تمنح الحرب في غزة فرصةً للصين لتعزيز نفوذها السياسي في المنطقة الخاضعة تقليدياً للهيمنة الأمريكية، بعد سعيها السابق إلى الموازنة بين نفوذها الاقتصادي ونفوذها السياسي فيها. فبحسب موقع "أسباب"، إلى حماية مصالحها التجارية، راحت الصين تسعى مؤخراً، إلى تحقيق رؤية رئيسها، شي جين بينغ، بقيادة الصين للجنوب العالمي، الذي يضم غالبية دول المنطقة، وهو ما يعزز موقفها في مواجهة واشنطن وحلفائها الغربيين، لإعادة تشكيل النظام الدولي لصالحها.
فالحياد الصيني خلال الحرب بمثابة نقد ثابت لواشنطن وإدارتها للشؤون العالمية، حسب مستشار معهد كروآسيا، ليوناردو دينيك، الذي يشير إلى تدخلات الأخيرة، وقيادتها لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في عمليات القصف الجوي على يوغوسلافيا الاتحادية عام 1999، وتدخلها العسكري في أفغانستان والعراق وليبيا، مع تدخلها في الصراع في أوكرانيا، وأخيراً في الحرب على غزة. ومع انتقادها العلني لأغلب التدخلات السابقة، يعزز حياد بكين حالياً الانتقادات العالمية لمعظم التدخلات العسكرية التي تقودها واشنطن، إن لم تكن لها كلها.
وبدل التورط في الصراع، ركزت بكين على إثارة الشكوك في واشنطن والمقارنة بين مواقف البلدين، كجزء من محاولتها للتشكيك في المصداقية العالمية لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، حسب فورين بوليسي. خلال ذلك، استخدمت الصين حق النقض ضد مشروع قرار أمريكي في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي حول غزة، لعدم دعوته إلى وقف إطلاق النار. وأشار حينها السفير الصيني لدى الأمم المتحدة، تشانغ جون، إلى أن الولايات المتحدة "قدّمت مشروع قرار جديد يضع جانباً إجماع الأعضاء"، متجاهلةً "مخاوفهم الرئيسية"، واصفاً مشروع القرار بأنه "يخلط بين الصواب والخطأ".
لاحقاً، استغلت بكين استخدام واشنطن لحق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار يدعو لوقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، واضعةً نفسها بجوار دول الجنوب العالمي، بقول تشانغ، إن بكين، مونها واحدةً من الدول الراعية للقرار التي يبلغ عددها نحو 100 دولة، شعرت "بأسف وخيبة أمل كبيرة، لأن الولايات المتحدة استخدمت حق النقض ضد مشروع القرار، ما يوضح مرةً أخرى ماهية المعايير المزدوجة".
الجنوب العالمي
وفقاً لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد"، يشكل الجنوب العالمي حزاماً شاسعاً يمتد من أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وإفريقيا إلى آسيا (من دون إسرائيل واليابان وجمهورية كوريا)، وأوقيانوسيا (من دون أستراليا ونيوزيلندا)، ودول جزر المحيط الهادئ.
تمنح الحرب في غزة فرصةً للصين لتعزيز نفوذها السياسي في المنطقة الخاضعة تقليدياً للهيمنة الأمريكية. كيف؟
ويرجّح أستاذ السياسة والعلاقات الدولية في جامعة شرق الصين، الدكتور تشانغ شين، أن تكون دول الجنوب العالمي ودول أخرى غير متحالفة بشكل وثيق مع الصين أو الولايات المتحدة، موضع ترحيب من قبل الدولتين، مضيفاً: "تقدّم الصين إستراتيجية وساطة غير إجبارية، ستكون لها جاذبية واسعة". وبرأيه، "سيكون لفكرة عدم التدخل صدى خاص في الدول ذات الحكومات الاستبدادية"، لا سيما وأن "العديد من الدول لا تركز على الديمقراطية وحقوق الإنسان، وستكون الصين مناصرةً لها في الحوكمة العالمية"، حسب الأستاذ في السياسة الصينية في معهد سياسة مجتمع آسيا، الدكتور نيل توماس.
باتت الصين متلقيةً للضربات، حسب مدير وحدة الدراسات الآسيوية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، مصطفى شلش، من النووي الإيراني بدايةً، إلى الحرب الروسية في أوكرانيا والحرب الحالية في غزة وتداعياتها. ويشارح شلش ذلك خلال حديثه إلى رصيف22، بقوله: "في حال توافق واشنطن وطهران في الملف النووي للأخيرة، ستصل القوى الغربية إلى طهران، مما يؤثر بشدة على المصالح الصينية في منطقة حيوية جداً كإيران وبحر قزوين والقوقاز، حيث ستتأثر هذه المنطقة بشدة لو عاد الغرب إليها. على الجانب الآخر، إن تحول إيران إلى دولة نووية سيجعل منها أزمةً كبيرةً جداً شبيهةً بأزمة كوريا الشمالية، وهو أمر غير محبذ أو محبب لبكين. لذا توافق ضمناً ودون اعتراض أو استخدام لحق النقض في مجلس الأمن على الإجراءات الأمريكية كافة تجاه طهران، سواء في عزل إيران، أو فرض العقوبات عليها".
برأي شلش، "أوقفت الحرب في أوكرانيا ممر الصين البري إلى غرب أوروبا، معّطلةً بذلك أحد ممرات مبادرتها 'الحزام والطريق'، ما تسبب في غضب شديد جداً من جانب بكين، ظهرت أعراضه في محدودية مساندتها لروسيا. بجوار ذلك، أظهرت الحرب على غزة ضعف الموقف الصيني، وعدم امتلاكها أوراق ضغط على إسرائيل، سواء في موقفها تجاه هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، أو عجز بحريتها، وعدم مشاركتها في حماية حركة الملاحة الدولية، وهو ما صوّرها غير قادرة على المشاركة في السلم والأمن الملاحي، بالإضافة إلى تحول موقفها إلى بروتوكولي، من خلال حديثها عن أن حل الدولتين هو الحل الأمثل، أو من خلال إبداء رغبتها في إرساء السلام في المنطقة".
يجادل العلماء الصينيون المؤثرون، في ضرورة فهم النظام العالمي بشكل مستنير، من خلال وجهات نظر كونفوشيوسية ترجع إلى ما قبل الحداثة، ويصبغون عبرها سياساتهم بالصبغة الأخلاقية، وفقاً لمركز الدراسات العربية الأوراسية، حيث يرغب القادة الصينيون في تأسيس مصالح الدولة وأفعالها في إطار لغة أخلاقية مثالية، من خلال استخدام مصطلحات مثل "رن" الصينية، المقابلة لـ"الإحسان" بالعربية، مع صياغتهم لشكل حديث من الكونفوشيوسية يتناسب مع القيم المعولمة، يؤكدون خلاله على "الأخلاق والمستقبل المشترك"، مقللين فيه من القيم الكونفوشيوسية غير الليبرالية، كالإيمان بالتسلسل الهرمي الاجتماعي، وهي رؤية تدعم طموح الصين إلى زعامة الجنوب العالمي.
لذلك، تمتنع الصين عن إشعال الثورات أو دعمها. كذلك تنظّر للدول الأكثر فقراً كأساس لسياسة تؤكد على التنمية الاقتصادية ومبدأ السيادة الوطنية، دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى استبداد صريح، حيث يمكن للدول الديمقراطية الاستفادة من نموذج التنمية الصيني الذي تسعى بكين إلى جعله أكثر مرونةً من أي نموذج من شأنه تكريس الديمقراطية الليبرالية، كحال مبادرتها "الحزام والطريق"، والتي تشكل أداتها الرئيسية لإظهار ريادتها العالمية.
تنوّه أورنيلا سكر، وهي صحافية متخصصة في العلاقات الدولية والدراسات الاستشراقية، ومديرة موقع أجيال القرن الواحد والعشرين، بأن تاريخ الصين وإرثها ليسا استعماريين واستعلائيين، بعكس التاريخ والمركزية الغربية القائمة على توصيف الآخر بالدونية وسواها من الصفات العنصرية. وتشير سكر خلال حديثها إلى رصيف22، إلى الدور الدبلوماسي والسياسي الذي لعبته بكين في المصالحة بين الرياض وطهران في آذار/ مارس من العام الماضي، والذي شكّل سطوعاً للنجم الصيني في المنطقة، مع تعهد الصين بعدم تعرض منطقة الخليج العربي وبحر العرب لتوترات أمنية وعسكرية من قبل الفصائل والميليشيات الإيرانية، وهو ما يُعدّ نقطة تحول مهمةً جداً لدول الخليج، أدى إلى جنوحها نحو الصين، والتعاون معها في مجالات اقتصادية وتنموية وتجارية وسواها من الأنشطة.
ازدواجية المعايير وصراع القيم
تُعد المعايير المزدوجة قضيةً أساسيةً في خلاف الصين مع الغرب، حسب مركز المستقبل للأبحاث. وهي قضية مرتبطة بطريقة تنظيم المؤسسات الدولية، المهيمَن عليها غربياً. عادت المسألة بقوة خلال الحرب الأوكرانية والحرب في غزة، إذ بدا واضحاً أن الموقف الغربي من أوكرانيا يختلف عن نظيره في غزة، برغم استعمال الحجج نفسها. فعندما يتعلق الأمر بفرض عقوبات على روسيا، لا يتم استخدام حق النقض (الفيتو) خلال التصويت في مجلس الأمن الدولي، بعكس الحال في وجه مشاريع قرارات وقف إطلاق النار في غزة.
"ازدواجية المعايير هذه، عمّقت من المنطق القديم المناهض للاستعمار والإمبريالية لدى دول الجنوب العالمي، التي لا تزال معاداة الإمبريالية سائدةً فيه. فهذه الازدواجية ليست مجرد شعار أخلاقي، بقدر ما هي عقبة أساسية بين تصوّرين للعالم؛ غربي يريد المحافظة على هيمنته بالاعتماد على القوانين الدولية التي وضعها بنفسه، وجنوبي يريد إعادة ترتيب العالم"، والكلام لمركز المستقبل.
وعليه، ربط الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل، بين الصراع في غزة وأوكرانيا، برغم اختلاف طبيعتهما، قائلاً: "إذا كنا لا نريد أن نفقد موطئ قدم لنا في جزء كبير من العالم، وإذا كنا نريد ألا يؤدي ما يحدث في غزة إلى إضعاف الدعم الذي تقدّمه العديد من البلدان لأوكرانيا، وليس فقط الدول الإسلامية أو العربية، بل أيضاً دول أمريكا اللاتينية؛ يتعيّن علينا إذاً أن ندافع عن مبادئنا ومصالحنا بطريقة أكثر توافقاً مع التصور الذي لدى بقية العالم".
"تتمتع الأنشطة الصينية بخطورة تتطلب استجابةً متناسقةً مماثلةً من الولايات المتحدة لكي تبقى قادرةً على معالجة التحديات الحالية والمتطورة، والمستجيبة لاحتياجات الدول المتأثرة بالنزاع، ومرنةً بما فيه الكفاية لمعالجة الأبعاد الأيدولوجية للدور المتزايد للصين في منع النزاع"
حسب ماركو مسعد، وهو باحث في العلاقات الدولية في مجلس سياسات الشرق الأوسط (MEPC)، ومقرّه واشنطن، تسعى الصين إلى توزيع نهجها في منع النزاع من خلال المنظمات الحكومية الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة والهيئات الإقليمية التي تلعب الصين دوراً رائداً فيها. وفي حين أن الصين كانت تؤكد دائماً على أن التنمية الاقتصادية هي العامل الأهم لتحقيق الاستقرار ومنع النزاع، فإن حماية السياسة الخارجية للصين بشكل عام قد تسارعت اليوم، بما في ذلك ما يتعلق بالأنشطة الدولية للصين لمنع النزاع.
ويضيف مسعد خلال حديثه إلى رصيف22: "يتم تصدير التفكير السياسي الداخلي للصين، الذي يعلي من الإشارة إلى أهمية الأمن أولاً كوسيلة لمعالجة التوترات وعدم الاستقرار الداخليين في الخطاب الدولي". وبرأيه، "تتمتع الأنشطة الصينية بخطورة تتطلب استجابةً متناسقةً مماثلةً من الولايات المتحدة لكي تبقى قادرةً على معالجة التحديات الحالية والمتطورة، والمستجيبة لاحتياجات الدول المتأثرة بالنزاع، ومرنةً بما فيه الكفاية لمعالجة الأبعاد الأيدولوجية للدور المتزايد للصين في منع النزاع".
وصلت الصين إلى نفوذ غير مسبوق في مختلف أنحاء العالم النامي، وفقاً للمعهد الإيطالي لدراسات السياسة الدولية، نظراً إلى ارتباطهم برغبة مشتركة في التعددية القطبية بعيداً عن الهيمنة الغربية. ومع تنويهه بإمكانية تقديم مجموعة "بريكس" لخريطة طريق نحو نظام دولي جديد، إلا أنها بعيدة كل البعد عن أن تكون توافقيةً. ويتساءل عن الدور الذي قد تلعبه الصين في حوارات السلام التي تتبناها روسيا أو التي تقدّمها البرازيل والدول الإفريقية؟ وهل ستتمكن الصين ودول "بريكس" الأخرى من التعاون اقتصادياً لتعزيز التنمية في جميع أنحاء العالم؟ وهل المجموعة مستعدة لتوسعها الأول، المرجح في السنوات المقبلة، حيث سيتطلب ذلك بعض التنازلات المتبادلة، وستساعد النتيجة حينها في تشكيل النظام العالمي المستقبلي؟
تأمل "بريكس" تحقيق طموح سياسي واسع، بالاستفادة من ثقلها الاقتصادي الجماعي. فإيماناً منها بأن تقدّم البلدان الناشئة والنامية يحول دونه النظام الاقتصادي والسياسي المحتكر غربياً، انخرطت المجموعة في عدد من الإجراءات لإعادة التوازن ومواجهة النظام الدولي القائم والمؤسسات التابعة له، حسب موقع Geopolitical Monitor. وللحد من الاعتماد على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، المهيمَن عليهما غربياً، أنشأت المجموعة عام 2015 بنك "التنمية الجديد"، برأس مال مصرّح به بلغ 100 مليار دولار.
دبلوماسياً، تسمح الاستضافة السنوية لقمة "بريكس" بمناقشة المجموعة للقضايا التي تعتقد أنها مهمة على وجه التحديد لاقتصادات الأسواق الناشئة، مع إشارة رمزية إلى الغرب عموماً، ومجموعة السبع خصوصاً، بتلاشي سيطرتها الحصرية على الأجندة العالمية، من خلال عضوية منتدياتها الاقتصادية والمالية الحصرية، بالإضافة إلى حرص عدد من أعضاء المجموعة على إصلاح النظام النقدي الدولي، وتحدّي هيمنة الدولار الأمريكي.
تشير أورنيلا سكر، إلى تمتع الصين بثقافة أمنية عسكرية تحترف عسكرة المجتمع. وهي الفكرة التي يتم ترسيخها اليوم لدى بعض الدول، كالصين واليابان والهند وإيران وروسيا إلى حد ما، في مواجهة الإمبريالية الغربية، من منظورها إلى أن عسكرة المجتمع لا تحافظ على هوية الدولة وتاريخها وتقاليدها فحسب، بل تحافظ أيضاً على العلوم التي تمكّن هذه الدول من الحفاظ على أمنها القومي والسياسي والإستراتيجي بين الدول الأخرى، وإلى كون الصين تتبع هذا الأمر في العلوم التكنولوجية والعسكرية بشكل خاص، بجوار العلوم الأخرى. لذا نراها اليوم تتصدر ريادة عدد من الأنشطة الاقتصادية والعسكرية والثقافية. وترى سكر، أن الإعلام الصيني "جذاب جداً" في طرحه للهوية الصينية في العالم، وكيفية تعامل الصين مع القضايا الداخلية لدول العالم.
صوت الجنوب العالمي: بكين أو نيودلهي؟
حسب السفير السابق لسنغافورة ومؤلف كتاب "هل انتصرت الصين؟"، كيشور محبوباني، "هناك تحوّل هيكلي يحدث في النظام العالمي. قوة الغرب آخذة في الانخفاض، وثقل الجنوب العالمي وقوته آخذتان في الازدياد". وبرأيه، دولة واحدة فقط يمكن أن تكون جسراً بين "الغرب وبقية العالم، هي الهند". وبحسب صحيفة نيويورك تايمز، أقنعت الهند، بمساعدة بعض الدول النامية، كلاً من واشنطن والعواصم الأوروبية بتخفيف بيانها بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا، خلال قمة العشرين التي عُقدت في نيودلهي مطلع أيلول/ سبتمبر 2023، حتى يتمكن المؤتمرون من التركيز على مخاوف الدول الفقيرة، مع تعالي صوت نيودلهي المناصر للجنوب العالمي، بقبول وساطتها لضم الاتحاد الإفريقي إلى المجموعة.
ظهر التنافس الهندي-الصيني في أزمة تهديد الحوثيين لحركة الملاحة والتجارة الدولية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر. خلالها كانت للهند اليد العليا، عبر مشاركة أسطولها البحري، وإجرائها عملية إنقاذ مصوّرة لسفينة تعرضت لمحاولة اختطاف. الصين تنظر إلى الشرق الأوسط نظرةً مشوشةً جداً، من خلال رغبتها في الدخول إليه عبر شراكات اقتصادية فقط، دون استطاعة، أو رغبة في توسيعها لشراكات أمنية أو عسكرية
وفي وقت سابق، جمعت الهند افتراضياً قادة أكثر من 100 دولة نامية في ما أسمته قمة صوت الجنوب العالمي. ودون دعوة الصين إلى القمة، خاطب رئيس الوزراء الهندي ناريندا مودي، القادة قائلاً: "إن ثلاثة أرباع البشرية يعيشون في بلداننا. يجب أن يكون لدينا أيضاً صوت مماثل. ومع تغير نموذج الحوكمة العالمية الذي دام ثمانية عقود من الزمن ببطء، ينبغي لنا أن نحاول تشكيل النظام الناشئ".
ومع أنه "من المؤكد أن الصين تعدّ الهند منافساً رئيسياً لها، بسبب علاقات نيودلهي الوثيقة مع واشنطن، لكنها لا تعدّها منافساً لقيادة الجنوب العالمي. فالصين واثقة جداً من عجز الهند عن منافستها في المجالات الرئيسية التي تهم البلدان النامية، وهي تمويل التنمية والبنية التحتية والتجارة"، حسب محرر موقع "China Global South Project"، إريك أولاندر. كذلك، تشير كبيرة المحللين في الفريق الإفريقي التابع لمجموعة أوراسيا، زياندا ستورمان، إلى أنه في "المحادثات المالية، الهند أو الولايات المتحدة أو أوروبا، إذا لم تكن قادرةً على مجاراة الصين أو أن تكون على القدر نفسه من الجدية في تقديم التمويل، فستظل الصين تتمتع بمكانة القيادة هذه".
ظهر التنافس الهندي-الصيني في أزمة تهديد الحوثيين لحركة الملاحة والتجارة الدولية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر. خلالها كانت للهند اليد العليا، عبر مشاركة أسطولها البحري، وإجرائها عملية إنقاذ مصوّرة لسفينة تعرضت لمحاولة اختطاف، حسب شلش. ويرى شلش أن الصين تنظر إلى الشرق الأوسط نظرةً مشوشةً جداً، من خلال رغبتها في الدخول إليه عبر شراكات اقتصادية فقط، دون استطاعة، أو رغبة في توسيعها لشراكات أمنية أو عسكرية. وهو ما سيؤثر على اقتصاد الصين نفسه، نتيجة انسحابها التدريجي إلى الخلف. فالدول الخليجية تربط اقتصادها بالدولة التي تحميها، كالولايات المتحدة، ولربما الهند لاحقاً، نظراً إلى دور بحريتها في البحر الأحمر مؤخراً.
برأيه، "الصين لا تبدو قوةً رائدةً لجنوب العالم، نظراً إلى أن أغلب هذه الدول، لا سيما المحيطة بالصين، لديها مشكلات معها. كذلك، لدى الصين منافسة شرسة جداً من الهند، سواء من خلال المساعدة والمساهمة الأهم مع القوات الأمريكية في البحر الأحمر، أو بمنافستها للصين في الممر الاقتصادي الهندي-الأوروبي-الشرق أوسطي. هذا بالإضافة إلى المشكلات التي تواجه الصين في دول أخرى من جنوب العالم، كمشكلة الديون في إفريقيا".
ورشة عالمية لا قوة عالمية
يتوافق تصريح الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا، خلال إحدى زياراته للصين، بأن الدول النامية يجب أن تستخدم عملاتها الخاصة في التجارة بدلاً من الدولار الأمريكي، مع جهود بكين لإنهاء هيمنة الدولار على العالم. ومع أن استعداد معظم بلدان إفريقيا وأمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا لقبول شبكات الجيل الخامس الصينية، لرخصها وفعاليتها، إلا أن هذا لن يؤدي إلى هيمنة عالمية للصين، وسيشكل بصمةً واسعةً على وجودها على الساحة العالمية، حسب مركز الدراسات العربية الأوراسية. وتالياً، سيمنح بكين قدرةً أكبر على التحكم في عنصر رئيسي في التنمية الاقتصادية للعديد من الدول الكبرى، مع القدرة على الوصول إلى كميات هائلة من البيانات.
تَواصُل بكين مع الجنوب العالمي طويل الأمد وواسع النطاق. وقد صُمّمت مبادرة "الحزام والطريق" لخلق روابط أقوى للتجارة والاستثمار والتمويل بينها وبين هذه الدول.
هيكل المشروع الصيني قائم على أنها دولة ترغب في السلام والأمن الدوليين، لكنها لا تملك وسائلهما، حسب شلش الذي يقول: "هي تفتقر إلى مساهمات حقيقية في هذا الجانب، بالإضافة إلى عدم امتلاكها قوةً قهريةً تجبر بها طرفاً ما على التنازل لصالح طرف آخر، أو لفرض وقف النار على أحد الأطراف، كحال أمريكا. فالصين لم تستطع الخروج من كونها "ورشة العالم"، تصنّع وتصدّر فحسب. وبرغم تأثير الحروب والتوترات العالمية على إنتاجها وصادراتها، إلا أنها عجزت عن ممارسة دور مؤثر فيهما، لا سيما في ظل انكماشها الاقتصادي الحالي، والأزمات الهيكلية الاقتصادية في الداخل، نتيجة اضطراب سلاسل التوريد والآثار المترتبة على وباء كوفيد19، واضطرابات سلاسل الطاقة. وكل ذلك أثّر سلباً على الصين، وأظهر مدى هشاشة وضعها في الصورة المتخيلة لها كقوة عظمى أو كقوة لجنوب العالم".
تَواصُل بكين مع الجنوب العالمي طويل الأمد وواسع النطاق، حسب المجلس الأطلنطي. وقد صُمّمت مبادرة "الحزام والطريق" لخلق روابط أقوى للتجارة والاستثمار والتمويل بينها وبين هذه الدول، بهدف تعزيز النفوذ السياسي الصيني وتقديم مصدر بديل لتمويل التنمية للبلدان منخفضة الدخل. كما قدّم القادة الصينيون عدداً لا يُحصى من المنتديات والمؤتمرات لتعزيز الحوار مع دول الجنوب العالمي وتوثيق العلاقات معها. وعلى نحو متزايد، يروّج الرئيس شي لما يعدّه نموذج الصين للتحديث، باعتباره بديلاً متفوقاً و"ترياقاً" لـ"التغريب". فـ"التحديث الصيني لا يتم السعي إليه من خلال الحرب أو الاستعمار أو النهب، وهو مكرّس للسلام والتنمية والتعاون والمنفعة المتبادلة. إنه مسار جديد مختلف عن التحديث الغربي"، حسب وزير الخارجية الصيني السابق تشين قانغ.
وبحسب المجلس، تعمل الصين كمصرفي للاقتصادات الناشئة في العالم، حيث تُعدّ أكبر دائن ثنائي رسمي حالياً. إذ قدّم بنك التصدير والاستيراد وبنك التنمية الصينيين 498 مليار دولار لتمويل التنمية في 100 دولة بين عامي 2008-2021، ما يمثل قرابة 80% من قروض البنك الدولي خلال تلك الفترة، وهو ما وفّر للبلدان النامية مصدراً بديلاً للتمويل بعيداً عن القوى الغربية ومؤسساتها.
يشير مسعد إلى أن محرك اهتمامات الصين الاقتصادية هي الاستثمارات التي تغذي بها اقتصادها المتوحش. وعلى الصعيد الدبلوماسي والقيمي، تستند بشكل أساسي إلى المشاركة بين الحكومات، إما ثنائياً أو بتعدد الأطراف، ما يضيّق مساحة تفاعلاتها مع منظمات المجتمع، أو قوى المعارضة، والمنظمات غير الحكومية الداخلية والدولية، كجزء من العمليات الشاملة لمنع النزاع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه