شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
عندما اكتشفت أن باريس ليست عاصمة الحب

عندما اكتشفت أن باريس ليست عاصمة الحب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 15 فبراير 202412:51 م

إنه الحب الذي أدمينا قلوبنا للحصول على رقته الجارحة، تحمّلنا طعنات ألف سيف وألف فضيحة لتذوّق حلاوته بطرف ألسنتنا وطرف قلوبنا، جرّحنا ركبنا ونحن نزحف باتجاه منارته المضيئة، وصدّأنا أقفاصنا الصدرية ونحن نحميه مما يمكن أن يؤذيه.

بدأت نبضات قلب الحب للكون بأكمله، وبانتظام يشبه محركاً بحرياً بقوة شيطانية، سيظل يعمل مهما رحل العمال أو غرقت السفن أو غضب البحر علينا، ورغم مرور آلاف السنين وملايين القصص وعدد لا يحصى من القصص المؤلمة للمشاعر، إلا أننا مازلنا لم ندرك للحب معنى ثابتاً موحداً، ومازلنا نجيب على أسئلة الصف الدراسي الأول، تارة بحكمة وتارة بسخرية أو حزن، فكل يغنيه بحنجرة خاصة، وكل يراه من حدقته المتصلة بروحه وقلبه وذاكرته، وأول خفقة وأول قبلة وأول لمسة غير بريئة، لذلك قرّرت أن أكتب اليوم عن حبي أنا، حبي الذي أتعب مفاصلي وجعلني كخذروف ملون، أدور في مكاني كالبلهاء، مبتسمة للدوار والشمس.

من قال إن باريس عاصمة الحب، مدين لي بأموال وأوقات وأحلام تحطمت على مدرج مطار شارل ديجول وصالة استقبال المسافرين. لن أتهم باريس بالقبح حتى لا تتهموني بالرغبة في الجدل، ولكنها كانت بالنسبة لي جزءاً ثانياً من فيلم "السفيرة عزيزة"، فالجميع يتحدث عنها، حتى أحبها كل من لم يراها، لكنني لم أفعل. يبالغون؟ بالتأكيد فلو لم تكن الضجة المحاطة بباريس موجودة، وعاملها العالم معاملة لشبونة أو إسطنبول أو حتى القاهرة، لكانت التجربة ستبدو أفضل، لكن آه من التوقعات يا أصدقائي. تلك التوقعات التي تثير خيالاتنا الحساسة وتجعلنا لا نرضى بالمألوف، لأن الرأي الجمعي لم يصفها لنا ولو لمرة على أنها مجرّد عاصمة لفرنسا، فوضوية ورائحة بول القطط تملأ أجواءها.

إنه الحب الذي أدمينا قلوبنا للحصول على رقته الجارحة، تحمّلنا طعنات ألف سيف وألف فضيحة لتذوّق حلاوته بطرف ألسنتنا وطرف قلوبنا، جرّحنا ركبنا ونحن نزحف باتجاه منارته المضيئة، وصدّأنا أقفاصنا الصدرية ونحن نحميه مما يمكن أن يؤذيه

ما زلت أتذكر انزعاجي من الباعة الجائلين شديدي الإلحاح تحت برج إيفل، والبرد الصارم الذي جعل علاقتي بالمكان لا تتعدّى فنجان قهوة، حتى وأنا أجلس في حضن المدفأة. الرجل الفرنسي؟ هو ليس بقيس بن الملوح ولا حتى أحمد زكي أو محمد هنيدي. رجل طبيعي ككل رجال الأرض، أحمق غالباً وبذيء دائماً، وكنت قد طوّرت نظرية خاصّة، تأكدها لي الحياة دوماً، بعدما أبحرت في قاراتها شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً: الرجال متشابهون في كل ما يخصّ الأمور التي لا نرغب بأن نكون متشابهين فيها، فلقد رأيت بعيني صديقتي المكسيكية وهى تغار من أمها على صديقها، ورأيت صديقة من الصعيد تتعامل مع الأمور بلامبالاة، فلا طباع شرقية أو غربية، إلا في الحلوى، وليس في الحب، أو المشاعر الإنسانية في العموم .

تنتج الهند سنوياً ما يقرب من 950 فيلماً رومانسياً من أصل 1780 فيلماً تخرج من استديوهاتها، مع العلم أن رومانسية متوارية تتخلل الأفلام المتبقية، لكننا لا نستطيع أن نقول إن "نيودلهي" مدينة الحب. لن أنكر أنني أتحيز لشعبها بأنهم الأكثر دراية بممارسة الحب وتفاصيله، ولكن لا يرجع ذلك إلا لترابط الأسرة وطباع الهنود في التأقلم على الوضع الراهن بمبدأ الرضا والتراضي.

لوحة فنية جميلة من بعيد، اكن لو اقتربت منها سترى بعضاً من العيوب الخفية تم ترميمها بعناية، لذلك هم الأقوى في الترابط الروحي وقصص الحب المعمرة، حتى ولو لم تكن حقيقية، والدليل على ذلك انتشار فكرة الزواج المدبر حتى الآن بنسبة تتخطى 70%.

وماذا عن أمريكا اللاتينية ودول أفريقيا، وحتى الدول العربية التي زرتها؟ القصص متشابهة باختلاف التفاصيل: حب مجنون أو تقليدي بطريقة تحبس الأنفاس.

مؤخراً قابلت أحد أفراد رحلتي إلى أوغندا، هندي متزوج من أوغندية، حارب معها خمس سنوات حتى حصلت على الطلاق من زوجها الكيني، ولكنه الآن، وبعد ست سنوات زواج، يتحدّث عنها وكأنه متزوج من ابنة عمه الهندية دون أن يواعدها قبل الزواج .

"العيب فيكم يا ف حبايبكم... أما الحب ياروحي عليه"، هكذا تغنّت كوكب الشرق منذ ما يقرب من ستين عاماً، ولكن ما كتبه مرسي جميل عزيز، مؤلف الأغنية، لم تكن مجرد كلمات بالنسبة لي، بل كانت نهجاً يسير عليه قلبي، أنا الفتاة اللي اقتربت من النصف الثاني للثلاثينيات دون أن يعصف قلبها حب قوي، كالذي حلمت به منذ بدأت في قراءة روايات إحسان عبدالقدوس في مراهقتها، فكل زميلاتي في المرحلة الثانوية توقعن لي زواجاً مبكراً أو قصة حب على مستوى إدراكهن للحب، نتيجة تصريحي الدائم برغباتي وأحلامي التي لا تأتي إلا عن طريق الحب. لم يتخيل يوماً، كل من يعرف مفاهيمي عن الحب، أنني سأظلّ كالطير الشريد يبحث عن رفيق لهذا العمر.

لكنني كنت دائماً و أبداً أنتظر "حلمي" كما هو في المقطع الثاني من كلمات مرسي جميل عزيز في "سيرة الحب": "وقابلتك أنت، لقيتك بتغير كل حياتي". كنت أجسّد دور "أبلة تهاني" في فيلم "شقة مصر الجديدة"، و كأن محمد خان قرّر أن يقول لي إنني أسير على الطريق الصحيح، فالحب ليس مجرد شخصية ترتاح لها وتمارس معها تفاصيل الحياة، بل لكل آدم في الحياة "حوّاه" المناسبة للفراغ، الهوّة، الجرح الذي بداخله، ومن وجهة نظري، لابد وأن يواجه آدم وحواء الابنان، مصير آدم وحواء الأبوين، في أصعب رحلة بحث في تاريخ الإنسانية، لأنها رحلة بحث عن الجزء الناقص من الروح، ومهما كانت الرحلة متعبة، فالعاشق فقط هو من سيصمد أمام الإشارات الخاطئة ومغريات الحياة وتقلبات المشاعر، وقلّة الحيلة والمصير.

نعود إلى بلد الحب، بعدما اكتشفت أن باريس هي الإجابة الخطأ، وكذلك الهند وإيطاليا والهند و إسبانيا والكاميرون، وكل دول العالم، فبلد الحب الحقيقي هو قلب من تحب، ذلك الشخص الذي يظهر من العدم لتكتشف أنك تعرفه وأنت لا تعرفه، تراه في كل شيء وترى به كل شيء، يأسر أوقاتك ويجعلك تسير على توقيت بهجته، عندما تتحول "السترونج إندبندت وومن" التي توقع لها الجميع أنها لن تقع أسيرة في خيوط شبكة الحب، ففاجأتهم جميعاً بنسختها التي لم تظهر حتى أمام المرآة.

سنظل نحن ومن سيأتي بعدنا، نحتار في نفس المفاهيم، ونسأل أسئلة بديهة، ونكتب عن الحب، وسيظل الغالبية يثرثرون حول اختفاء الحب و يشكّكون في وجوده، ولكن تذكروا جيداً في تلك اللحظة أن "العيب فيكم يا ف حبايبكم... أما الحب ياروحي عليه"

تلك الفتاة التي ترقص لحبيبها، وتستكين على صدره كأنها قطة حديثة الولادة، تتحدّث عن البيت والاستقرار وتعشق كل ما يحيط به، تطهو له في خيالها وتختار البهارات المناسبة والنبيذ والحلوى، وهي تتخيل حياة كاملة معه كانت تسخر منها العام الماضي، في نفس الوقت واليوم والساعة والتاريخ.

عرفت الأن لماذا كنت أعشق بشرة أحمد مظهر ووسامته، ولماذا كان النجم الهندي عمران هاشمي الأفضل لي، على الرغم من وجود شاروخان وسلمان خان و رانبير كابور بجانبه، وسط لوحة نجوم بوليوود. لماذا كنت أعشق الورود البنفسجية وأذوب عشقاً على صوت وردة وهي تردّد "بتونس بيك" أو "آه لو قابلتك من زمان"، ولماذا أجيد طهى وجبات بعينها أو أضع أحمر الشفاه هذا تحديداً، كنت أسبح وسط الإجابات كفراشة فوق ورود نسيان حتى وجدت الأسئلة معه، تلك الأحلام الغامضة التي كنت أشعر بلمسته فيها، وأقسم أنني أعرفها ولا أعرفه، لكنني تذكرتها جميعاً من اللمسة الأولى.

الحب ثابت، الشغف لا يموت والملل لا يزور قلوب المحبين، والزواج ليس نهاية الرحلة. التطور والسرعة والتكنولوجيا والانتخابات المزوّرة والحروب لا يؤثرون على الحب الحقيقي. هم فقط يكشفون الفروقات بين الحب و الاعتياد الموهم بالحب، وسنظل نحن ومن سيأتي بعدنا، نحتار في نفس المفاهيم، ونسأل أسئلة بديهة، ونكتب عن الحب، وسيظل الغالبية يثرثرون حول اختفاء الحب و يشكّكون في وجوده، ولكن تذكروا جيداً في تلك اللحظة أن "العيب فيكم يا ف حبايبكم... أما الحب ياروحي عليه".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image