هذه المرة، لم تكتفِ الفنانة الفلسطينية ضياء البطل، بالتضامن مع قضية وطنها الجريح، عبر أعمالها الفنية فقط، بل وصل التضامن إلى ذروته برحيلها الصادم يوم السبت 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 في العاصمة البريطانية لندن عن عمرٍ ناهز 45 عاماً بعد صراع مع مرض السرطان، لتُحلق روحها مع أبطال إحدى أعمالها من أطفال غزة الذين قُتلوا في العدوان الإسرائيلي على القطاع عام 2014.
الموت الذي يحصد آلاف الأرواح الآن من أبناء وطنها، عبر المجازر التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، كان متربصاً بها هي الأخرى، ولم يمنحها فرصة لتوثيق الجرائم والمجازر عبر تصميماتها الفنية، وربما رأت ضياء أن أي عملٍ فني، سيكون خسيساً أو هزيلاً في تعبيره وتوثيقه للفظائع التي يشهدها سكان قطاع غزة، فجاء رحيلها، بمثابة عملٍ فني تراجيدي في تزامنه مع القتل المستمر لشعبها في غزة..
ربما رأت ضياء أن أي عملٍ فني، سيكون خسيساً أو هزيلاً في تعبيره وتوثيقه للفظائع التي يشهدها سكان قطاع غزة، فجاء رحيلها، بمثابة عملٍ فني تراجيدي في تزامنه مع القتل المستمر لشعبها في غزة
ولدت ضياء البطل في بيروت عام 1978، ودرست الفن التشكيلي في الجامعة الأمريكية بلبنان، ثم أكملت تخصصها الفني في كلية غولد سميث بلندن، وهناك عاشت سنواتها الأخيرة، وحققت خلالها حضوراً فنياً مُلفتاً، عبر انفتاحها على مختلف التيارات الفنية، ومشاركتها المستمرة في المعارض الفنية، وقبل ذلك تجربتها الفنية المتميزة في التصميم المكاني، التي جمعت فيها بين الحداثة والأصالة، حيث استفادت ضياء من تيارات ومدارس الفن الحديث، وكذلك من تراثها العربي، وقد تجلى ذلك بوضوح في استلهامها للخطوط والقصائد العربية في معظم أعمالها الفنية.
رحلت ضياء البطل بصمت، في لحظة تاريخية فارقة من عمر وطنها المحتل، وكذلك من عمر العالم، تاركة وراءها تجربة فنية متميزة، والكثير من الألم على رحيلها الصادم.
ولم يكن غريباً بالنسبة لهذه الفنانة الراحلة أن تُبرز هويتها العربية في أعمالها الفنية، بكل هذه القوة، أو أن تكون قضية وطنها هي محور فنها، فضياء البطل تنحدر من أسرة فنية مثقفة؛ هي ابنة الكاتب حسن البطل، والنحاتة الشهيرة منى السعودي، وكان التمسك بالهوية العربية، بالنسبة لهذا الثنائي، قضية محورية في أعمالهما الفنية والثقافية.
وهو الأمر الذي تسرب إلى ابنتهما، وانغرس في أعماقها، فراحت تُعلي من شأن هويتها في كافة أعمالها. ولا شك أن التأثير الأكبر على ضياء جاء من جانب الأم، التي تركت بصمة قوية عليها، خاصة فيما يتعلق بتوظيفها للخط العربي، والقصائد العربية في تصميماتها، فهذه التيمة، كانت أساسية في أعمال النحاتة الأردنية منى السعودي.
وظفت ضياء البطل في أعمالها وتصميماتها الفنية، جماليات الخط العربي، والقصائد العربية وتحديداً قصائد محمود درويش، حيث مزجتها مع جميع الأشياء والمواد التي كانت تستخدمها من "جدران، أرائك، لمبات إضاءة، ومقاعد" مثل "مقعد واو" الذي أهدته إلى قاعات الموزاييك في لندن. وكانت ضياء تسعى من وراء توظيفها واستخدامها للخط العربي إلى تحويله لقطعة فنية في فضاءات الأمكنة، وإلى طرح قضايا الهوية والانتماء العربي أمام الجمهور الغربي وكذلك العربي.
وفي الأخير نجحت في تقديم رؤية فنية معمارية متناغمة مع المكان ومع إنتمائها وهويتها وتراثها العربي. وعُرضت أعمالها في معارض فنية في بيروت والمنامة وعمان وباريس وليفربول، ولندن وغيرها. وكان آخرها معرضاً خاصاً في العاصمة البريطانية أقيم في صالة "موزاييك رومز" الذي اعتمد على وسائط متعددة جديدة ضمن فعاليات مهرجان لندن للتصميم.
لم تقتصر أعمال الفنانة الراحلة على توثيق قضايا وطنها فقط، بل كانت روحاً حرة، تؤمن بالهوية الإنسانية بالأساس، ومن ثم كان لها العديد من الأعمال ذات الرؤية الكونية، مثل تصميماتها التي جاءت تحت عنوان "بين الأراضي والبحار"
كانت ضياء البطل مؤمنةً بالدور الاجتماعي والسياسي للفن، وقد بدا ذلك واضحاً في تصميماتها المستلهمة من الثورات العربية، وقبل ذلك في أعمالها المنحازة لقضية وطنها المحتل، فلم تترك ضياء أي حدث ثوري من دون التفاعل معه، ومن بين أبرز أعمالها في هذا السياق، عملها الفني الذي استلهمته من الثورة السورية، ووثقت فيه على بلاطات سوداء صغيرة أسماء شهداء الثورة، فيما تركت بعضها دون أسماء، تعبيراً عن العدد الهائل من القتلى المجهولين الذين لقوا نحبهم فيما شهدته سوريا من أحداث مأساوية، أو كتعبير عن الخراب السوري في ذروته.
وفي عمل بعنوان "المشربية" استلهمت الفنانة الراحلة أسماء شهداء أطفال غزة الذين قُتلوا جراء العدوان الإسرائيلي على القطاع في عام 2014، حيث وثقت أسماءهم بحروف عربية مطرزة على قماش أبيض، ومنحت لكل اسم لوناً، وكان هذا العمل - حسبما وصفه النقاد- بمثابة نصب تذكاري للأطفال الفلسطينيين.
ولم تقتصر أعمال الفنانة الراحلة على توثيق قضايا وطنها فقط، بل كانت روحاً حرة، تؤمن بالهوية الإنسانية بالأساس، ومن ثم كان لها العديد من الأعمال ذات الرؤية الكونية، مثل تصميماتها التي جاءت تحت عنوان "بين الأراضي والبحار"، وغيرها من الأعمال الفنية التي استلهمتها من أحداث مأساوية تعرض لها البشر في بقاع مختلفة من العالم.
رحلت ضياء البطل بصمت، في لحظة تاريخية فارقة من عمر وطنها المحتل، وكذلك من عمر العالم، تاركة وراءها تجربة فنية متميزة، والكثير من الألم على رحيلها الصادم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين