طرحت زيارة وزير الخارجيّة الصيني وانغ يي الأخيرة إلى تونس عدة تساؤلات حول مستقبل العلاقات الصينية التونسية وحجم الوجود الصيني في تونس وصلة ذلك بموقعها الإستراتيجي الذي يجعل منها إحدى "بوابات أفريقيا"، القارة الواعدة والوجهة الاقتصادية المثمرة، بالإضافة إلى الحدود البحرية التّي تربطها شمالاً بالقارة الأوروبية.
الزيارة الرسمية التي استمرت ثلاثة أيام (من 14 إلى 16 كانون الثاني/ يناير الجاري) أتت ضمن جولة أفريقية، شملت أربع دول، قام بها المسؤول الصيني بالتزامن مع ذكرى مرور 60 عاماً على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، والتي بدأت في 10 كانون الثاني/ يناير عام 1964.
ووفق دراسة لـ"معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، فإن العلاقات التجارية الرسمية بين البلدين بدأت باتفاقية وقعت عام 1958، ما جعل تونس "في طليعة الدول العربية التي أقامت مثل هذه العلاقات الاقتصادية مع جمهورية الصين الشعبية". علماً أن البلد الأفريقي كان آخر بلد في منطقة المغرب العربي يعترف بالجمهورية الشعبية، لذا لم تبدأ العلاقات الدبلوماسية الرسمية بينهما سوى في عام 1964.
يلفت المعهد إلى أن الحبيب بورقيبة، أول رئيس لتونس بعد الاستقلال، فضّل التوجه نحو الغرب مع استمرار تطور العلاقات التجارية مع الصين، سيّما عقب إنشاء "اللجنة الصينية التونسية المشتركة للتعاون الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي" عام 1983. تغيّر الوضع في عهد زين العابدين بن علي، الذي خلف بورقيبة في حكم تونس، إذ تعمّقت العلاقات بين البلدين بفضل دعم بن علي الواضح لمزاعم الصين بأحقيتها في تايوان. مرّ ة أخرى تغيّر الحال عقب قيام الثورة التونسية بإطاحة بن علي عام 2011، فعاد "تباطؤ دبلوماسي مؤقت" قبل أن تكتسب العلاقات زخماً ملحوظاً مرة أخرى بعد سنوات على صعيد الترحيب المتبادل بتنمية العلاقات الثنائية وإن "لم تُتّبع إلا بشكل متقطع بالتنفيذ العملي"، وفق المعهد.
تضاءلت في عهد بورقيبة وازدهرت إبّان حكم بن علي وتعهّد سعيد الارتقاء بها إلى "أعلى المراتب"… العلاقات التونسية الصينية تزدهر مرة أخرى. فمن هو الطرف الأكثر إفادة منها؟ وما هي التحدّيات التي تهددها؟
اتجاه متزايد نحو الشرق؟
بالعودة إلى زيارة الوزير الصيني لتونس، فيعتبرها مسؤولو البلدين متابعة لنتائج اللقاء الثنائي الذي جمع الرئيس التونسي قيس سعيد مع نظيره الصيني شي جين بينغ، في 9 كانون الأول/ ديسمبر 2022 بالرياض بمناسبة انعقاد القمة العربية الصينية التي جرى التأكيد خلالها على اكتشاف فرص تعاون جديدة للشراكة مع الصين لتنفيذ برامج تنموية واستثمارية في عدة قطاعات من بينها الصحة والطاقات المتجددة.
الأمر نفسه جدد الرئيس التونسي التأكيد عليه خلال لقائه الأخير بوزير خارجية الصين حيث أشاد بالإرادة المشتركة للقيادة في البلدين للارتقاء بهذه العلاقات الثنائية إلى أعلى المراتب خدمةً للمصلحة العليا لـ"الشعبين الصديقين". كما أشار سعيد، في هذا الإطار، إلى العديد من مشاريع التعاون المتنوّعة والهامة التي تم تنفيذها في تونس بدعم من الصين وآخرها الأكاديمية الدبلوماسية الدولية.
واستحضر الرئيس التونسي أيضاً نتائج اللقاء الذي جمعه بالرئيس الصيني بمناسبة انعقاد القمة العربية الصينية، مجدّداً التأكيد على تطلّع تونس إلى إرساء شراكات واعدة وبرامج تعاون جديدة مع الصين في عدّة ميادين على غرار الصحة والفلاحة والرياضة والبنية التحتية والطاقات المتجدّدة.
وتأتي زيارة المسؤول الصيني بعد أقل من شهر على زيارة عمل لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى تونس. يترجم تواتر هذه الزيارات تقاطع المصالح والأهداف الإستراتيجيّة بين بكين وموسكو اللّتين استطاعتا أن تكوّنا قطباً اقتصادياً هاماً في مواجهة الاقتصاد الأوروبي والأمريكي عبر الاستغناء عن الدولار كعملة رئيسية في التبادل التجاري، والانفتاح على عدة دول في آسيا وأفريقيا على غرار تونس.
وربما تؤشّر هذه التبادلات إلى محاولة تونس التي اتجهت شرقاً خلال سنوات ما بعد ثورة الياسمين نهاية عام 2010، نحو روسيا والصين، إيصال رسالة إلى المؤسسات المالية الكبرى وعلى رأسها صندوق النقد الدولي الذي تتعثر مفاوضاتها معه منذ أكثر من سنة، مفادها أن لديها بدائل وشراكات جديدة.
وبينما قد يبدو الأمر سهل التطبيق من الناحية النظرية، إلا أن ما يفرضه الواقع عكس ذلك تماماً، وفق ما يراه خبراء ومختصون. فالتوجّه نحو الشرق من شأنه أن يتطَلب سنوات من التفاوض واكتشاف أسواق واقتصادات جديدة ومجالات شراكة ممكنة في وقت تمر به تونس بأزمة اقتصادية حادة تتطلب تدخلاً عاجلاً وسريعاً.
ضائقة مالية وأزمة حادة
الأمر المؤكد أن تونس، التّي تمر بضائقة اقتصادية وأزمة مالية حادة، تسعى إلى تنويع شركائها والانفتاح على اقتصادات جديدة مع المحافظة على الشركاء الكلاسيكيين. كما يعتقد مراقبون للشأن التونسي أن الصين، التي تعد رابع أكبر شريك اقتصادي لتُونس وثالث مصدر لسوقها، ربما "تغازل" هي الأخرى تونس عبر دعمها لإنجاز بعض المشاريع وآخرُها الأكاديمية الديبلومَاسيّة التي تم تدشينها بحضور وزير خارجية الصين، بقيمة 43 مليون دولار .
وفي وقت تتعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2022، للحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار على مدى 4 سنوات، تدق مؤشرات الاقتصاد التونسي ناقوس الخطر محذرةً من وضع ليس بالهين إذ قدّرت نسبة التّضخم في البلاد خلال الشهر الماضي بـ8.1% وسط انكماش للنمو الاقتصادي بنسبة 0.2% خلال الربع الثالث من السنة الماضية، وارتفاع لنسب البطالة التي ناهزت 16% وسط غياب لمشاريع التنمية وتوفير فرص عمل.
الصين و"سياسة فخ الديون"
وفي أيار/ مايو 2023، كشفت ورقة تحليلية بعنوان "دور الصين كمقرضة ومستثمرة في المنطقة العربية"، أعدها المعهد العربي لرؤساء المؤسسات ومقره تونس، أن قروض الإنقاذ الصينية لم تشمل تونس، التي استفادت من قروض ثنائية ما بين سنوات 2000 و2012، بقيمة 215 مليون دينار أي ما يعادل 68 مليون دولار، وأن استثمارات بيكين فيها ما تزال ضعيفة.
يبدو أن تونس، التي اتجهت شرقاً خلال سنوات ما بعد ثورة الياسمين نهاية عام 2010، نحو روسيا والصين، تحاول إيصال رسالة إلى المؤسسات المالية الكبرى وعلى رأسها صندوق النقد الدولي الذي تتعثر مفاوضاتها معه منذ أكثر من سنة، مفادها أن لديها بدائل وشراكات جديدة. قد يبدو ذلك سهلاً نظرياً لكن الواقع مختلف تماماً
ويكشف تقرير الديون في العالم للعام 2023، الصادر عن مجموعة البنك الدولي، عن حضور ملفت للصين في الدول الأفريقية النامية بدأ يثير الاهتمام منذ سنوات باعتبارها بلداً مقرضاً أو مستثمراً في البلدان الأفريقية. وفق المصدر ذاته، تساهم الصين بنحو 46% في العجز التجاري التونسي الجملي أي بحجم 7.8 مليار دينار من جملة عجز تجاري ب 16.5 مليار دينار بالرغم من أنها ليست ضمن البلدان المقرضة لها.
وكثيراً ما اتُهمت الصين باعتماد سياسة "فخ الديون"، وهو مصطلح توصف به السياسات الاقتصادية المتبعة من قِبَلها تجاه عدة دول سيما منها دول القارة الأفريقية عبر تقديم قروض واستثمارات في البنية التحتية وقطاعات حيوية، وهو ما تنفيه بكين في المقابل بانتظام وتعتبره "اتهاماً باطلاً".
تونس و"الحزام والطريق"
انضمت تونس إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية سنة 2018، بعد توقيع مذكرة اتفاق بين البلدين يقضي بإنجاز عدد من المشاريع التنموية الصينية في تونس، خاصة عدد من المشاريع الكبرى في مجال البنية التحتية. وتَهدف المبادرة التي أطلقتها الصين سنة 2013 إلى دعم الاستثمارات والشراكة والتعاون في مختلف المجالات بين الشرق والغرب، في إطار مقاربة تقوم على تبادل المصالح المشتركة.
تضم المبادرة نحو 150 دولة و30 منظمة دولية ساهمت إلى جانب الصين في إنجاز أكثر من 3 آلاف مشروع تعاون ضخم في جميع أنحاء العالم بحجم استثمارات فاق ألف مليار دولار. ومنذ انخراطها في المبادرة، سعت تونس إلى تكثيف الزيارات واللقاءات بين مسؤولين رفيعي المستوى من البلدين والمشاركة في منتديات التعاون الدولي لـ"الحزام والطريق". وكانت منظمة طريق الحرير للتعاون الثقافي والاقتصادي الدولي الصينية (سيكو) قد افتتحت، في نيسان/ أبريل 2017، مكتباً لها في تونس (سيكو تونس)، وهو الأول في أفريقيا.
إلى ذلك، من المتوقع أن يشارك البلدان - تونس والصين - خلال آذار/ مارس 2024 في مؤتمر للتصدير في بكين، يتبعه مؤتمراً مماثلاً في كانون الأول/ ديسمبر 2024 بتونس، وفق تصريحات إعلامية سابقة لنائبة رئيس مجلس الأعمال التونسي الصيني التابع لاتحاد الأعراف ضحى ميزوني شطورو.
وتتطلع الصین إلى إشراك 65 دولة يسكنها 5.4 مليار نسمة (70% من سكان العالم)، وتستأثر بـ55% من الناتج الخام في العالم، في مبادرتها. واعتبرت مجموعة البنك الدولي في أحد تقاريرها أن "الحزام والطريق" تنطوي على مخاطر تتسم بها في العادة مشروعات البنية التحتية الكبيرة، وأن هذه المخاطر قد تتفاقم بسبب نقص الشفافية، وضعف العوامل الاقتصادية الأساسية ومستويات الحوكمة في العديد من البلدان المشاركة، والعوامل المرتبطة بالقدرة على الاستمرار في تحمّل أعباء الديون.
"تفاوضُ تونس مع الصّين يجب أن يكون قائماً على أساس مبدأ الند للند، لا أن تكون شراكة أحادية الجانب. وعلى الجانب التونسي رسم أهداف واضحة من هذا التعاون والاستفادة منه عبر الاستثمار لسد العجز التجاري بين البلدين
شراكة غير متكافئة
ويرى الخبير الاقتصادي التونسي رضا الشكندالي أنّ "هذه العلاقات ليست في صالح تونس لأن الاتفاقيات المبرمة مع الصين محدودة على مستوى القطاعات والمبادلات التجارية فقط ولم تشمل بعد مجال الاستثمار بهدف الإنتاج وتصدير السلع". ويضيف الشكندالي، في تصريحات لرصيف22: "الاستثمار من شأنه تقليص العجز التجاري بين البلدين، وبالتالي فإن الاتفاقات ينبغي أن تتعدى مجرد تبادل السلع والمنتجات لتشمل تنفيذ مشاريع اقتصادية وإرساء شركات صينية منتجة ومُصدِّرَة".
كما يعتبر الخبير الاقتصادي أنّ "للصين أهدافاً واضحة عبر الانفتاح على تونس التي تفتقر بدورها لرؤية شاملة لهذا التعاون فيما تُعتَبر في المقابل بوابة مهمة على مستوى الاستثمار، في إطار مبادرة الحزام والطريق"، مردفاً "علاقات تونس تاريخية مع الاتحاد الأوروبي ما أفرز فائضاً تجارياً سيّما مع كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا نتيجة الاتفاقات الشّاملة التّي لا تقتصر على مبادلات تجارية فقط وإنما تشمل مجال الاستثمار عبر وجود شركات أوروبية كبرى مصدّرة".
وينبّه الشكندالي إلى أنّ العجز التجاري مع الصين يتجاوز 9 مليارات دينار من أصل عجز تجاري إجمالي قيمته 16.5 مليار دينار، وهو ما يجعل تونس - في رأيه - "مجبرة على تغطية هذا العجز عبر التداين من دول أوروبية لأن الصين لا تمنح قروضاً بالدولار". "خاصةً بعد أزمة كورونا التّي أدت لانكماش الاقتصاد الصيني، عمدت الصّين إلى الانفتاح على أسواق أخرى عبر مبادرتها، الحزام والطريق، سيّما وأن أفريقيا تعتبر من الأسواق الواعدة إذ يعيش فيها أكثر من مليار نسمة وتحظى بموقع إستراتيجي على صعيد نقل السلع من أفريقيا نحو أوروبا"، يتابع.
ويوصي الشكندالي بأن "تفاوض تونس مع الصّين يجب أن يكون قائماً على أساس مبدأ الند للند، لا أن تكون شراكة أحادية الجانب. وعلى الجانب التونسي رسم أهداف واضحة من هذا التعاون والاستفادة منه عبر الاستثمار لسد العجز التجاري بين البلدين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...