"ليس الجود أن تعطيني ما أنا أشدّ منك حاجة إليه، وإنما الجود أن تعطيني ما أنت أشدّ إليه حاجة مني"، -جبران خليل جبران " الأجنحة المتكسرة".
أوهام الحب المتحرر
في مشهد حالم من فيلم "الاختيار" في لحظة فارقة في تاريخ السينما المصرية عام 1970، (كتبه نجيب محفوظ وأخرجه يوسف شاهين)، تسأل بهيةُ محموداً أسئلة وجودية حول ماهية الحقيقة والبحر والحرية والحب ويجيبها حول الحب، ويقول: "الحب. الحب هو العطاء. أنا الذي أحبك فأنا المدين لك بكل شيء".
كان لفلسفة نجيب محفوظ، فيما يخصّ الحب، أوجه عديدة متمرّدة وفارقة عن الشكل الرومانسي المتعارف عليه في تعريف هذه العاطفة، فهو يراه قد يتغلّب على النفس إلى حد الجنون، حتى تصل للشعور أنك مدين لمن أحبك بكل شيء.
حملت ليلى في فيلم "الباب المفتوح" على عاتقها البحث عن الحرية، وهي محملة بإرث من القمع الأبوي الذي توّج بخيانة الحبيب، وكوّن لديها رؤية مهزوزة وغير واضحة عما تريده تحديداً من الرجال، فأصبحت حياتها كلها تدور حول جرح الذكورة في حياتها ومحاولة الهرب منه، بينما هي لا تدرك أن حياتها بالفعل تدور حولهم. هذا ما لم تقله لطيفة الزيات في روايتها "الباب المفتوح".
حتى ظهر حسين، الشاب المناضل، صاحب الأفكار المستنيرة، الذي طلب منها أن تهب نفسها فرصة أولاً لتجد ذاتها، حتى تجد الحب الذي كانت تبحث عنه ببراءة وعنفوان وثورة ساذجة، قبل أن تصطدم بطوفان الذكورة الذي كبّل حياتها وحطم أحلامها الثورية، في زمن كتبت فيه لطيفة الزيات رائعتها "الباب المفتوح" وأخرجها هنري بركات في توقيت مرتبك يحكي عن ثورة الخمسينيات وتحولات المجتمع المصري الاجتماعية والسياسية، فأصبح حسين وليلى رمزين من رموز الحب التحرّري حتى يومنا هذا.
في مجتمعاتنا الشرقية، حتى مع كل الأطروحات التقدمية التي تطرح نظريات في علاقة الرجل بالمرأة، ما زالت هوية المرأة مرتبطة بالحب والزواج والإنجاب لتحققها بالشكل المثالي
ولكن ليلى فعلاً نموذج مثالي للمرأة التي تبحث عن نفسها وعن تحقيق كيانها المستقل وسط مجتمع كل قناعاته تدور حول أن المرأة هي خادمة للرجل وعليها طاعته بالكامل.
للأسف لم تكن ليلى هذه الفتاة، لأنها في النهاية انتظرت كلمات ودعم حسين البطل المثالي الذي دعاها للبحث عن طريقها الجديد، إن وجدته ستجد نفسها والحب في نهاية الطريق.
لماذا إذن لا تستطيع ليلى، وغيرها من الفتيات في مجتمعاتنا، أن تجد الطريق وحدها دون كلمات حسين وخطاباته الرومانسية المشجّعة على التخلي عن قمع أسرتها وخطيبها دكتور الجامعة الذكوري الذي لا يراها سوى خادمة لرغباته، لترحل إلى نفسها إلى أن تجد نفسها في أحضان حسين في النهاية؟
لماذا يموت الحب؟
إن كنا نبحث عن إجابات هنا، فببساطة في مجتمعاتنا الشرقية، حتى مع كل الأطروحات التقدمية التي تطرح نظريات في علاقة الرجل بالمرأة، ما زالت هوية المرأة مرتبطة بالحب والزواج والإنجاب لتحققها بالشكل المثالي.
هناك شروط عديدة رسمتها المجتمعات للصورة المثالية لتحقيق الإنسان لذاته، أولها الزواج الناجح والوظيفة المستقرة والشكل الاجتماعي المرضي عنه لمظهر الأسرة المستقرة، ولكن ماذا عن الاستقلالية والوحدة والسفر والحركة واكتشاف العالم بشكل ذاتي وفردي، والذي لا يحقق هذه المعايير؟
في أصل الفلسفة، لم يكن الفلاسفة الوجوديون يعتبرون الحب فعلاً عقلانياً، بل هو غطاء لرغبات الإنسان الجنسية، يحجّمها ويضعها في قالب مقبول، بينما كانت هناك محاولات للفلاسفة القدامى في وضع الحب في مرتبة عليا، تجسّدت في نظريات الحب النبيل التي ناقشها أفلاطون وسقراط وأربيتوفان، وتناقضاتها بين ماهية الحب وأهدافه النبيلة، وتقديس آلهة الحب والجمال بالسعي نحو الفضيلة والوفاء، وطبيعة النوايا الطيبة الأبدية المخلصة التي خلقت بين البشر أفكاراً حول أن الحياة بلا حب هي ليست حياة.
وبرغم كل التناقضات، نجد مثلاً في الفلسفة الوجودية الحديثة، خطابات ملحمية بين أهم روادها، الفيلسوف ألبير كامو وحبيبته ماريا يحاولان فيها سوية البحث عن نفسيهما في عالم مليء بالضجيج، متطلع ذي وتيرة سريعة، تهيمن عليه الرأسمالية والصراعات والحروب في حالة هرب بملامح وجودية للبحث عن أنفسهم لمحاولة الوصول إلى الخلاص الأبدي في الهروب نحو بعضهم البعض.
وكثير من الخطابات التي كتبت من بداية التاريخ بين المحبين منذ العصور القديمة وحتى عصرنا هذا، سنجدها كلها محاولات للنجاة من هول الحياة وفزع الإنسان من حقائق مادية ليس هناك مهرب منها، كالصراع والموت.
البشرية بطبيعتها تبحث عن الخلود والتساؤل حول ماهية الشيء الذي قد نقتنيه كدواء يجعل منا أشخاصاً أبديين ونتجنب حقيقة الموت، ومن خلال التجربة البشرية، لم يجد الإنسان شيئاً يبقيه حيّاً في ذاكرة ومخيلة الآخرين سوى الحب.
عقار أدماني يضخّ في دمنا هرمون الأدرينالين والشعور بالحماسة والتحقق وحقيقة شعورية مؤكدة أنك مخلد في ذاكرة أحدهم، وينتاب الحزن البشر بعد ما وصلنا له الآن وهو مظهر الحب الذي لا يمت لحديثنا هذا بصلة، فعليك أن تخضع للعبث الرأسمالي أولاً للحصول على هذا الشعور الذي هو بالأساس لا يباع ولا يشترى، في صورة تتطلب تحقيق شروط بعينها، فالمنظومة الحديثة حولته إلى مراسم وضغوط مادية لا تحصى، ثم يعود الإنسان ويتساءل: لماذا يموت الحب؟
أسطورة الضلع والحزن الإنساني
أفروديت، ربة الجمال والحب والأخصاب بين آلهة الأولمب، ولدت، كما تحكي الأسطورة، من خصيتي وقضيب أورانوس عندما قتله كورونوس ورماه بالبحر، فنبتت منه كما خلقت حواء من ضلع آدم.
كل هذه الأساطير والروايات التي استفاض فيها البشر لتعريف الحب وتبريره قد ألحقت بنا الأذى جميعاً، لأنها أهملت الرحلة الفردية للإنسان عموماً في إيجاد نفسه وتجليه وحيداً وإيجاد الحب في أعماق روحه أولاً، قبل البحث عنه في الآخرين كوسيلة للنجاة من بشاعة العالم وقسوته.
ليس علينا كبشر البحث عن الحب في الآخرين، بل علينا بشكل منطقي إيجاده في داخلنا أولاً، والتشبّع منه بالكامل، ثم بعد ذلك تأتي لحظة ممارسته في أقرب صورة صحية وقريبة من طبيعة الإنسان الحقيقية
فإن كان الحب يحتاج إلى الشراكة للممارسة، والإخصاب لاستمرار الجنس البشري، فهو أيضاً يحتاج إلى محبين صادقين مع أنفسهم أولاً، كما جاوب محمود على بهية في تساؤلاتها عن الحقيقة، فأجابها: "الإخلاص مع النفس أولاً"، و"قد تضيق بالحب إذا وجد، ولكن ما أشد ما تفتقده إذا ذهب"، كما يقول نجيب محفوظ.
وهنا يكمن عذاب البشرية، فالإنسان، منذ ولادته وحتى مماته، يبحث عن رحم يحتويه، وإن لم يتشبّع من حب والديه غير المشروط بكونه طفلاً مثالياً وجميلاً بمعايرهم، فسوف يظلّ طول حياته تائهاً في زحام من المشاعر المرتبكة بين ملايين من البشر اللذين يبحثون مثله عن المعنى.
المعنى الذي في الحقيقة يكمن في داخلنا جميعاً قبل أن يتجلّى في آخرين، في مشهد بديع مليء بالدفء والعاطفة التي لا تعوضها كنوز الأرض.
جميعنا نحمل أرثاً مشوّهاً بالشروط المثالية للوصول التي أضرّت بالرجال والنساء منا وليس النساء وحدهن، ولهذا ارتبط الحزن الإنساني بالوحدة، فالإنسان كائن اجتماعي بطبيعته يحتاج للتعبير واستعراض عواطفه لتجلي ذاته وتحقيقها بمشاركة الآخرين، وليس التماهي معهم في دور محدّد وخوض رحلة قاسية لإرضائهم للحصول على احتياجاته من الحب أو الاكتفاء بان يكون ضلعاً في حياة الآخر.
ليس علينا كبشر البحث عن الحب إذن في الآخرين، بل علينا بشكل منطقي إيجاده في داخلنا أولاً، والتشبّع منه بالكامل، ثم بعد ذلك تأتي لحظة ممارسته في أقرب صورة صحية وقريبة من طبيعة الإنسان الحقيقية، وتجلي المشاركة وإهمال كل ما هو مثالي، رأسمالي ومرسوم ولا يمت لنا بصلة.
جميعاً نحتاج وقفة مع أنفسنا، كما طلب حسين من ليلى، لا لنجد الحب في نهاية الطريق، بل لإيجاد أنفسنا أولاً، سواء بعدها قابلنا الحب أم لم نقابله في الآخر، فهو موجود بالفعل بداخلنا وفي كل تجلياتنا المجردة من البحث الدائم عن شخص يكملنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومينحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 3 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين