كانت نور ذات الأعوام السبعة، والتي وُلدت مصابةً بالشلل الدماغي نتيجة نقص الأوكسجين، قد قطعت شوطاً لا بأس به في مشوارها العلاجي الصعب والمُكلّف مادياً، إلا أن الحرب على قطاع غزة وعمليات الإبادة والتهجير القسري التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين على مدار أكثر من 3 أشهر، لم تبدد فقط جهود أسرتها ومعالجيها وأي أمل لشفائها، بل أفقدتها حياتها أيضاً.
على مدار سنوات حياتها المعدودة، لم تستطع نور أن تتناول طعاماً غير اللبن الرائب و"الزبادي" المخفوق، لعدم قدرتها على المضغ ومعاناتها من صعوبة في البلع، بسبب الشلل الدماغي، ومنذ اندلعت الحرب في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، وبدأت معها حرب التجويع بحق الأهالي المحاصرين في غزة، لم تعد أسرتها قادرةً على إيجاد طعام لها، وبسبب انقطاع التيار الكهربائي لم يتمكنوا أيضاً من صنع أي مخفوق لها داخل الخلاط، لتقضي الصغيرة شهرين ونصف شهر دون قطرة حليب أو أي طعام باستثناء فتات خبز مبلل بشرائح البندورة والزعتر، وهو ما واجهت صعوبةً بالغةً في بلعه والتهامه؛ فكانت تقضي أياماً دون أن تأكل شيئاً، وهو ما تطلب نقلها إلى المستشفى مرات عدة لحقنها بالمحاليل.
يحكي والد نور، لرصيف22، كيف فقدت ابنته وعيها بسبب الجوع والجفاف: "في التاسع والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، لم أجد أمامي وسيلةً لنقلها إلى المستشفى الأقرب إلى مركز الإيواء، غير عربة يجرّها حصان، وبعد معاناة في الطريق الذي تحفه المخاطر، وصلت إلى المستشفى حاملاً ابنتي، لكن لم تمضِ خمس دقائق على وصولها حتى لفظت أنفاسها الأخيرة، ودخلت أمها وشقيقتاها في حالة من الانهيار والصدمة".
مأساة نور كانت قد سبقتها مأساة مشابهة وقعت في الثامن من الشهر نفسه وسببت صدمةً للرأي العام العربي بعد رواجها على مواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث ماتت جوعاً الطفلة جنى قديح، مريضة الشلل الدماغي ذات الأعوام الأربعة عشر، والتي نزحت مع أسرتها إلى مركز للإيواء داخل مدرسة طيبة الحكومية في بلدة عبسان الكبيرة شرق مدينة خان يونس، بعدما مكثت ثلاثة أيام وهي تنازع الموت، وتتشبث بالحياة بشرب الماء فقط لعدم وجود طعام لها، حتى توفيت ودُفنت في ساحة المدرسة.
يُعرف الشلل الدماغي بأنه مجموعة من الحالات المرضية التي تؤثر على الحركة ووضعية الجسم، ويحدث نتيجة حدوث تلف في الدماغ في طور النمو، وغالباً قبل الولادة.
وقد يُسبب الشلل الدماغي صعوبةً في البلع وعدم الاتّزان بين عضلات العينين بحيث لا تركز العينان على الشيء نفسه، بالإضافة إلى نطاق حركة محدود في مفاصلهم بسبب تيبس العضلات.
الاستعانة بأهل الخير لإطعامه
يناضل أحمد، منذ دمّرت طائرات الاحتلال الإسرائيلي منزله، واضطر إلى النزوح مع أسرته من الشمال إلى منطقة المواصي في خان يونس جنوب غزة، وأقاموا في مركز إيواء في مدرسة مزدحمة للغاية، لإطعام طفله ذي الأعوام الخمسة والمصاب بالشلل الدماغي الكلي، وإبقائه على قيد الحياة.
وعلى النقيض من نور، يُعدّ الطفل عبد حالةً نادرةً من نوعها كونه لم يولد مشلولاً، ولم تظهر أعراض الإصابة عليه إلا بعد تلقّيه لقاح السعال الديكي ضمن تطعيم الثلاثي البكتيري، وهو الأمر الذي جعل أسرته وطبيبه يعتقدون أن الإصابة جاءت كأثر جانبي للقاح".
"لأنه لا يوجد كهرباء إطلاقاً في ظل استمرار الحرب، نقوم بإعداد طعامه من خلال خلطه يدوياً... ونعيش معاناةً ومأساةً وحزناً كبيراً، فأنا أقوم بجهد كبير من أجل توفير طعامه من خلال أهل الخير"
يقضي الطفل عبد سنوات من عمره مشلولاً يلازم فراشه طوال الوقت، ويعتمد على والديه بشكل كلي في رعايته، وكان يخضع قبل الحرب على غزة، لجلسات علاج طبيعي بشكل دوري ويتلقى علاجاً دوائياً، أما الآن فقد تدهورت حالته الصحية أكثر لعدم وجود أطباء يهتمون بوضعه الصحي لأن القطاع الصحي دُمّر بشكل كبير بسبب الحرب واستهداف المستشفيات والتهجير، وعدم توافر الدواء، ناهيك عن إقامته في مركز إيواء مكدّس بالنازحين/ ات ويفتقر إلى النظافة.
يقول الوالد لرصيف22: "لأنه لا يوجد كهرباء إطلاقاً في ظل استمرار الحرب، نقوم بإعداد طعامه من خلال خلطه يدوياً... ونعيش معاناةً ومأساةً وحزناً كبيراً، فأنا أقوم بجهد كبير من أجل توفير طعامه من خلال أهل الخير".
ويضيف: "لا أستطيع التعبير عن وضعنا فهو سيئ للغاية ولا يتصوره عقل".
ويوضح الأب أن ابنه يحتاج أحياناً إلى جلسات أوكسجين، ولكن في الوقت الحالي لا يتوافر الأوكسجين في مناطق الايواء، ويحاول الأبوان جاهدين توفير بيئة نظيفة للطفل ولكن الأمر بات صعباً للغاية بسبب الازدحام السكاني في مركز الإيواء وقلة النظافة التي أدت إلى انتشار الأمراض بين الناس.
تدمير مراكز التأهيل والعلاج
يحتاج الأطفال المصابون بالشلل الدماغي إلى خدمة التأهيل والعلاج الطبيعي، لكن الكثير من مراكز التربية الخاصة وعيادات العلاج الطبيعي تعرضت للتدمير الكلي أو الجزئي أو الإغلاق بسبب الحرب.
ومن بين هذه المراكز المدمرة كان مركز فلسطين للتربية الخاصة الذي تعرّض للقصف الإسرائيلي.
"لم أجد أمامي وسيلةً لنقلها إلى المستشفى الأقرب إلى مركز الإيواء، غير عربة يجرّها حصان، وبعد معاناة في الطريق الذي تحفه المخاطر، وصلت إلى المستشفى حاملاً ابنتي، لكن لم تمضِ خمس دقائق على وصولها حتى لفظت أنفاسها الأخيرة"
توضح أريج أبو سلطان، المديرة الفنية للمركز، أن هناك احتياجات خاصةً لمصابي الشلل الدماغي، أهمها توفير المكان المناسب لتقديم العديد من الخدمات كالعلاج الطبيعي والطبي والغذائي والتدخل المنزلي، لكن بسبب العدوان على قطاع غزة ودمار المراكز العلاجية، والاستهداف المباشر للكادر الطبي والمستشفيات، فقد المرضى جميع الوسائل العلاجية.
وتؤكد أريج لرصيف22، أنه بسبب الحصار ومنع الاحتلال وصول المساعدات الغذائية، فقد السوق التنوع الغذائي الذي يحتاجه مصابو الشلل الدماغي، وأصبح هناك شح في الأدوية التي يحتاجها المرضى، مما يؤدي إلى وفاتهم، مشيرةً إلى أن انقطاع أطفال الشلل الدماغي لفترة عن العلاج سيؤدي إلى تدهور حالتهم الصحية والجسدية ويعرّضهم لانتكاسة صحية.
تضاعف أسعار مستلزماتهم وندرتها
في حديثه إلى رصيف22، يشرح الدكتور إسلام جندية، وهو أخصائي تربية علاج طبيعي ومدير مركز الحياة للعلاج الطبيعي للأطفال، والذي تعرض للاحتراق خلال الحرب الجارية، كيف أن الأطفال المصابين بالشلل الدماغي تختلف احتياجاتهم حسب طبيعة حالتهم، وأغلب الحالات تحتاج إلى طعام خاص سهل البلع يكون مهروساً أو مطهواً جيداً، كما يحتاجون إلى الحفاضات لعدم قدرتهم على التحكم في الإخراج، وهم بحاجة مستمرة إلى العلاج الطبيعي والتأهيل بمختلف مجالاته، حتى يتم الحفاظ على استمرارية تحسن الحالة.
ويوضح: "أغلب حالات الشلل الدماغي سهل تراجعها إذا لم يتم تحقيق هدف وظيفي ضمن الحياة اليومية للطفل، بجانب الحاجة إلى الدواء من فيتامينات ومقويات وأدوية الشد العصبي والعديد من الحالات تحتاج إلى أدوية خاصة بالتشنجات، بالإضافة إلى الحاجة إلى الدمج المجتمعي بما يناسب حالتهم لتعزيز تطور مهارات الطفل الجسدية والعقلية".
ويؤكد جندية، أن غالبية احتياجات مصابي الشلل الدماغي تقلصت أو انعدمت القدرة على توفيرها: "حفاضات الأطفال ارتفع سعرها أكثر من سبعة أضعاف ويندر توفرها، بعض الحالات تحتاج إلى حليب خاص أو نوع علاج خاص في ظل الحرب غير متوافر، كما باتت الأدوات العلاجية والمساعدة شحيحةً"، لافتاً إلى كون الكثير من المستشفيات ومراكز التأهيل والعلاج الطبيعي قد دُمّرت والعديد من الأطباء استشهدوا، بالإضافة إلى عدم وجود كهرباء ولا وقود لإعداد الطعام بالشكل المطلوب.
وهناك صعوبة في المواصلات وشح في المواد الغذائية وارتفاع في أسعارها بشكل جنوني، بالإضافة إلى كون أغلب سكان غزة نازحين غادروا بيوتهم التي تم تدمير معظمها وصاروا يسكنون في الخيام.
ويشدد على أن معاناة ذوي الأطفال تزداد في ظل صعوبة الحياة اليومية لجميع سكان غزة من توفير المياه والخبز والمواد الغذائية، والتي تتطلب جهداً ووقتاً كبيرين من طوابير وازدحام، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة التلوث في مياه الشرب والعديد من الأغذية، وارتفاع نسبة العدوى بسبب الازدحام وبطبيعة حالات الشلل الدماغي فإن أصحابها أكثر عرضةً للإصابة بالأمراض والعدوى من غيرهم، عادّاً أن هذه الأسباب تهدد حياة تلك الفئة من الأطفال.
ويوضح مدير المركز أن انقطاع العلاج الطبيعي والتأهيل لفترة طويلة تسبب في تراجع أغلب الحالات: "في حالة الحرب يكون التراجع مضاعفاً بسبب الخوف والهلع من القصف والانفجارات اللذين يسببان حالةً نفسيةً تضيف مشكلةً مضاعفةً للطفل"، مؤكداً أن غالبية أطفال الشلل الدماغي الذين يتلقون العلاج الطبيعي والتأهيل تتراجع حالتهم عند الانقطاع عن الخدمة.
من ناحيته، يوضح مجدي مرعي، أمين عام الاتحاد الفلسطيني العام للأشخاص ذوي الإعاقة، أن مجموع الأشخاص ذوي الإعاقة في قطاع غزة والبالغ عددهم حسب مركز الإحصاء الفلسطيني 58 ألف شخص، قد تعرضوا لانتهاكات مختلفة ومتفاوتة تركزت منذ العدوان الذي تعرض له قطاع غزة ما بعد أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من العام المنصرم، أبرزها: تعرضهم للنزوح من بيوتهم أو مؤسساتهم ومراكز إيوائهم دون وجود أدنى مقومات للحياة من ماء أو غذاء أو دواء أو ضمان حقهم في الحياة وعدم تعريضهم لمخاطر القصف ووجود ممرات إنسانية لهم ولذويهم.
"في حالة الحرب يكون التراجع مضاعفاً بسبب الخوف والهلع من القصف والانفجارات اللذين يسببان حالةً نفسيةً تضيف مشكلةً مضاعفةً للطفل"
ويؤكد مرعي أن الفئة الأكثر تضرراً هي فئة أطفال الشلل الدماغي، بحيث يفتقدون القدرة على التعايش مع واقع الحرب خاصةً في ظل عدم توافر مستلزماتهم الطبية وأدوات المساعدة وأدويتهم بالإضافة إلى بعض المغذّيات وأنواع الحليب الخاصة بهم، وتتفاقم معاناتهم ومعاناة أهاليهم بوجودهم في مراكز الإيواء التي تفتقر إلى مقومات التعامل مع مثل هذه الحالات وأيضاً غياب آليات التواصل معهم لتحذيرهم من مخاطر الحرب وما يتعرضون له.
ويبدي مرعي، قلقه من عدم استطاعة الاتحاد التواصل مع ذوي أطفال الشلل الدماغي بسبب تدمير مؤسساتهم وقصف كامل فروع الاتحاد وفقدان الاتصال بالأعضاء في فروع الاتحاد، محذراً من تلقيه معلومات خطيرةً تشير إلى فقدان أعداد كبيرة منهم خلال القصف المستمر على القطاع وضياعهم وفصلهم عن أهاليهم في أثناء تهجيرهم، كما حصل حين تم استهداف جمعية مبرة فلسطين للرعاية "مركز حمد بن جاسم للرعاية التأهيلية المتكاملة، التي كانت تأوي عشرات الحالات من مصابي الشلل الدماغي، وغيره من المراكز.
وفي نهاية حديثه، يدعو أمين الاتحاد في ظل الواقع المتردي الذي وصل إليه ذوو الإعاقة في غزة بشكل عام وحالات الشلل الدماغي بشكل خاص، إلى الضغط من أجل إيقاف الحرب الشرسة على قطاع غزة، ومن ثم إنجاز خطط الطوارئ التي تعمل على تنفيذها مؤسسات الأمم المتحدة والمؤسسات الإغاثية والإنسانية من خلال تضمين ذوي الإعاقة ضمن خططهم وأولوياتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع