بأظافر من ليل، ورغبةٍ محمومة في تجاوز الحدود، بالأحرى التهامها، مزّقت الشاعرة الفرنسية المصرية جويس منصور (1928-1986)، كل ما تكدّس على جسد العالم من أعراف وتقاليد، وكل ما ترسّخ من سلطات أبوية وذكورية، لتعبر إلى الجانب الآخر، وترسل لنا من هناك قصائدها الشهوانية المدمرة، وهي منتشية بمتعة القتل، ومجابهة العنف بالعنف، واستفزاز الموت، إلى أن وصلت إلى ذرى الحرية، لتقيم هناك في عالم الجمال العاري، ومن وقتٍ إلى آخر كانت تسمح لنا بالتلصص على هذا العالم من خلال القصيدة فقط، دون أن تبوح بالسرّ.
فمن هي هذه الشاعرة "المرأة ذات لحية البومة/ التي تحضن تحت تنوراتها المليئة بالضباب/ الليل اللانهائي والعاصفة"؟ ربما من يقرأ ويستكشف تجربتها الشعرية، يطرح السؤال بشكلٍ آخر: "هل حقاً كانت جويس منصور، مصريةً؟ ومن حقه أيضاً أن يسأل: "هل كانت فرنسيةً"؟ ولأن هذه الشاعرة كانت ندهةً مغويةً، فمن حقنا جميعاً أن نسأل: "هل كانت جويس منصور امرأةً حقيقيةً؟ فهذه الشاعرة التي أخذت الواقع من يده إلى عالم الخيال، قالت ذات مرة خلال ارتحالاتها الحلمية في أنحاء العالم: "وُلدتُ عام 1928 في أعماق اليونان القديمة"، أما التساؤلات حول هويتها فهي مشروعة بالنظر إلى عالمها الشعري الإيروتيكي المجرد من أي نزعات عقائدية أو عرقية، حيث الجسد البشري هو العالم الذي تسعى إلى تحرير رغباته الكامنة المقيّدة، عبر مساعدته على استكشاف نفسه بنفسه بطرق غير اعتيادية: "فتحت رأسك لقراءة أفكارك/ طحنتُ عينيك لتذوّق بصرك/ شربت من دمك لأعرف رغبتك/ ومن جسدك المرتعش صنعتُ طعامي".
من حقنا جميعاً أن نسأل: "هل كانت جويس منصور امرأةً حقيقيةً؟ فهذه الشاعرة التي أخذت الواقع من يده إلى عالم الخيال، قالت ذات مرة خلال ارتحالاتها الحلمية في أنحاء العالم: "وُلدتُ عام 1928 في أعماق اليونان القديمة"
برغم شهرتها العالمية الطاغية كشاعرة مصرية، أشعلت جويس ثورةً فنيةً منذ انتمائها إلى الحركة السريالية في العاصمة الفرنسية باريس، إلا أن سيرتها الحياتية ظلت مجهولةً، وبعيدةً عن أعين الباحثين والنقاد، الذين هم أنفسهم مارسوا نحوها -بعد وفاتها تحديداً- تجاهلاً ربما يكون متعمداً، وقاموا بأرشفتها في زاوية الشعر الإيروتيكي، وتصوير قصائدها على أنها ليست أكثر من كتابات إباحية أو هلوسات ذاتية، متجاهلين منجزها السردي والنثري الهائل، وكذلك ناسفين شعريتها، وبعضهم من ذوي العقول الظلامية المتحجرة، ومن الرافضين والمرتعشين أمام أي كتابة مختلفة ومتجاوزة، والبعض الآخر -وهؤلاء ينتمون إلى الغرب ويقفون على الجانب الآخر من الحركة السريالية- قاموا بقتلها شعرياً وفنياً بعد وفاة الأب الروحي لها مؤسس السريالية الشاعر الفرنسي أندريه بريتون، حيث قادوا حملةً شعواء ضدها، وروجوا بأن المشروع الشعري لجويس لم يعد له أي تأثير، لأنه لم تكن له أي جذور في أي أرض.
وهم بذلك ينتمون بشكلٍ أو بآخر إلى الفريق الأول، كما أن ما روّجوا له، ينطوي على رؤية ضيقة لمفهومهم عن الشعر وربما على عدم فهم لعالم جويس الشعري؛ هذه الشاعرة التي أرادت التحليق بعيداً، وكان عليها أن تتحرر من أي جذور.
لسنوات ظل الباحث والفنان التشكيلي المصري محسن البلاسي، المعروف بكونه فناناً سريالياً، يبحث ويُنقّب في سيرة جويس المجهولة، مستعيناً بأصدقائها وما تبقّى من عائلتها، التي وضعت بين يديه كل ما يخصّ الشاعرة من وثائق ومراسلات ومخطوطات، ومؤخراً أصدرت دار صفصافة للنشر في القاهرة، هذه السيرة البحثية للبلاسي، في كتاب ضخم بعنوان "طفلة مسك الروم"، يضم وقائع حياتها في القاهرة وباريس، ووثائق يُكشف عنها للمرة الأولى، وشهادات ورؤى نقدية وفلسفية حول منتجها الشعري والسردي، وكذلك تحتوي هذه السيرة على كل من أحاط بجويس من أصدقاء، وتأريخ للحركة السيريالية المصرية وعلاقتها بالسريالية الفرنسية.
لأبوين يهوديين مصريين، وُلدت جويس منصور في الخامس والعشرين من تموز/يوليو عام 1928، في بودين في إنكلترا، وفور ولادتها، عادت الأسرة إلى مصر، لتعيش جويس طفولتها وشبابها في حي الزمالك في القاهرة قبل أن تنتقل إلى باريس في عام 1956 لتستقر هناك حتى وفاتها عام 1986. والشاعرة هي الطفلة الثالثة لوالديها، ولها شقيقان: ديفيد ونورمان، وشقيقتان: جيني وجيليان. أما والداها إيميل ونيللي أديس، فهما من اليهود السفارديم، يحملون الجنسية البريطانية، وانتمت هذه العائلة إلى الأرستقراطية المصرية، إذ امتلك والدها مصانع للمنسوجات، وعمل في البورصة وغيرها من الأعمال، وكانت له علاقات دبلوماسية قوية مع الجاليات الأجنبية التي كانت تُقيم في مصر آنذاك وعلى رأسها السفير البريطاني.
تلقت جويس تعليماً بريطانياً على يد مربّيتها الإنكليزية، قبل أن تُسافر إلى سويسرا لتتلقى تعليماً صارماً، بجوار الرقص والموسيقى، وبعد عودتها إلى مصر، التحقت بجامعة القاهرة، وكانت فتاةً مفعمةً بالحياة، تمارس رياضة الركض، وتُشارك في مسابقات ركوب الخيل، وتُغنّي غناءً أوبرالياً، لكن على الجانب الآخر، كانت مسكونةً منذ صغرها بعبور هذا العالم الأرستقراطي، لترى عالماً آخر، وهو ما سعت إلى تحقيقه منذ طفولتها، حين تسلقت سور بيتها مع ابن البواب الذي أحبته، ليعبرا معاً إلى الجانب الآخر من العالم بعد أن وبّختها عائلتها بسبب هذه العلاقة.
وكان ذلك أول فعل تمرد تقوم به جويس، هي التي مزّقتها الأزمات الوجودية منذ صغرها. هذه التمزقات التي تفاقمت، بعد وفاة أمها وهي في الخامسة عشرة من عمرها. موت الأم كان الجرح الأول في حياتها، ومن رحم هذا الفقد وُلدت جويس منصور جديدة، وتصف ذلك الفقد في قصيدة نُشرت بعد وفاتها تقول فيها: "لقد ماتت أمي ليلة أمس/ نجيني من آلامك/ أنتِ متجمدة من الرعب تحت قناعك الزجاجي/ نجيني من قبلاتك الأمومية/ ازحفي على ركبتي/ مثل الرخويات/ ساعديني يا أمي/ نجيني من غيابك".
تحكي أختها الصغرى جيليان عن مدى تأثر جويس بوفاة والدتها، حيث لم يكن في إمكانها تقبّل ما حدث، وهذه الحالة من الدمار النفسي، جعلتها تسير وتتجول في أنحاء المنزل في أثناء نومها، ولتجاوز ذلك انخرطت الفتاة الصغيرة في المسابقات الرياضية، فكانت تقضي أياماً كثيرةً في الركض، لتجاوز نفسها جسدياً، والتحرر من ذكرياتها مع أمها، لكنها لم تقوَ على ذلك، وهنا نما وتأصل داخل عقل الشاعرة ثأر مع الموت، فأمضت حياتها تُحاربه، وتستفزه عبر قصائدها، وعلى المستوى الواقعي، رأت جويس أنها لا بد أن تلتهم الحياة وتعيشها على أكمل وجه، كي تضع الموت في مأزق. أرادت أن تفني جسدها بنفسها عبر المتعة الجنسية، حتى لا تُبقي للموت شيئاً منها.
في عامها الثامن عشر، التقت جويس في نادي سبورتنج في الإسكندرية بزوجها الأول هنري نجار، الذي يكبرها بعامين فقط، وكان من أصل إيطالي وينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية، غير أن هذا الشاب الوسيم، سرعان ما يموت بمرض السرطان بعد أشهر عدة من زواجهما، مما تسبب في خلل عنيف آخر في حياة جويس التي استسلمت لآلام الحداد الجديد، وقد عبّرت عن هذه الآلام بعنف بالغ في مجموعتها الشعرية الأولى صرخات: "مكائد يديك العمياء/ على ثديي المرتعش/ الحركات البطيئة للسانك المشلول/ في أذني البائسة/ الموت في بطنك يأكل عقلي/ كل هذا يجعلني شابةً غريبةً". وهكذا رصّعت المآسي المتعاقبة شباب جويس، وهذه المآسي ستميز عالمها الشعري في ما بعد، لكنها لا تقف عاجزةً أمامها بل تحاول مجابهتها بالعنف والتدمير لتجاوزها إلى عالمها الآخر الأثير.
ووفقاً لشهادة الناقد الفرنسي آلان جوفروي: "حاولت جويس منصور كَيّ جروحها بمساعدة الشعر، الأمر الذي سيصبح بالنسبة لها ضرورةً حيويةً وجديةً ووسيلةً للثورة". أما جويس فتقول في مقابلة مع جان بيير إنكيري حين سألها متى وكيف وُلدت داخلها الذات الشاعرة؟ "شعرتُ في البداية بالانجذاب إلى الشعر حين كنتُ طفلةً مريضةً؛ العالم الذي تتخلله الحقن والجرعات الدوائية صدمني فجأةً باعتباره بغيضاً، ولجأتُ إلى الشعر".
بعد عام من وفاة زوجها الأول، التقت جويس، بسمير منصور، وكان رجلاً وسيماً، قضى العشرين عاماً الأولى من عمره في فرنسا، وتزوجته عام 1949، وأنجبت منه طفلين، ويحكي سمير أن جويس كانت مغرمةً بشغف بأبنائها وكان إفراطها في حبها لأطفالها جزءاً من سحرها وجاذبيتها. وخلال حياتها السعيدة مع سمير منصور، أتقنت جويس الفرنسية كلغة كتابة وحديث، حتى تعرفت إلى الشاعرة والكاتبة ماري كافاديا التي ستسحر جويس بأفكارها العجيبة. أما ماري كافاديا فهي شاعرة وكاتبة وُلدت في رومانيا، وأمضت طفولتها في باريس، وجاءت إلى مصر عام 1929، وتزوجت من ممدوح رياض وكان وزيراً سابقاً، وكان لماري صالون ثقافي نخبوي، يتردد عليه الكثيرون من النخبة الأجنبية المثقفة التي تعيش في مصر، وحظي بشهرة واسعة في فترة الثلاثينيات، وتردد عليه جورج حنين، وأندريه جيد خلال زياراته إلى مصر، وكان هذا الصالون بالإضافة إلى صالونات أخرى وجماعات ثقافية وفنية، جسراً ثقافياً بين مصر والحركة الثقافية والفنية في فرنسا، نوقشت فيه تطورات الحركة السريالية، وصيغت فيه الكثير من البيانات الخاصة بالحركة السريالية المصرية. وقعت جويس في حب ماري كافاديا، وسحرتها هذه الشاعرة بعوالمها الأسطورية واهتماماتها الخيميائية، فأصبح هذا الصالون بمثابة البيت الخيالي لجويس الذي يجتمع فيه سحرة الشعر والمهتمون بالخيمياء والعوالم الباطنية وعلم أصول الكلمات، وكانت ماري ومعها جورج حنين من أوائل من أُعجبوا بمخطوط الديوان الأول لجويس "صرخات"، وهو ديوان سريالي بامتياز، كتبته جويس بالفرنسية، وقد خرج كالطلقات من المساحات الخيالية التي كانت جويس قد خلقتها داخل عقلها، حيث تضافرت مفرداتها الشعرية مع عنفها الإيروتيكي المميت والممتع في آن.
برغم شهرتها العالمية الطاغية كشاعرة مصرية، أشعلت جويس ثورةً فنيةً منذ انتمائها إلى الحركة السريالية في العاصمة الفرنسية باريس، إلا أن سيرتها الحياتية ظلت مجهولةً وبعيدةً عن أعين الباحثين والنقاد، الذين هم أنفسهم مارسوا نحوها تجاهلاً ربما يكون متعمداً، وقاموا بأرشفتها في زاوية الشعر الإيروتيكي
وبفضل الشاعر والكاتب جورج هونيه، نشرت جويس منصور قصائدها الأولى في فرنسا، حيث تعرفت إليه حين كانت دائمة التردد على باريس في عام 1953. اختار هونيه معها 70 قصيدةً، وعرض المخطوط على الناشر بيير سيجغز، الذي سيصبح ناشرها المستقبلي. فُتن بيير بقصائد جويس، وكتب عنها مقالةً بعنوان "جويس منصور سيدة غريبة" جاء فيها: "لقد حملت جويس منصور بالفعل الشعر بداخلها كشرّ سرّي لا يُحصى، لأكون صريحاً غير عقلاني تماماً. من القصائد الأولى فهمت كل المعنى الوحشي ورأيت كل التمرد".
أندريه بريتون: "الشعر السريالي هو أنت يا جويس"!
في الثامنة والعشرين من عمرها، ونتيجةً للقرارات التي اتخذتها الدولة المصرية في أثناء حرب السويس عام 1956، لتهجير اليهود من مصر، هاجرت جويس بصحبة زوجها سمير منصور، إلى باريس، لتصبح أسطورة الشعر السريالي، وتُحاك الأساطير حول غموضها وغرابتها، فبحسب الكاتب: "فور وصولها إلى المجتمع الأدبي في وسط باريس، اتجهت كل العيون إلى الذئبة الوافدة حديثاً من مصر. كان جمالها الضاري يتركز في دموية عينيها الذئبيتين. امرأة ذات وجه سحيق وغرة قصيرة وفم سخي تتخلله شامة، تهرب منها نظراتها الحارقة التي ألقت تعويذةً جنونيةً على المجتمع الأدبي الباريسي".
أما عن موقف جويس من عملية الهجرة القسرية من وطنها مصر، فقد تجنبت الخوض فيها، بل -بحسب البلاسي- تجنبت الحديث عن كل ما يخص الأوضاع السياسية المصرية، برغم أنها ظلت طوال حياتها تُعرّف نفسها كشاعرة مصرية، وبشكل عام ابتعدت جويس عن السياسة، حتى أنها لم تُشارك في ثورة 1968 في باريس، وكانت تتجنب السير في الشوارع في وقت خروج المظاهرات.
انخرطت جويس وسط الفنانين والشعراء والشاعرات السرياليات، وشاركت في صياغة الكثير من النواحي الفلسفية والفكرية للحركة السريالية، غير أن علاقتها بأندريه بريتون، كانت العلاقة المحورية والاستثنائية في حياتها. فُتن بريتون بجويس وأطلق عليها: "طفلة مسك الروم"، وكان يرى قصائدها أفضل تجسيد للأفكار السريالية، وكان يردد دائماً: "الشعر السريالي هو جويس منصور". وبرغم المقابلات اليومية بينهما إلا أنهما كانا يُحبان تبادل الرسائل، التي احتفظت بها جويس في صندوق سجائرها.
رحلت جويس منصور عن الدنيا، في عامها الثامن والخمسين، بعدما أصيبت بمرض السرطان، تاركةً لنا منجزاً شعرياً ونثرياً هائلاً: 16 ديواناً، و5 كتب نثرية، وسعت خلال هذه التجارب إلى تجاوز الحدود التي يفرضها المجتمع، لإعادة الاعتبار للجمال بتحريره تحريراً شاملاً وحقيقياً، فقط عبر تحرير الرغبة ونشوة تحطيم حدود الزمان والمكان. إنها عن جدارة "البطلة الأخيرة للمغامرة السريالية" التي هزت ومزقت الثوابت المتحجرة القاتلة، إلى أن وصلت إلى ذرى الحرية كقصيدة عارية حد الموت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه