا هذه الجريمة بشكل كلي تقريباً من الذاكرة العامة العالمية.
كما جرى إنكاره بصورة منهجية منذ وقوعه، وهذا الوضع قائم وراسخ حتى الآن في أذهان الإسرائيليين الذين يُعرِّفون نكبة 1948 بحرب الاستقلال، وهي الرواية - بحسب تعبيره- التي صدقها وآمن بها الغرب، في أكبر عملية طمس للحقيقة المرعبة وهو أن ما حدث كان تطهيراً عرقياً لفلسطين، حيث تم تصفية البلاد من السكان الأصليين وخلق مكان إثني، ومن ثم قامت الدولة اليهودية على أشلاء الفلسطينيين وعلى أنقاض قراهم ومدنهم.
استخدم بابِه نموذج التطهير العرقي بدلاً من نموذج الحرب كأساس وموجّه للبحث العلمي والنقاش بشأن أحداث 1948، ويكشف عن تفاصيل الخطة "دالِت" والتي عبرها تأسست الدولة العبرية؛ ففي العاشر من مارس من عام النكبة اجتمعت مجموعة مكونة من أحد عشر رجلاً من قادة صهيونيين، وضباط عسكريين، لتضع اللمسات الأخيرة على خطة لتطهير فلسطين عرقياً.
وكانت "دالِت" النسخة الرابعة والنهائية لخطط أقل جذرية، وقد "بينت بوضوح وعلى نحو غير قابل للتأويل: الفلسطينيون يجب أن يرحلوا". وكان الهدف الرئيس للخطة هو تطهير الأماكن التي تشتهيها القيادة اليهودية لنفسها من الفلسطينيين، حيث كشف قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947 عن فارق كبير في الميزان الديمغرافي بين العرب واليهود، فبعض الأماكن التي جاءت من نصيب الصهاينة، كانت نسبة العرب فيها أضعاف اليهود، وهو ما سبب رعباً للقيادات، ومن هنا، جرى الاتفاق على أن لا مفر من طرد الفلسطينيين من هذه الأماكن بل ومن كل المناطق التي ستدخل في حيز الدولة العبرية. أعطت خطة "دالِت" الضوء لقوات الهاغاناه، وبعض العصابات الصهيونية، لتدمير المناطق الفلسطينية الريفية والحضرية على السواء، وطرد سكانها، ثم زرع الألغام وسط الأنقاض حتى لا يتمكنوا من العودة مرة ثانية.
وبعد أن اتخذ القرار في العاشر من مارس، كما ذكرنا سابقاً، استغرق تنفيذ المهمة ستة أشهر، ومع اكتمال التنفيذ، كان أكثر من نصف سكان فلسطين الأصليين أي ما يُقارب 800 ألف نسمة، قد اقتلعوا من أماكن عيشهم و531 قرية دُمرت، و11 حياً مدينياً أُخلي من سكانه.
ويرى بابِه أن هذه الخطة كانت النتيجة الحتمية للنزعة الأيديولوجية الصهيونية التي تطلعت إلى أن تكون فلسطين لليهود حصراً، كما أنها كانت استجابة للتطورات على الأرض في إثر قرار الحكومة البريطانية بإنهاء الانتداب، أما تنفيذها بهذا الشكل المنهجي في عدة أشهر، فيراه الكاتب، مثالاً صارخاً لعملية تطهير عرقي، تعتبر اليوم في نظر القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية.
ويحكي المؤرخ الإسرائيلي تفاصيلَ المخططِ الصهيوني الذي أُعدّ مبكراً للسيطرة على الأراضي الفلسطينية عبر "الوكالة اليهودية"، التي قامت بإعداد ملفات للقرى الفلسطينية ومسحٍ شامل لها، وتم تزويد القيادات العسكرية بهذه المعلومات، ووفقاً لها وُضعت الخطة المريعة لنسف القرى الفلسطينية من الوجود، وقد بدأ التطهير في القرى في وقت مبكر عن نظيره في الأحياء المدنية، حيث كان هناك نهم وجشع وتحفز من جانب القيادات اليهودية لسرعة ضم الأراضي الفلسطينية الخصبة إلى ما قُرر أن يكون وطناً يهودياً.
وكان التطهير في المناطق الريفية دموياً؛ ففي كل قرية كانت تُدمر، كانت هناك مجزرة، أشهرها مجازر: دير ياسين، وعين الزيتون، والطنطورة، وقرية سيرين. وهناك الكثير من العمليات الإجرامية التي تم طمسها من جانب الإسرائيليين، لكنها لم تسقط من الذاكرة الفلسطينية الموشومة بالألم والتي صارت -بحسب تعبير الشاعر طه محمد علي- "جُرحنا العميق، الأبدي، كأبدية الحياة والموت".
وضع إيلان بابِه هذا الكتاب بقناعة راسخة بأن التطهير العرقي الذي حدث في فلسطين يجب أن يتجذر في ذاكرتنا ووعينا بصفته جريمةً ضد الإنسانية
"أخرجونا واحداً تلو الآخر؛ قتلوا رجلاً عجوزاً بالرصاص، وعندما بكت إحدى بناته قتلوها هي أيضاً. ثم استدعوا شقيقي محمد وقتلوه أمامنا. وعندما صرخت أمي باكية وهي منحنية فوقه- وبين ذراعيها أختي الرضيعة خضرة- قتلوها هي أيضاً"؛ هكذا روى فهيم زيدان أحد الناجين من مذبحة دير ياسين، كيف رأى بأم عينه عائلتَه تُقتل وكان عمره آنذاك اثني عشر عاماً. أطلقوا الرصاص أيضاً على زيدان نفسه الذي كان موجوداً مع الأطفال الذين أوقفوهم في صفٍ أمام أحد الجدران، ورشقوهم بالرصاص قبل أن يُغادروا "فقط من أجل التسلية"، ومن حسن حظه أن جروحه لم تكن مميته.
ويروي بابِهْ أن قرية دير ياسين كانت هادئة ومسالمة، توصلت إلى معاهدة عدم اعتداء مع الهاغاناه في القدس، لكنها حُكم عليها بالهلاك، لأنها كانت تقع داخل المناطق التي عينتها خطة "دالِت" أهدافاً للتطهير. "وفي أبريل من عام النكبة اقتحم الجنود اليهود القرية ورشقوا البيوت بنيران المدافع الرشاشة، متسببين بقتل كثير من سكانها ومن ثم جمعوا بقية القرويين في مكان واحد وقتلوهم بدم بارد وانتهكوا حرمة أجسادهم، في حين اغتصب عدد من النساء ومن ثم قُتلن".
ما حدث في دير ياسين، هو نموذج لما حدث في باقي القرى، مع تنويعات في الإجرام لا أكثر، ونذكر هنا المجازر التي اُرتكبت في قرى: لفتا، الخصاص، بلد الشيخ (عز الدين القسام)، دير أيوب وبيت عفّا، وحواسة، وقرية سعسع، وبيت دراس وغيرها من مئات القرى، التي لم يبق منها سوى "ذكرى المجزرة"، وحكايات متوارثة عبر الأجيال عن فلسطين ما قبل النكبة أو ما قبل "التطهير العرقي".
وضع إيلان بابِه هذا الكتاب بقناعة راسخة بأن التطهير العرقي الذي حدث في فلسطين يجب أن يتجذر في ذاكرتنا ووعينا بصفته جريمةً ضد الإنسانية، وهو لم يقم بهذا العمل، كما يقول، بدافع من واجب مهني، أو رغبة في كتابة رواية دقيقة للأحداث، بل كان ذلك قراراً أخلاقياً من قبله، ورفضاً إنسانياً لهذه الجرائم؛ هو الذي يعتبر أن الاعتراف بحقيقة ما حدث يجب أن يكون الخطوة الأولى لمن يريدون بأن يحلّ السلام ويتجذر في فلسطين وإسرائيل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 20 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت