شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الملائكة، يا لها من كلمة تُثير خيالنا

الملائكة، يا لها من كلمة تُثير خيالنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 26 مارس 202304:16 م

الملائكة، يا لها من كلمة تُثير خيالنا

استمع-ـي إلى المقال هنا

"ماذا فعلت يد الزمن بنازك الملائكة؟". لهذا السؤال الذي طرحته الكاتبة والمترجمة العراقية حياة شرارة (توفيت انتحاراً هي وابنتها عام 1997)، في مقدمة كتابها "صفحات من حياة نازك الملائكة"، وقعٌ خاص ومؤلم، حين نتتبع المسيرة الحياتية والإبداعية للشاعرة العراقية الرائدة نازك الملائكة (23 آب/أغسطس 1923- 20 حزيران/يونيو 2007)، وعندما نمضي قدماً في صفحات حياتها، ربما نطرح سؤالاً آخر: ماذا فعل الشعر بـ "عاشقة الليل"؟ بل ماذا فعلت بها مهاويس الحداثة؟ ربما علينا في البداية أن نجيب على هذا السؤال الأخير لنعرف لماذا انطفأت نازك مبكراً وهي في أوج تألقها وفي شدة عنفوانها، مرتكنةً إلى العزلة والصمت؟

إنها في نظر بعض شعراء ونقاد جيلها: المرتدة، والباحثة عن التوبة، والرجعية المتخلفة، وأوصاف أخرى كثيرة نُعتت بها صاحبة "شظايا ورماد"،"يُغير ألوانه البحر"،"قرارة الموجة"، و"شجرة القمر". غير أن الشاعرة لم تصمت في البداية إزاء هذا الهجوم الكاسح عليها وهذه السخرية السخيفة، بل إنها كشاعرة أصيلة، دخلت المعركة بصلابة، متسلحةً بثقافتها الواسعة، وبإيمانها الشديد بما تمتلكه من موهبة، بالأحرى بوعيها الفذ بروح الشعر العربي.

لكنها في لحظة من الزمن، قررت الانسحاب والانزواء عن الجميع، مكتفية بالغناء والعزف على العود، وربما في أوقات خاصة كانت تناجي ربة الشعر، وشعراءها المفضلين: علي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وبدوي الجبل، وبشارة الخوري، وإذا اشتعل بها الحنين، كانت تعود إلى قصائد أمها سليمة عبد الرازق الملائكة، وجَدّتها هداية، وجدّها محمد حسن كبة، ربما لأنها تشتاق دائما إلى الموسيقى/موسيقى الشعر. هي سليلة الشعراء والشاعرات وابنة مملكة الشعر السحرية.

قصيدتي ستغير خريطة الشعر العربي

في أثناء انتظار نازك لصدور ديوانها الأول "عاشقة الليل"، كانت ترد أنباء مفجعة عن انتشار وباء الكوليرا في مصر الذي يحصد المئات يومياً، كانت نازك بعاطفتها الجارفة تتابع أخبار الموت وقلبها يحترق على هؤلاء الموتى. وهي كشاعرة ذي انحيازات إنسانية في المقام الأول، حاولت التعبير عن حزنها شعراً، حتى تصل إلى حالة من الاستقرار النفسي، لكن ما كتبته لم يرق لها.

لقد هضمت الشعر العربي منذ نعومة أظافرها، ودرسته دراسة أكاديمية متعمقة، إضافة إلى أنها كانت على دراية واسعة بالشعر الشعبي العراقي الذي كان قد فك أو "حلحل" صرامة الشعر القديم سواءً في قوافيه أو تركيباته أو تفعيلاته

ظل الوضع هكذا بالنسبة للشاعرة المشتعلة، لكن هذه النار لم تأت بقصيدة، تُعادل حجم المأساة. حتى حانت لحظة تفجر الشعر، ففي 27 تشرين الأول/أكتوبر عام 1947، كانت نازك مسترخية على فراشها، تستمع إلى الأخبار التي يبثها الراديو، وعندما سمعت أن عدد الموتى قد وصل في يوم واحد إلى ألف، انتفضت وكأن ناراً قد مستها. وكما تحكي حياة شرارة في كتابها السابق ذكره، فإن نازك في ذلك اليوم البعيد: "اهتاجت نفسها واهتزت أحاسيسها فنهضت من الفراش وغادرته. تناولت قلماً ودفتراً وذهبت إلى منزل مجاور لها مازال في طور البناء، فجلست فيه بعيداً عن ضوضاء بيتهم وبدأت تكتب فخرج الشعر منساباً متدفقاً حياً وملتهباً. لكنه خرج بشكل جديد عما اعتادت أن تكتبه".

إنها لحظة تفجر شعري، ليس ذلك فحسب، بل كانت ولادة جديدة؛ فثمة شكل شعري جديد خرج من تلك الروح المشتعلة للشاعرة التي كما قالت من قبل، كانت تنصت لوقع الخيول التي تجر العربات والموتى بداخلها. ربما هذا الإنصات وهذا الالتحام الانساني العارم هو ما جاء بهذا الشكل الشعري الجديد (الشعر الحر)، الذي هز إلى حد ما عمود الشعر العربي الراسخ.

شعرت نازك الشابة القلقة المتأججة بأن ثمة شيئاً جديداً وُلد على يديها، فراحت تشارك فرحة قصيدتها الجديدة التي أسمتها "الكوليرا" مع والديها، لكنهما قابلاها بنفور واستغراب وسخرية. قالت لها أمها: ما هذا الوزن الغريب؟ إن الأشطر غير متساوية وموسيقاها ضعيفة يا بنيتي. وكان هذا أول جفاء يُقابل به الشعر الحر الوليد. أما والدها فقد رد ساخراً ببيت من الشعر على تكرار كلمة الموت في القصيدة: لكل جديد لذة غير أنني/وجدتُ جديد "الموت" غير لذيذ. لم ينصفها أحد في البيت سوى أختها إحسان التي أعجبت بالقصيدة. أما نازك فقد واجهت هذه السخرية من جانب والدها بهذا الرد: قل ما تشاء. إني واثقة أن قصيدتي ستغير خريطة الشعر العربي.

حواء التي أغوت الشعراء

وهكذا كان أول اصطدام قوي للشعر الحر بممثلي الشعر العمودي، شهدته نازك من قبل عائلتها، قبل أن يصل هذا الصدام إلى الخارج على صفحات الجرائد والمجلات الثقافية، ليخوض هذا الشعر الجديد معركةً غير متكافئة مع الشعر العمودي الراسخ منذ مئات السنين. غير أنه سرعان ما احتل "الوليد الجديد" مكانته، وأصبحت نازك الملائكة بقصيدتها "الكوليرا" التي تمثل "التاريخ الرسمي للشعر الحر" حواءَ الشعر، التي أغوت سلالة من الشعراء بالخروج من جنة الشعر العمودي إلى طرق أخرى، مقدمة اقتراحات جديدة في خريطة الشعر العربي.

كان هناك حماس عارم من جانب الشعراء، حيث عكفوا على هدم وتكسير هذا العمود الثابت للشعر العربي الذي على جانبيه دوّن العرب تاريخهم وثقافتهم. ليس ذلك فحسب، بل حَمى الإيقاعات العربية من الضياع عبر الأوزان التي هي بمثابة نوتات موسيقية خاصة بروح العرب وثقافتهم.

وقبل أن ندخل في ما سماه البعض بـ"ردة نازك الملائكة"، علينا أن نُشير إلى الآراء النقدية والتأريخية التي حاولت في تلك الفترة أن تُنسب فضل تأسيس قصائد التفعيلة لواحد دون آخرين من تلك الكوكبة العراقية الرائعة التي حملت على عاتقها تجديد الشعر العربي بدءاً من منتصف القرن العشرين، فهناك من يُنسب الريادة إلى بدر شاكر السياب، متجاهلين ما فعلته نازك، غير أننا نرى أنه ليس منصفاً أن ننكر الجهد الرئيسي والأساسي الذي بذلته نازك الملائكة والذي توجته بديوانها الأول "عاشقة الليل" عام 1947. بل يُمكننا القول إنها كانت النجمة الساطعة –شعراً وتنظيراً- لهذا النوع الشعري الجديد، مقارنة بشعراء حقبتها مثل عبد الوهاب البياتي، وبدر شاكر السياب، وشاذل طاقة، وبلند الحيدري، حيث لم يقتصر جهدها على إصدار دواوينها الشعرية، وإنما عززت رؤيتها لهذا النوع الجديد من خلال مقدمات لهذه الدواوين أو كتب نقدية منفصلة مثل كتابها "قضايا الشعر المعاصر".

ورغم اطلاع نازك الواسع على الشعريات الغربية، خاصة الشعر الإنكليزي، إلا أن ريادتها لشعر التفعيلة، لم تكن نتاج تأثير سطحي أو ساذج أو محاولة لتقليد نوع غريب على الشعرية العربية. لقد هضمت الشعر العربي منذ نعومة أظافرها، ودرسته دراسة أكاديمية متعمقة، إضافة إلى أنها كانت على دراية واسعة بالشعر الشعبي العراقي الذي كان قد فك أو "حلحل" صرامة الشعر القديم سواء في قوافيه أو تركيباته أو تفعيلاته.

ردة أم تمسك بالهوية

كانت نازك الملائكة ترى أن الشعر الحر، هو شكل من أشكال التحولات الإيقاعية التي شهدها الشعر العربي على مر العصور، فالشعر العربي لم يكن ثابتاً وجامداً بهذا الشكل الذي يصوره البعض، بل ثمة تجديدات على مستوى الإيقاعات كانت تحدث فيه من وقتٍ لآخر، مع تطور الحياة والاندماج بين الثقافات المختلفة، لكنها في نفس الوقت لم تنبذ الشعر العمودي، كما فعل غيرها من الشعراء، وهذا ما قالته نصاً في كتابها "لمحات من سيرة حياتي وثقافتي": "ومنذ ذلك التاريخ، انطلقتُ في نظم الشعر الحر، وإن كنتُ لم أتطرف إلى نبذ شعر الشطرين نبذاً تاماً، أو مهاجمته، كما فعل كثير من الزملاء المندفعين الذين أحبوا الشعر الحر واستعملوه بعد جيلنا". عندما نتتبع التاريخ الشعري والثقافي، لعائلة نازك الملائكة سندرك أن القطيعة التامة مع الشعرية العربية بتراثها الهائ، المتجذر منذ مئات السنين لم تكن سهلة بالنسبة إليها، كما مع غيرها من الشعراء، هذا على مستوى.

أما الأمر الآخر، فيعود إلى طبيعة نازك ذاتها؛ فنازك الملائكة ذات روح ملتبسة، حائرة؛ فهي ابنة التمزق الإنساني في أعلى تجلياته، هذا التمزق الذي يُشكل في أغلب الأحيان حالة فنية خاصة، وقد جرد البعض من هذه الصفات التي تتميز بها نازك، الفن الذي يُغلفها، حيث تناولوا إنتاجها الشعري من زاوية سيكولوجية بحته، ليُطلق عليها الشاعر توفيق صايغ: "طريدة المتاهة والصوت المزدوج"، كناية عن الخلل النفسي والروحي الذي رأى أنها تُعاني منه، بالإضافة إلى ناقد آخر، كان يسخر من قصائدها ويقول: إنها قد أحرقت سنوات عمرها في إحدى قصائدها.

ولذلك لم نجد في شعرها سوى الرماد والدخان، أما النار ذاتها، فقد ظلت في مكان سري، لم تستطع نازك أن تعلن عنه أو أن تُخرج هذه النار، لأنها –بحسب رأيه- تحتمي بالماضي وتخاف الاندفاع والعمق. وثمة شعراء آخرون هاجموا الشاعرة الرائدة ومنهم الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي كتب العديد من المقالات التي ينال منها فيها كشاعرة وإنسانة. كان هجوماً كاسحاً، فقط لأن نازك لم تنبذ الشعر العمودي، ولم تُهاجمه. ولكن نازك الملائكة لم تصمت في البداية كما ذكرنا سابقاً، فقد قالت في إحدى مقالاتها عن توفيق صايغ أنه لم يكتب سطراً شعرياً في حياته، وكذلك هاجمت عبد الوهاب البياتي وجميع شعراء مجلة "شعر".

وبالعودة إلى التاريخ الشعري للعائلة، علينا أن نتصفح في كتاب حياة شرارة التي بذلت مجهوداً كبيراً في توثيق سيرة حياة نازك الملائكة، وإن جاء الكتاب حذراً ومتكتماً إلى حد ما، وقد خرج كذلك مراعاةً لطبيعة نازك الكتومة المنعزلة والمتحفظة إزاء حياتها الشخصية إلى حد كبير.

نازك الملائكة لم يُغفر لها حيرتها، ولم يُغفر لها تمسكها بهويتها، بل لم يُغفر لها اختلافها، من جانب شعراء يلوكون حرية الرأي في أفواههم ليل نهار

في كتابها تحكي حياة شرارة عن عائلة الملائكة ومساراتها والانعطافات التي تعرضت لها والألقاب التي نالوها: "الملائكة يا لها من كلمة تُثير خيالنا. اللقب لا يخلو من عنصر الفجاءة، غير أن امتداداته تضرب عميقاً في أغوار التاريخ. ولو تتبعنا أصولها ومضينا على آثارها المدونة لانتهى بنا المطاف إلى النعمان بن منذر بن ماء السماء من ملوك المناذرة اللخميين في الحيرة، فهو الجد الأقدم لأسرة الملائكة وإليه تنتمي شجرتها. وللنعمان بن المنذر مكانته التاريخية المميزة في ذاكرتنا كملك عربي أبي وذكي عمل على جمع كلمة القبائل العربية وتوحيدها". من خلال تتبعنا لهذا التاريخ العربي العريق لعائلة الملائكة، ربما ندرك أن علاقة نازك بالشعر، لم تكن علاقة عابرة أو مؤقتة، بل إن الشعر "بيولوجياً في دمها". إنها علاقة تمتد إلى مئات السنوات بامتداد تاريخ عائلتها التي ترجع أصولها إلى الملك النعمان بن المنذر.

من ذلك كله، يُمكننا قول عدة أشياء: إن نازك الملائكة لم يُغفر لها حيرتها، ولم يُغفر لها تمسكها بهويتها، بل لم يُغفر لها اختلافها، من جانب شعراء يلوكون حرية الرأي في أفواههم ليل نهار، ونحن لا نحب هنا أن نحصر هذا الصراع في إطار الثنائية الجاهزة بين "الذكورية" و"النسوية" لأنه في الحقيقة كان صراعاً حول الشعر وبين شعراء، بصرف النظر عن النوع.

الأمر الآخر الذي من المهم تأكيده هو أن الإتهامات التي طالت نازك الملائكة في حياتها من بعض زملاء الحقبة أو الحقب التالية، ووصفها بالجمود والردة، استناداً إلى رفضها لقصيدة النثر هي اتهامات غير صائبة. نازك المسكونة بالغناء –شعراً وموسيقى- كانت تُدرك أن التفعيلة هي ركن أساسي في الشعر العربي على امتداد تاريخه، وأن تجريده من هذه البنية الأساسية هو وأد لروحه أو اغتيال لشرفه الفني. وكأنها أرادت أن تصل إلى "تجديد محكوم" من داخل الشعر العربي نفسه، لا إلى "تجديد كامل"، تضيع فيه هوية الشعر العربي داخل شكل مستورد من قصيدة النثر الفرنسية على وجه التحديد.

وهذا هو ما دفع الآخرين إلى اتهامها بالتخلف والجمود والارتداد، مما أدى إلى تحطيمها ونفيها حتى آلت إلى الصمت وهي في عنفوان عطائها الإبداعي. قضت نازك الملائكة السنوات التسع الأخيرة من حياتها في العاصمة المصرية القاهرة، وقد اختارت العزلة والوحدة، مؤتنسة بالماضي الذي يعرفها أكثر من الحاضر الذي نفاها وهجرها. وظلت هكذا إلى أن وافتها المنية، ودُفنت بعيدة عن وطنها بمدافن 6 تشرين الاول/أكتوبر. واحتفالاً بمئويتها اختارتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، رمزاً للثقافة العربية للعام 2023. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه: هل يفعل هذا التكريم شيئاً بعد كل هذه السنوات من التهميش والنسيان؟!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image