شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
الدرس الأمريكي لإسرائيل... استباق العدوان ونقل المعارك إلى خارج الحدود

الدرس الأمريكي لإسرائيل... استباق العدوان ونقل المعارك إلى خارج الحدود

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحقيقة

الخميس 8 فبراير 202412:06 م

الدولة التي تقرّ عقوبة الحرق للزنوج، على الرغم من توالي العقود وتغيّر الأنظمة، تورّث أبناءها موت القلب، وبلادة الضمير؛ فلا يترددون في توسيع نطاق الحرائق، يشعلونها ويحرصون على ألا يمس اللهب ثيابهم، وأن تظل رائحة شواء اللحم البشري خارج الحدود. وبعد الفشل يقدمون اعتذاراً درامياً عن جرائم إبادة قرى وغابات ومواطنين، في الفلبين وفيتنام وكمبوديا، بأفلام تجمّل وجه الوحش الأمريكي، وتكون المدافع قد استهدفت بلداً آخر.

أسلوب أمدّ إسرائيل بخبرة إرهابية مزدوجة، في إحكام السيطرة على فلسطينيي 48، وفي إبعاد المعارك إلى خارج حدود فلسطين المحتلة، وإرهاب دول بعيدة بأنها في مرمى النيران الصهيونية. تلك الضربات طالت العراق والسودان وتونس.

بعد ثماني سنوات من حرب مجنونة مع إيران، هدد صدام حسين بأن لديه سلاحاً كيماوياً يحرق نصف إسرائيل، إذا استهدفته بسلاحها النووي. تصريح أحمق، في سياق ينتظر هفوة، ولا يتسامح مع الضعيف، ويتحسّب للقوي كما في حالة كوريا الشمالية. وهل انتظرت إسرائيل تهديد صدام؛ لكي تقصف المفاعل النووي العراقي؟

بين المناهج الدراسية والتعليمية الأمريكية والإسرائيلية اختلافات، في النوع وفي الدرجة. بينهما تناقض، وفقاً للشرعية وللرسوخ التاريخي، تروج الكتب الأمريكية انتصارها للدول الطامحة إلى الاستقلال، وفي الكتب المدرسية الإسرائيلية نظرة دونية إلى العربي، عدوّ يجب قتله

كان العالم المصري يحيى المشد في باريس، للإشراف على شحن وقود ذري إلى بغداد، فاغتاله الموساد في حزيران/يونيو 1980. نجا القتلة، وقُتلت الشاهدة. وفي حزيران/يونيو 1981 دمرت إسرائيل المفاعل العراقي، بعد دقائق من مغادرة الفنيين الفرنسيين للموقع. وفي 2009 أغارت القوات الجوية الإسرائيلية على قافلة أسلحة زعمت أنها تتجه إلى غزة.

دائماً غزة، لم ينتظر رئيس وزراء العدو إيهود أولمرت انتهاء حربه على غزة، فأغار على السودان، وأعلن أن ذراع قواته قادرة على بلوغ الأهداف البعيدة. المعنى واضح، ما تستبيحه أمريكا يصير مستباحاً لإسرائيل. بحجة تفجير سفارتي أمريكا في كينيا وتنزانيا، أمر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون عام 1998 بتدمير مصنع الشفاء للأدوية في السودان. الهجوم الصاروخي الأمريكي قتل العشرات من السودانيين لاحقاً، لانقطاع إمدادات الأدوية من أكبر مصنع زعمت أمريكا أنه ينتج غاز الأعصاب.

وفي عام 2012 قصفت إسرائيل مصنع اليرموك للأسلحة في الخرطوم. المفارقة أن لدى المعتدي جرأة على اتهام المعتدى عليه بالإرهاب. تسويغ ماكر للجريمة، يتيح له تكرار العدوان.

بين المناهج الدراسية والتعليمية الأمريكية والإسرائيلية اختلافات، في النوع وفي الدرجة. بينهما تناقض، وفقاً للشرعية وللرسوخ التاريخي، تروج الكتب الأمريكية انتصارها للدول الطامحة إلى الاستقلال، وفي الكتب المدرسية الإسرائيلية نظرة دونية إلى العربي، عدوّ يجب قتله، وإذا اضطروا إلى الإبقاء على حياته فهو عبد أو خادم.

وكان استقلال أمريكا ثمرة لحروب مع الغزاة الأوروبيين للعالم الجديد. نشوء المجتمع، بأصوله العرقية المتعددة وعنصريته وساديته، استغرق عدة قرون. وفي فلسطين جاءت العصابات الصهيونية المسلحة بالأفكار الصهيونية، وببنادق القوى الاستعمارية، قبل وجود مجتمع إسرائيلي. مسمى المجتمع الإسرائيلي غير متفق عليه إلى الآن، ما الذي يجمع بين فقير إثيوبي ومرتزق أمريكي يحمل الجنسية الإسرائيلية؟

صفحة مكثّفة في الجزء الثاني من كتاب "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة" يلخص فيها المؤرخ الأمريكي هوارد زِن (1922 ـ 2010) سِجِلّ التدخل الأمريكي في شؤون العالم: "لقد عارضت الثورة في هاييتي لتحقيق استقلالها عن فرنسا في بداية القرن التاسع عشر، وأثارت حرباً مع المكسيك وضمت نصف أراضيها. وتظاهرت بمساعدة كوبا في استقلالها عن إسبانيا ثم قامت بزرع نفسها في ذلك البلد وأقامت فيه قاعدة عسكرية واستثمارات ضخمة مع الاحتفاظ بحقوقها في التدخل، وحاصرت هاواي وبورتوريكو وجوام، وشنت حرباً وحشية لإخضاع الفلبينيين، وفتحت اليابان لتجارتها عن طريق التهديد، وأعلنت سياسة الباب المفتوح في الصين"، واستثنت دول أمريكا اللاتينية من المبدأ نفسه.

فمع أمريكا الجنوبية انتهجت سياسة الباب المغلق، "بمعنى أن باب أمريكا اللاتينية يكون مغلقاً في وجه أي أحد إلا الولايات المتحدة" التي دبرت "ثورة ضد النظام في كولومبيا، وخلقت دولة 'مستقلة' هي بنما بهدف بناء قناة بنما والسيطرة عليها، وكانت قد أرسلت خمسة آلاف من قوات المارينز إلى نيكاراغوا في عام 1926 كي تحبط قيام ثورة وأبقت على قوة هناك لسبع سنوات، وتدخلت في جمهورية الدومينيكان للمرة الرابعة في عام 1916 وأبقت على قوات هناك لثمانية أعوام، وتدخلت للمرة الثانية في هاييتي عام 1915 وأبقت على قوات هناك لمدة تسعة عشر عاماً. وبين عام 1900 و1933 تدخلت الولايات المتحدة في كوبا أربع مرات وفي نيكاراغوا مرتين، وفي بنما ست مرات، ومرة في غواتيمالا، وفي هندوراس سبع مرات".

هذه الصفحة السوداء أتعبتني قراءتها. أغمضتُ عيني، وتمثلتُ مرارات الملايين من الضحايا ودمائهم وشقائهم؛ فترحّمتُ عليهم، ولعنتُ طغاة يرفعون رايات استقلال الشعوب وحرياتها، وأشفقت على هوارد زِن الذي نالته اتهامات مكارثية تطعن في وطنيته، منذ نشر كتابه "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة"، الذي ترجمه الدكتور شعبان مكاوي (1963 ـ 2005).

حربٌ خاضها كاتب نفى وجود شيء اسمه "الحقيقة الخالصة البريئة"؛ فوراءها حقائق مسكوت عنها، مطموسة، مهملة عمداً. رجعت إلى الصفحة التي يختمها بأنه بحلول عام 1924 كانت أمريكا "تدير اقتصاد نصف دول أمريكا اللاتينية العشرين، وبمجيء عام 1933 كان نصف إنتاج الولايات المتحدة من الحديد الصلب والقطن يتم تصديره إلى هذه الدول".

جانب من التاريخ الرسمي المسكوت عنه يخص علاقة الولايات المتحدة باليهود. هوارد زِن يقارن بين موقف ألمانيا النازية من اليهود، وموقف أمريكا من الزنوج، لا يختلفان إلا في الدرجة، ويتشابهان في العنصرية والاضطهاد. وقد انضمت الولايات المتحدة "إلى إنجلترا وفرنسا في استرضاء هتلر على مدى الثلاثينيات".

تابعوا السياسات العنصرية النازية، وفي كانون الثاني/يناير 1934 قُدم قرار إلى مجلس الشيوخ، يطالبه بالتعبير عن "الاندهاش والألم لما كان يفعله الألمان باليهود"، لكن وزارة الخارجية قامت "بدفن هذا القرار". وبعد الغزو الإيطالي لإثيوبيا، عام 1925، حظرت أمريكا تصدير الأسلحة إلى إيطاليا الفاشية، وتركت الشركات الأمريكية تصدر البترول بكميات كبيرة، لضمان استمرار إيطاليا في الحرب.

أما الموقف الذي يشبه دعم أمريكا وأوروبا الغربية لإسرائيل، منذ بدء عدوانها على غزة، فله جذور "عندما قام انقلاب فاشيستي في إسبانيا عام 1936 ضد الحكومة الاشتراكية المنتخبة، التزمت إدارة روزفلت الحياد وهو ما حال دون مساعدة الحكومة الإسبانية بينما قدم هتلر وموسوليني عوناً كبيراً لفرانكو". ويتساءل هوارد زِن: هل أخطأت الإدارة الأمريكية التقدير، أمْ قدمت مصالحها على إيقاف الفاشية؟ يسأل ولا يجيب. لكنه يربط بين بداية تهديد اليابان وألمانيا للمصالح الأمريكية في العالم، وتأييد السياسة السوفيتية، ومناهضة الفاشية، فلم تعترض أمريكا على اليابان، "طالما ظلت عضواً يعرف حدوده في النادي الإمبراطوري للقوى العظمى التي كانت تشترك في استغلال الصين".

الدعوات الرسمية وغير الرسمية، في إسرائيل، للتخلص من أهل غزة بالإبادة، أو الإبعاد خارج حدود فلسطين المحتلة، تنتهج السياسة الأمريكية، في "تقليد الفاشية" إزاء الأمريكيين اليابانيين، في كانون الأول/ديسمبر 1941 بعد هجوم بيرل هاربر، إذ انتشرت "هستيريا" معادية لليابانيين في عموم البلاد، وقال عضو بمجلس النوب الأمريكي: "دعونا نتخلص منهم".

وفي هدوء، وقع الرئيس روزفلت في شباط/فبراير 1942 أمراً يمنح الجيش الأمريكي سلطة "القبض على كل ياباني-أمريكي في الساحل الغربي دون اتهامات أو محاكمات ونقلهم إلى معسكرات اعتقال يعيشون فيها عيشة السجناء". وبلغ عدد المعتقلين 110 آلاف من الرجال والنساء والأطفال، ثلاثة أرباع هؤلاء أطفال ولدوا في أمريكا، أي أنهم مواطنون أمريكيون. وأيدت المحكمة الدستورية العليا، عام 1944، اعتقال اليابانيين الأمريكيين، باعتباره ضرورة عسكرية، وظلوا في معسكرات الاعتقال ثلاثة أعوام.

هل قامت الحرب رفضا لهوس هتلر بتفوق الجنس الجرماني الأبيض على الأجناس "الأدنى"؟ وماذا عن الجيش الأمريكي؟ يوضح هوارد زِن أنه أيضاً "كان يقوم على الفصل العنصري"، فالقوات المتوجهة إلى مسرح الحرب في أوروبا أبحرت بهم السفينة كوين ماري، وحُشر السود في القاع، بجوار غرفة المحركات، بعيداً عن الهواء النقي، رحلة عكسية تذكّر "برحلات نقل العبيد من إفريقيا إلى العالم الجديد. بل إن هيئة الصليب الأحمر، بموافقة الحكومة الأمريكية، كانت تقوم بفصل الدم المتبرع به من السود والبيض"، وتمّ فصل الطبيب الأسود تشارلز درو، المشرف على تبرعات الدم أثناء الحرب، عندما حاول إنهاء مسألة الفصل العنصري في الدم المتبَرع به.

طُويت مظاهر العنصرية الأمريكية وصارت تاريخاً، لكن الروح العنصرية لا تزال يقظة، لا تخفي دعمها للحليف الصهيوني، وتسويغ ما يقوم به من إجراءات ترشحه ليكون الصورة العصرية لألمانيا النازية، إنها نازية من دون النازي، الوارث الأكثر وفاء للتاريخ الأمريكي الأسود

انطلق قطار الحرب على قضيبين هما الطبقية والعنصرية. طبقياً، كانت المشاركة "من أجل مصالح نخبة ثرية" تتحالف مع حكومة أنفقت، وفقاً لتقرير لمجلس الشيوخ، مليار دولار على البحث العلمي الخاص بالصناعة، أثناء الحرب، وذهب 400 مليون من هذا الرقم إلى عشر شركات كبرى، من بين ألفي شركة كانت طرفاً في هذه القضية. وعنصرياً، كان الزنوج يرون أنهم الخاسرون ولو انتصروا في الحرب.

ويذكر لورنس وينتر في كتابه "متمردون ضد الحرب" أن طالباً في كلية للزنوج قال للمدرس: "إن الجيش يمارس التمييز العنصري ضدنا، والبحرية لا توظفنا إلا في المهن الصغيرة والحقيرة. والصليب الأحمر يرفض تبرعنا بالدم. ولا نزال محرومين من حقنا في التصويت في الانتخابات. وما زال البيض يبصقون علينا، وما زال بعضنا يموتون غرقاً. هل يفعل هتلر ما هو أكثر؟".

طُويت مظاهر العنصرية الأمريكية وصارت تاريخاً، لكن الروح العنصرية لا تزال يقظة، لا تخفي دعمها للحليف الصهيوني، وتسويغ ما يقوم به من إجراءات ترشحه ليكون الصورة العصرية لألمانيا النازية، إنها نازية من دون النازي، الوارث الأكثر وفاء للتاريخ الأمريكي الأسود.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard