شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الحب الذي يحيينا والحب الذي يقتلنا... العلاج بالمعنى

الحب الذي يحيينا والحب الذي يقتلنا... العلاج بالمعنى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الاثنين 5 فبراير 202401:31 م

"كركوبة بس بحنّ لها". توقفت عن الرقص لأسأل صديقتي إن كان المغنّي قال ذلك فعلاً، فأكّدت لي الجملة. اندهشت من وصف المغني لحبيبته التي تفعل له كل شيء في الحياة تقريباً بهذا الوصف: "كنت أعطل تملالي التنك، كنت أفصل هي باور بانك، مفيش صحة هي الفيتامين، باجي أصدع هي البروفين، مفيش صاحب هي الأنتيم، لو بغرق هي الدورفين".

حبيبته "الكركوبة" هي التي تحول مزاجه العكر إلى اللون "البينك"، وهي "الحنية" و"الملاغية"، وهي "الطعمية" حين يريد أن يتناول إفطاره، لكن أكثر ما لفت نظري أنها "الدولفين" (يغنيها الدورفين لكني ظللت أسمعها الدولفين، وسأعتبرها كذلك لأنها الأكثر منطقية) الذي ينقذه حين يغرق!

ظلّ لحن الأغنية وكلماتها عالقين في ذهني، أسمعها طوال الطريق إلى المنزل، فتمنحني طاقةً غريبة تعينني بعد مشقة التمرين، أو بعد محاضرة علم نفس طويلة تفتح الأبواب على كل الجروح الداخلية، ولا تنغلق الأبواب بانتهاء المحاضرة، بل تظل الجروح مفتوحة، فتأتي الأغنية بكلماتها الساذجة لتجعلني أعيش طوال الطريق في أحلام يقظةٍ ساذجة هي الأخرى، بأن أحدهم يوماً ما سيكون "البورفين" والمسكن لجروحي غير المرئية.

لو اطفأت الأغنية وأدرت صوت الوعي، سأسمعه يقول: "لا أحد يَشفي جروح أحد، أي شخص سيدخل حياتكِ وجروحك مفتوحة لن يضمدها بل سيلوثها ويزيدها سوءاً"، لكني في تلك اللحظات لا أكون بحاجةٍ إلى هذا الصوت، بل بحاجة إلى شيء يعزّز أحلام اليقظة داخلي، والتي اكتشفت مؤخراً أنها ليست سيئة تماماً، فرغم أنها تشلّ بعض الأشخاص عن فعل أي شيء، لأنها تُشعرهم بسعادةٍ ولذة الوصول دون حتى أن يحتاجوا أن يحركوا أصابعهم، لكنها مثلما تنقذ "الكركوبة" المغني من الغرق، قد تنقذ صاحبها من الرغبة في الموت بعد فقدان الرغبة في الحياة.

من الغريب أن يجعلني كتاب يتحدّث عن تجربة مروعة في معتقل أعيد التفكير في أسئلة خاصة بالحب، وأتساءل: لماذا تصمد خيالاتنا عن الحب أطول من علاقات الحب نفسها التي ندخلها؟

السيجارة وأحلام اليقظة

لدينا هذا المثل الشهير "اللي إيده في المية مش زي اللي إيده في النار"، والذي يتهم أي شخص يتحدث من برج عاجي ويوجّه نصائح من بعيد لآخر يعيش تجربة مريرة، لكن فيكتور فرانكل في كتاب "الإنسان يبحث عن معنى" لا ينطبق عليه ذلك، لأنه هو نفسه عانى من تجربة قاسية أثناء اعتقاله، لكنه لم يحك بطريقة بكائية "فعلوا بنا هذا وذاك"، بل كان يتأمل كل حدث صغير يحدث معه أو مع من حوله من جانب نفسي.

في ظروف المعتقل البشعة، يكون السجين محظوظاً إذا ما التقط الطباخ الذي يوزع الحساء قطع بطاطس أو حبات بازلاء من قاع الوعاء، أو إذا ظل لديه حذاء صالح ولم يضطر أن يعمل فوق الجليد بقدميه العاريتين، أو إذا لم يتعثر في الطريق الممتلئ بالجليد ويحظى بركلةٍ أو ضربةٍ من سياط الحراس. في هذه الظروف التي ترتد فيها احتياجات الإنسان إلى الحاجات البدائية، والتي يفقد فيها أي شخص طبيعي أي معنى للحياة، كان فرانكل قادراً على إيجاد هذا المعنى في صورة زوجته.

كان من الممكن أن ينزلق فرانكل مثل غيره فيما يعرف بمتلازمة "الأسلاك الشائكة"، ويلقي بنفسه على تلك الأسلاك المكهربة لينتحر في تلك اللحظة التي قذفه فيها أحد الحراس بقطعة حجر لأنه توقف لثوانِ ليلتقط أنفاسه، ورآه الحارس وظن أنه يتلكأ في العمل. لم يسبه ولم يقم من مكانه ليصفعه، بل أمسك بحجر وقذفه به، بنفس الطريقة التي يتعامل بها البشر مع الحيوانات. كانت لحظة قاسية، ربما أقسى من اللطمات والصفعات، فالألم النفسي الذي شعر به حينها بسبب تدنيه إلى مستوى حيواني، كان كفيلاً بشخص مثله يحلل كل شيء، ويشعر أن آخر ما تبقى من إنسانيته سُلب منه في تلك اللحظة، بأن يُلقى بنفسه على الأسلاك الشائكة أيضاً ويرتاح، لكنه لم يفعل.

في وسط كل القسوة التي كان يعيش داخلها تخيل صورة زوجته في سماء أحد الليالي وتخيل أنه يتحدث معها، وظل بعدها يمارس هذا الطقس، دون أن يعرف ما إذا كانت على قيد الحياة أم ماتت في المعتقل، ما كان يهمه في تلك اللحظات هو الاستعانة بالحب على الموت، وقد نجّاه الحب منه، حتى وإن كان الآخر غير موجود بشكل مادي، حتى وإن كان موجوداً في ذهنه وخيالاته فقط.

في بداية الكتاب يقول فرانكل إن السجناء كان من الممكن أن يحصلوا على سجائر مقابل قيامهم بأعمال خطرة مثل إطفاء الحرائق، ويمكنهم استبدال هذه السجائر بحساء، ولأن السجناء كانوا حرفياً يموتون من الجوع بسبب الوجبة الوحيدة التي يحصلون عليها ولا تكفي لجعلهم يقوون على العمل الشاق الذي يعملونه، فكان من الطبيعي أن يفكر السجناء بأن الحساء أهم من السيجارة، لكن حين كان يختار أحدهم السجائر، كان هذا مؤشراً على أنه فقد القدرة على المواصلة، وفقد رغبته في الحياة، ويريد الاستمتاع بأيامه الأخيرة بالمتعة المتاحة له: السيجارة.

أفكر الآن أنه لو كان لمثل هذا السجين حبيبة يتخيل وجهها ويأنس بتخيل وجودها لربما اختار الحساء بدلاً من السيجارة، فأحلام اليقظة -التي يُتهم كثيرون بعيشهم في الخيال بسببها- أنجت فرانكل، وتنجي كثيرين، ونجتني في كثير من الأحيان أيضاً.

يندهش الناس عادة من قصص الحب، ولا يصدقون أن أحدهم يقتل نفسه بسبب قصة حب عابرة و"تافهة" من وجهة نظرهم، لكن المشكلة ليست في الحب، بل في المعنى

الدولفين الذي ينقذنا يمكن أن يغرقنا

رغم أني أغرق في أحلام يقظتي كثيراً، لكني بتّ على الأقل أضبط نفسي وأفرق بين الخيال المفرط الساذج والخيال المقبول، أفرق بين ما قد ينجيني وما قد يقتلني، حتى فرانكل نفسه لم يعتمد على صورة "زوجته" فقط، بل أنقذ نفسه حين شعر بالسأم والاشمئزاز في إحدى المرات بسبب انحصار تفكيره في الحاجات البدائية، بأن تخيل أنه يقف في قاعة ويُلقي بمحاضرة أمام جمهور عن كل ما عاناه في المعتقل، وقد وجد في تخيله هذا معنى للعيش، مثلما نجد كاتباً أو فناناً في حالة اكتئاب وفجأة تتبدل حياته لأنه بدأ عملاً جديداً يمنحه دافعاً للحياة وسبباً للاستيقاظ في اليوم التالي.

من الغريب أن يجعلني كتاب يتحدّث عن تجربة مروعة في معتقل أعيد التفكير في أسئلة خاصة بالحب، وأتساءل: لماذا تصمد خيالاتنا عن الحب أطول من علاقات الحب نفسها التي ندخلها؟ كيف يستطيع أحدهم أن يستعين بصورة لحبيبته في رأسه ليتناسى البرد القارس والعمل الشاق الذي يقوم به، ويمنعه من شرب آخر سيجارة معه؟ وكيف يجعلنا تخيل حبيب سنقابله في المستقبل لمجرد سماعنا أغنية، أن نبتسم ونحن نسير في الشارع ونشعر بالراحة وبأننا سنجد من ينقذنا من الانزلاق؟ هذا "الدولفين" الذي سينقذنا من الغرق، وفي نفس الوقت أحياناً، بل كثيراً، ما يغرقنا.

الجملة التي تقتلنا

لا أتذكر عدد المرات التي قلت فيها عن شخص ما "لا أستطيع العيش دونه"، ولا أتذكر عدد المرات التي سمعتها من آخرين، لكني حين سمعتها مؤخراً فرحت أني لست قائلتها، وحزنت لأجل الأخرى التي لم تقلها تعبيراً عن فرحتها بالحب، بل من ذعرها من فقد الآخر، الآخر الذي تراه حب حياتها، وتخشى عليه من النساء جميعاً. أي امرأة أخرى هي عدوّ محتمل قد تخطف حبيبها. هي تصدق ذلك وتعيش داخله. تخيلتها واقفة أمام باب منزل وهي تمسك بمسدس تحسباً لأي امرأة تقترب من المنزل، وتخيلت حبيبها في الداخل مع أخريات في مشهد عبثي، لكنه واقعي، أكثر ما تحذرنا روحنا منه ونتجاهل صوتها ونبحث عن آخرين نلقي عليهم اللوم "خارجنا" هو بالتحديد ما علينا الخوف منه، وهو ما سيحدث يوماً.

في تلك الليلة حين تصور فرانكل صورة زوجته وتحدث معها، لم يقل في نفسه إنه لا يستطيع العيش من دونها لو علم بموتها في معسكر الاعتقال، بل استعان بوجودها الروحي متجاوزاً وجودها المادي، ولو تغلبت رغبته في الموت على رغبته في الحياة لظل يفكر أنها ماتت حتماً ولن يلقاها ثانية، لكنه رغب في الحياة، ومع رغبته هذه لم يكتفِ بصورة زوجته، بل فكر في أمور أخرى يعيش لأجلها، مثل شكل حياته بعد الخروج من المعتقل.

أعتقد أن هذا هو الفرق بين الأشخاص الذين ينقذهم الحب فعلاً من حياة بائسة، لأنهم يجدون به سبباً لتحسين حياتهم، لكنهم مع ذلك لا يركنون إلى الحب بالكامل ولا إلى الآخر وحده ليحل محل كل الأشياء في حياتهم، وبين أولئك الذين يستبدلون كل حياتهم بآخر، فيصبح هذا الآخر هو شغلهم الشاغل، لا يغادرون الفراش دون أن يخبروه أنهم استيقظوا لتوّهم، لا تبتسم أعينهم إلا برسالة منه، يبدؤون في تغيير خطط حياتهم لأجله، لو أن هناك سفر لدراسة يلغونه، ويبدؤون تدريجياً في إلغاء كل شيء لا يتناسب مع وجود الآخر، حتى يصبح هذا الآخر "الباور بانك" لطاقتهم، و"الأنتيم"، و"الدولفين"، والبديل لكل معنى في حياتهم، وحينها يأتي درس الحياة القاسي "أكثر شيء تتعلق به وتخشى أن تفقده هو بالذات الذي سيرحل عنك".

في اللحظات التي تعقب الانفصال لا تكون هناك سيجارة حتى يستمتع بها البعض قبل انتحاره، في تلك اللحظات تكون هناك صدمة وإنكار وبكاء لا ينقطع، بعض الأشخاص لا يستطيعون تجاوز مرحلة الصدمة وينهون حياتهم بسبب انفصالهم عمن يحبون.

الحب والسفينة المثقوبة

يندهش الناس عادة من مثل هذه القصص، ولا يصدقون أن أحدهم يقتل نفسه بسبب قصة حب عابرة و"تافهة" من وجهة نظرهم، لكن المشكلة ليست في الحب، بل في المعنى، فمثلما يمكن لعلاقة حب أن تمنحنا معنى لحياتنا، حتى في أحلك وأقسى الظروف (المعتقل)، يمكن لعلاقة أخرى أن تأخذ المعنى من حياتنا كله، حين تتحوّل هي إلى المعنى الوحيد، فماذا يفعل السجين حين لا يجد معنى لحياته؟ وماذا يفعل المحب حين يجعل المحبوب المعنى الوحيد لحياته، ثم يغادر المحبوب فجأة ويتركه؟ يلقي بنفسه على سلك شائك.

لا أتذكر عدد المرات التي قلت فيها عن شخص ما "لا أستطيع العيش دونه"، ولا أتذكر عدد المرات التي سمعتها من آخرين، لكني حين سمعتها مؤخراً فرحت أني لست قائلتها، وحزنت لأجل الأخرى التي لم تقلها تعبيراً عن فرحتها بالحب، بل من ذعرها من فقد الآخر

وضع فرانكل طريقة "العلاج بالمعنى". كان يرى أنه لابد للإنسان من معنى وهدف يعيش لأجله، وكان يسأل مرضاه الذين يعانون من شتى أنواع العذاب النفسي: "لماذا لم تنتحر؟". لم يقصد فرانكل بالطبع تشجيع المريض على الانتحار، بل كان يقصد العثور على ذاك الشيء الذي لأجله يتمسك المريض بحياته حتى الآن، وتكون الإجابة بمثابة أول الخيط لمعرفة المعنى الذي يعيش المريض لأجله، من المرضى من لم ينتحر لأجل أولاده، ومنهم لأن لديه موهبة يريد أن يستخدمها، وهكذا.

 أفكر لو أننا عكسنا السؤال وسألنا أولئك المقدمين على الانتحار بسبب تجربة انفصال: "لماذا ستنتحرون؟"، فإن إجاباتهم في البداية ستتشابه: "لا أستطيع العيش من دونه"، "أشعر بألم شديد لأنه تركني"، "أشعر أني سيئة"، لكن رويداً رويداً مع الحفر الداخلي، ستظهر إجابات تكشف المعنى المفقود في حياتهم، وتخص كل شخص منهم على حدة: "لم يحبني أحد في حياتي"، "لا أشعر أني أفعل شيئاً هاماً، كان الوحيد الذي يشعرني بأهميتي"، ومع الحفر أكثر ربما يقول أحدهم إنه بائس لأنه يشعر بالفشل، ليس في العلاقات فحسب، ولكن في حياته كلها.

لم يكن فرانكل يقصد بالتأكيد أن يكون المعنى هو السبب في قتلنا، لذلك من المهم أن يحفر الشخص داخله حتى يعرف أن هناك معنى مفقوداً بعيداً عن هذا الشخص الذي رحل.

يدخل معظمنا علاقات الحب ولديه أسباب للعيش، لكن في وسط الرحلة يجعل العلاقة هي السبب الوحيد للعيش، يجد نفسه فجأة داخل سفينة وسط البحر ولا يستطيع أن يذهب إلى أي مكان خارجها، حتى حين تتعرّض السفينة للغرق، وتكون هناك قوارب إنقاذ، يرفض كثيرون القفز، حتى حين يبلل الماء أقدامهم يرددون أنهم بخير، يظلون يرددون تلك الجملة حتى يصل الماء إلى صدورهم، وحينها يبررون لأنفسهم ولمن حولهم: "لا بأس، لا زلنا نستطيع التنفس". يرون بأنفسهم أن السفينة لا تستطيع إنقاذ نفسها، ورغم ذلك يظنون أنها ستنقذهم، ينتظرون دوماً أن تتحسن الأوضاع، ينتظرون وينتظرون حتى تغرق ويغرقون معها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard