أن تكون مصاباً بمرض مزمن في غزة، هي مسألة لا تقل خطورة عن إصابتك بقذيفة أو صاروخ أو رصاصة مباشرة. فالنتائج قد تكون مشابهة من حيث حدة تفاقم مرضك ووجعك، أو حتى موتك البطيء، في ظل شح الأدوية وصعوبة الوصول إليها، أو عدم توفرها إطلاقاً. فالمرضى الذين نجوا من الحرب حتى اليوم قد يفقدون حيواتهم في أي لحظة بسبب نفاذ الأدوية من والعيادات الحكومية، ونقص المعدات الطبية وخروج معظم المشافي عن الخدمة. يضاف ذلك إلى حالة الطوارئ المستمرة التي تعمل في ظلها الكوادر الطبية، والتي تصعب عليهم تفرغهم لعلاج المرضى بسبب انشغالهم بمصابي الحرب.
"إنها حرب على النظام الصحي"، كما وصفها الطبيب غسان أبو ستّة. يرتكبها الاحتلال كي يجبر الفلسطينيين على النزوح ثم الهجرة وكي يحول غزة إلى مكان "غير قابل للعيش" كما يقول الطبيب. فقد خرج عن الخدمة نحو 22 مشفى، و7 أخرى خرجت عنها بشكل جزئيّ ما بين شمال القطاع وجنوبه، في حين يعمل 14 مشفى فقط حيث فاقت القدرة الاستيعابية لهذه المشافي ما يزيد عن 300 بالمئة من طاقتها، وفق تصريحات متحدث منظمة الصحة العالمية، كريستيان ليندماير مال.
350 ألف مريض/ة غزي وغزية يعانون من أمراض مزمنة كالقلب والسكري والفشل الكلوي، وفق صحة غزة. وأعداد مهولة أخرى انتشرت بينها أوبئة جديدة بسبب النزوح والاكتظاظ وانعدام المياه، فكيف يعيش هؤلاء وهل من نوافذ تفتح أمامهم بعض الأمل سوى المناشدات المنشورة عبر صفحات الغزيين على وسائل التواصل الاجتماعي؟
قاتل صامت بين الغزيين
يقضي النازح منير عبد الله (44 عاماً) جولة محملة بالعذابات بين أزقة العيادات الحكومية في مدينة رفح جنوب غزة، أملًا في الحصول على جرعة إنسولين يعالج داء السكري الذي يعاني منه، لكن دون فائدة. يضاف صراع منير مع مرضه المزمن، إلى الأوضاع المزرية التي يعيشها في مدارس الإيواء التابعة لوكالة غوث اللاجئين الأونروا. "إن انعدام توفر إبر الإنسولين يفاقم وضعي الصحي. قد يحدث اعتلال لشبكية العين وقد أفقد البصر. لا توجد بدائل لهذه الجرعة من الدواء، كما لا يوجد غذاء سليم أو رعاية صحية"، يقول منير في حديثه لرصيف22، مضيفاً: "قبل الحرب كنت أحصل على دواء مجاني من عيادات الأونروا. كانت صحتي أفضل بكثير، لأني كنت ملتزماً بأخذ العلاج واستشارة الطبيب بشكل منتظم. لكن بسبب الحرب، أجبرت على الرحيل من منطقة سكني، فنزحت وحرمت من فرصة حصولي على العلاج المناسب".
تابعنا كذلك قصة المريض الخمسيني خضر زنون، الذي دخل أخيراً إلى غرفة الطبيب للفحص بعد انتظار دام ساعات طويلة في طابور الكشف الطبي المزدحم في المشفى الكويتي التخصصي في رفح. وكانت ساءت حالة خضر لعدم خضوعه لجلسة غسيل الكلى منذ شهرين، ولعدم قدرته على تناول الدواء للحفاظ على نسبة الكالسيوم والدم في الجسم، كحل مؤقت. بالكاد أسعفته كلماته لشدة إعيائه: "كنت قبل الحرب أخضع لجلستي غسيل كلى في الأسبوع الواحد. أما في الحرب فلم أحصل سوى على جلسة واحدة، بسبب تكدس حالات المرضى وقلة الأجهزة والأسرة الطبية المتوافرة في المشافي. حالتي الصحية متدهورة وبحاجة لجلسة غسيل فوراً. من شدة الألم أشعر أني على وشك الموت"، يقول خضر، ويضيف بأنه يعاني من معضلة أخرى تتجسد في عدم توفر مياه صالحة للشرب، الأمر الذي يشكل خطورة كبيرة على صحة جميع مرضى الكلى.
حياة خضر، وقرابة 1100 شخص مريض بالفشل الكلوي، مهددة بالتوقف بعد تحذيرات أطلقتها وزارة الصحة في غزة حول احتمال توقف عمل جميع أقسام الكلى في المشافي، مشيرة إلى أنها تقدم خدمة غسيل الكلى في 6 مراكز فقط، و15 ألف جلسة غسيل شهرياً.
مستنقع من الأوبئة المستجدة
في مقابل المعاناة المريرة التي يواجهها أصحاب الأمراض المزمنة، بدأت الأوبئة والأمراض، التي وصفها الغزيون بأنها جديدة عليهم، بالانتشار. وهي بطبيعة الحال أوبئة ظهرت جراء تداعيات حرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع، وأبرزها الكبد الوبائي، الذي يضاف إلى أمراض أخرى منتشرة مثل الأمراض الجلدية، الحصبة، حمى السحايا، النزلات المعوية، المنتشرة بين الأطفال على وجه الخصوص. وهي أمراض رصدها منذر شريف، اختصاصي الأمراض والأوبئة. وتنتشر حالياً بشكل واضح بين النازحين الذين يعيشون اكتظاظاً بشرياً عالياً.
لقد أدى الاكتظاظ السكاني وتجمع أكوام النفايات وانعدام نظافة المراحيض وشرب المياه الملوثة في مخيمات النزوح إلى انتشار فايروس الكبد الوبائي نوع A الذي أصاب أكثر من 8 آلاف حالة سجلتها وزارة الصحة في غزة بتاريخ 28 كانون الثاني/ يناير الحالي، معظمهم من النازحين.
أن تكون مصاباً بمرض مزمن في غزة، هي مسألة لا تقل خطورة عن إصابتك بقذيفة أو صاروخ أو رصاصة مباشرة. فالنتائج قد تكون مشابهة من حيث حدة تفاقم مرضك ووجعك، أو حتى موتك البطيء
"المصائب لا تأتي فرادى، نزوح ووباء. أصبت بفايروس الكبد الوبائي. ويبدو أن العدوى انتقلت لي من إحدى جاراتي في الخيام كونها أصيبت بنفس الفايروس. نحن نعيش في مستنقع الأوبئة، فالأمراض منتشرة في كل مكان"، تقول سناء رزق (29 عاماً) لرصيف22، وهي نازحة من شمال القطاع إلى مخيمات بدير البلح وسط قطاع غزة. وكانت سناء اكتشفت إصابتها بالكبد الوبائي بعد خضوعها لفحص دم مخبري في مستشفى شهداء الأقصى الذي تتكدس بين ممراته وأروقته عشرات الحالات المشابهة، ينتظرون دورهم لتلقي العلاج. تقول سناء إن الحل الأمثل لشفائها يكمن في الابتعاد عن أي بيئة ملوثة ومعدية، إلا أن ذلك يبدو أمراً صعباً للغاية طالما أن القطاع في حالة حرب ونزوح، ولا مكان آخر تذهب إليه كي تقي صحتها.
إبادة النظام الصحي
وكانت منظمة الصحة العالمية حذرت من خطورة تفشي الأمراض في قطاع غزة دون توفر العلاج، في تصريح أدلت به ديفي سريدهار؛ رئيسة شعبة الصحة العامة العالمية: إن ربع عدد سكان قطاع غزة قد يموتون في غضون عام بسبب تفشي الأمراض جراء حرب إسرائيل غير المسبوقة على القطاع، في حال لم يتم إيجاد حل للأزمة بشكل فوري".
هل يدفعنا هذا للتفكير بأن الأمراض ستكون أكثر فتكاً على الغزيين من القصف والقتل؟ إنه سؤال جاء على شكل عناوين تصدرت تقارير بهذا الخصوص في وسائل الإعلام المختلفة، والغربية منها. لكن المقاربة هنا ليست مهمة طالما أن السبب هو واحد، الحرب الإبادة المستمرة على الغزيين والغزيات، بجميع أشكالها، حرب النار والتجويع والأمراض والنزوح، والحرب على النظام الصحي الذي من المفترض أن ينقذ هذه الأرواح.
"إن القطاع الصحي يواجه أزمة خانقة، نحن نعمل فوق طاقتنا للبقاء على رأس العمل واستمرار الخدمة. بالنسبة لأصحاب الأمراض المزمنة، فنتعامل معها على أساس المفاضلة. فمثلاً، نقدم علاجاً لمرضى السكري الذين قد يفقدون حياتهم، أولئك الذين يصلون في حالة غيبوبة وارتفاع في حموضة الدم، فيحتاجون علاجاً فورياً. أما بالنسبة لمرضى الفشل الكلوي، فقد تم تقليص ساعات الغسيل للحالات الحرجة فقط"، يقول شريف منذر لرصيف22.
وأشار في معرض حديثه إلى أن هناك أزمة مضافة تتعلق بمرضى القلب، فتشهد المشافي ازدياداً في أعداد المصابين بأمراض القلب بسبب الضغط والتوتر والخوف من القصف، موضحا أنه تعامل مع عدة حالات تم علاجها بصدمة كهربائية على أرض المشفى نظراً لتكدس المرضى. وأضاف بأن الاحتلال الإسرائيلي أحرق معظم المشافي الخاصة بعلاج مرضى القلب، ودمّر كلياً قسم الأمراض القلبية في مشفى الشفاء. وحين سألناه عن الحلول التي قد تقي المرضى، نسبياً، من تفاقم صحتهم، أجاب بأن "الحل يكمن في توفير بيئة صحية وماء وغذاء صحي، بعيداً عن التكدس والازدحام". كيف لهذا أن يكون وارداً وآلة الحرب الإسرائيلية تحشر مليوني إنسان جنوباً، حتى بات الكثير منهم يفترشون الأرصفة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 17 ساعةربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ يومحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي