شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
مناظرة ابن عباس لأهل النهروان... ثلاث روايات مختلفة لحادثة واحدة

مناظرة ابن عباس لأهل النهروان... ثلاث روايات مختلفة لحادثة واحدة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

السبت 10 فبراير 202403:23 م

قُتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، في أواخر سنة 35هـ، على يد الثوار الذين قدموا من شتى أمصار الدولة الإسلامية. ساد الاضطراب في المدينة المنورة لفترة، وبعدها بويع علي بن أبي طالب، بالخلافة ليصبح رابع الخلفاء الراشدين.

اضطر الخليفة الجديد إلى أن يقود جيشه لقتال بعض الجماعات الرافضة لحكمه. في سنة 36هـ، تحرّك علي بن أبي طالب إلى البصرة، وتمكن من القضاء على حركة المعارضة التي قادها كل من السيدة عائشة والزبير بن العوام وطلحة بن عُبيد الله. توجه عليّ في السنة التالية إلى منطقة صفّين حيث قاتل جيش الشام الذي يقوده الوالي معاوية بن أبي سفيان.

يذكر ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ، في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، الأحداث التي وقعت في تلك المعركة، فيتحدث عن سقوط آلاف القتلى من الجانبين. تؤكد الروايات التاريخية أن جيش العراق اقترب من تحقيق النصر الحاسم، وأن الشاميين لمّا استشعروا قرب الهزيمة رفعوا المصاحف على أسنّة الرماح، وطالبوا بالهدنة ووقف القتال.

حاول الخليفة الرابع أن يقنع جنده بمواصلة القتال، ولكن العديد من قادة الجيش مالوا إلى الصلح والمهادنة. قَبِل علي بالهدنة في نهاية الأمر، واتفق الطرفان المتحاربان على أن يجتمع حكمان -حكم من أهل العراق وحكم من أهل الشام- في دومة الجندل ليجدا حلّاً للصراع والحرب الأهلية. عارضت فئة من الجنود العراقيين هذا الاتفاق، وجهر بعضهم بالجملة الشهيرة "لا حكم إلا لله". غادرت تلك الفئة معسكر علي بن أبي طالب، وعسكر أفرادها في منطقة حروراء، فعُرفوا بالحرورية، وسمتهم المصادر السنّية والشيعية في ما بعد باسم الخوارج.

حاول علي بن أبي طالب، أن يقنعهم بصحة موقفه، فأرسل إليهم ابن عمه عبد الله بن العباس، ليناظرهم ويبيّن لهم وجهة نظر الخليفة. وبالفعل، زارهم ابن العباس وناظر قادتهم. نُقلت إلينا وقائع تلك المناظرة في العديد من المصادر التاريخية. نلقي الضوء في هذا المقال على ثلاث روايات مختلفة لتلك المناظرة، لنرى كيف اختلفت تفاصيلها في المصادر السنّية والشيعية والإباضية.

تؤكد تؤكد الرواية السنية في  أن الخوارج لم يتمكنوا من الرد على ابن العباس، وأنهم اعترفوا بانتصاره عليهم في المناظرة، فرجع بعضهم إلى جيش عليّ بينما ظل الباقون على معارضتهم وعنادهم. كيف اختلفت الرواية الشيعية والسردية الإباضية عن ذلك؟

المناظرة بحسب السردية السنّية

وردت قصة هذه المناظرة في العديد من المصادر السنّية، ومنها على سبيل المثال "سنن النسائي" المتوفى سنة 303هـ. ذكرت الرواية أن عبد الله بن العباس ذهب لنقاش الخوارج، وطلب منهم أن يحددوا النقاط التي نقموا بسببها على الخليفة. ردّ الخوارج بأن هناك ثلاث مسائل دفعتهم لمفارقة علي بن أبي طالب.

كانت أول مسألة أن عليّاً "حكم الرجال في أمر الله، وقال الله: إن الحكم إلا لله. ما شأن الرجال والحكم؟". كانت المسألة الثانية أن عليّاً حارب أعداءه في معركتَي الجمل وصفين: "فقاتل، ولم يسبِ، ولم يغنم، إن كانوا كفاراً لقد حل سباهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حل سباهم ولا قتالهم". حدد الخوارج المسألة الثالثة في أن عليّاً بعد أن وافق على أمر التحكيم "محى نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين".

ذكرت الرواية أن ابن العباس سأل مناظريه: "أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جل ثناؤه وسنّة نبيه ما يرد قولكم أترجعون؟". وافق الخوارج، فقال لهم ابن العباس مفنداً المسائل الثلاثة التي نقموا بسببها على الخليفة: "أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله، فإني أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صير الله حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم، فأمر الله تبارك وتعالى أن يحكموا فيه، أرأيت قول الله تبارك وتعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم.

وكان من حكم الله أنه صيّره إلى الرجال يحكمون فيه، ولو شاء لحكم فيه، فجاز فيه حكم الرجال، أنشدكم بالله، أحكم الرجال في صلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل أو في أرنب؟... وفي المرأة وزوجها: وإن خفتم شقاقاً بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها. فنشدتكم بالله، حكم الرجال في صلاح ذات بينهم، وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة؟".

أكدت الرواية أن الخوارج وافقوا ابن العباس في رأيه، فتطرق عندها إلى المسألة الثانية، فقال: "أفتسبون أمكم عائشة -يقصد أن السيدة هُزمت في معركة الجمل- تستحلون منها ما تستحلون من غيرها، وهي أمّكم؟ فإن قلتم: إنا نستحلّ منها ما نستحلّ من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمّنا، فقد كفرتم: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمّهاتهم، فأنتم بين ضلالتين، فأتوا منها بمخرج". تابع ابن العباس حديثه بعدها فتطرق إلى المسألة الثالثة، فقال: "إن نبي الله يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعلي: اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله. قالوا -يقصد كفار مكة-: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك. فقال رسول الله: امحُ يا علي، اللهم إنك تعلم أني رسول الله، امحُ يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله. والله لرسول الله خير من علي، وقد محى نفسه، ولم يكن محوه نفسه ذلك محاه من النبوة".

تؤكد الرواية أن الخوارج لم يتمكنوا من الرد على ابن العباس، وأنهم اعترفوا بانتصاره عليهم في المناظرة، فرجع بعضهم إلى جيش عليّ بينما بقي الباقون على معارضتهم وعنادهم.

وردت قصة مناظرة ابن عباس للخوارج في المصادر الشيعية، ومنها كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي المتوفى سنة 314هـ. يظهر في القصة التأثر الواضح بمبادئ المذهب الشيعي الإمامي، ولا سيما بفكرتي اتّباع آل البيت، والاقتداء بالوصي والإمام المعصوم الذي يرث المقام الروحي للنبي بعد وفاته

المناظرة بحسب السردية الشيعية

وردت قصة مناظرة ابن عباس للخوارج في المصادر الشيعية، ومنها كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي المتوفى سنة 314هـ. يظهر في القصة التأثر الواضح بمبادئ المذهب الشيعي الإمامي، ولا سيما بفكرتي اتّباع آل البيت، والاقتداء بالوصي والإمام المعصوم الذي يرث المقام الروحي للنبي بعد وفاته.

يذكر ابن أعثم أن الخليفة الرابع استدعى ابن عباس، وقال له: "امضِ إلى هؤلاء القوم فانظر ما هم عليه ولماذا اجتمعوا". ذهب ابن عباس للقاء الخوارج وطلب مناظرة من يختارونه منهم، فخرج له واحد منهم اسمه عتاب بن الأعور الثعلبي. بدأ ابن عباس الحديث، فقال لعتاب: "خبّرني عن دار الإسلام هذه، هل تعلم لمن هي ومن بناها؟ فقال الخارجي: نعم، هي لله عزّ وجلّ وهو الذي بناها على أيدي أنبيائه وأهل طاعته، ثم أمر من بعثه إليها من الأنبياء أن يأمروا الأمم أن لا تعبدوا إلا إياه، فآمن قوم وكفر قوم، وآخر من بعثه إليها من الأنبياء محمد"

سأل ابن عباس: "هل كان لمحمد أحد يقوم بعمارة هذه الدار من بعده أم لا؟ قال الخارجي: بلى، قد كان له صحابة وأهل بيت ووصي وذرية يقومون بعمارة هذه الدار من بعده. قال ابن عباس: ففعلوا أم لم يفعلوا؟ قال الخارجي: بلى، قد فعلوا وعمروا هذه الدار من بعده. قال ابن عباس: فخبرني الآن عن هذه الدار من بعده هل هي اليوم على ما تركها محمد من كمال عمارتها وقوام حدودها أم هي خربة عاطلة الحدود؟ قال الخارجي: بل هي عاطلة الحدود خربة.

قال ابن عباس: أفذريته وليت هذه الخراب أم أمته؟ قال: بل أمته. قال: قال ابن عباس: أفأنت من الأمة أو من الذرية؟ قال: أنا من الأمة". قال ابن عباس: "يا عتاب! فخبرني الآن عنك كيف ترجو النجاة من النار وأنت من أمة قد أخربت دار الله ودار رسوله وعطلت حدودها؟ رد عتاب: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، ويحك يا ابن عباس! احتلت والله حتى أوقعتني في أمر عظيم وألزمتني الحجة حتى جعلتني ممن أخرب دار الله، ولكن ويحك يا ابن عباس! فكيف الحيلة في التخليص مما أنا فيه؟".

تذكر الرواية أن ابن عباس قال لعتاب: "الحيلة في ذلك أن تسعى في عمارة ما أخربته الأمة من دار الإسلام... إن أول ما يجب عليك في ذلك أن تعلم من سعى في خراب هذه الدار فتعاديه، وتعلم من يريد عمارتها فتواليه". عرف عتاب ومن حوله من الخوارج أن الطريق الوحيد لنجاتهم هو اتّباع علي بن أبي طالب، باعتباره أحد أهم من عمروا دار الإسلام، وأنه الوريث الشرعي الوحيد للنبي.

ولكن يعود عتاب فينتقد موافقة علي بن أبي طالب، على أمر التحكيم فيردّ عليه ابن عباس موضحاً: "ويحك يا عتاب إنّا وجدنا الحكومة في كتاب الله عزّ وجلّ أنه قال تعالى: فَابْعَثُوا حَكَماً من أَهْلِهِ وَحَكَماً من أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُما. وقال تعالى: يَحْكُمُ به ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ". يذكر ابن أعثم أن الخوارج اعترضوا أن يكون عمر بن العاص -وهو أحد الحكمين- من العدول الذين قصدتهم الآيات القرآنية السابقة، وأن ابن عباس رد عليهم: "يا هؤلاء! إن عمرو بن العاص لم يكن حكماً أفتحتجون به علينا؟ إنما كان حكماً لمعاوية، وقد أراد أمير المؤمنين عليّ، أن يبعثني أنا فأكون له حكماً، فأبيتم عليه وقلتم: قد رضينا بأبي موسى الأشعري، وقد كان أبو موسى لعمري رضياً في نفسه وصحبته وإسلامه وسابقته، غير أنه خُدع فقال ما قال، وليس يلزمنا من خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى، فاتّقوا ربكم وارجعوا إلى ما كنتم عليه من طاعة أمير المؤمنين، فإنه وإن كان قاعداً عن طلب حقه فإنما ينتظر انقضاء المدة ثم يعود إلى محاربة القوم، وليس عليّ ممن يقعد عن حق جعله الله له". تنتهي الرواية بالتأكيد على انتصار ابن العباس على عتاب بن الأعور في المناظرة، وأن الخوارج أصرّوا على موقفهم ورفضوا الرجوع إلى جيش العراق.

تُنسب فرقة الإباضية إلى عبد الله بن إباض المتوفى سنة 89هـ، وتتفق تلك الفرقة مع الخوارج/ الحرورية في العديد من المعتقدات والأفكار، ولا سيما في ما يخصّ تخطئة علي بن أبي طالب لقبوله التحكيم في معركة صفين. تظهر العديد من المعتقدات الإباضية في تلك المناظرة

المناظرة بحسب السردية الإباضية

وردت قصة مناظرة عبد الله بن العباس للخوارج في الكثير من المصادر الإباضية. تُنسب فرقة الإباضية إلى عبد الله بن إباض المتوفى سنة 89هـ، وتتفق تلك الفرقة مع الخوارج/ الحرورية في العديد من المعتقدات والأفكار، ولا سيما في ما يخصّ تخطئة علي بن أبي طالب لقبوله التحكيم في معركة صفين.

تظهر العديد من المعتقدات الإباضية في تلك المناظرة. أهم تلك المعتقدات الاحتكام إلى القرآن والسنّة وحدهما، وكذلك القول بإسقاط عدالة العديد من الصحابة الذين شاركوا في أحداث الفتنة والحرب الأهلية. ذكر العالم الإباضي بدر الدين الشماخي، المتوفى سنة 928هـ في كتاب "السيّر"، أن ابن العباس لمّا ناظر الحرورية وتطرق إلى نقطة التحكيم، وقال إن: الله أمر بتحكيم الرجال في صيد الحرم وفي الخلاف بين الزوج والزوجة. رد عليه الحرورية، فقالوا: "تحكيم الحكمين في رجل وامرأة وفي طير رد الله الحكم فيه إلى العدول. وهذا الأمر -يقصدون قتال البغاة- جاء الحكم فيه من الله كالزنا والسرقة والقذف ولا يمكن لإنسان أن يحكم فيه بغير حكم الله. ولو أراد إمام قطع يد السارق فقال له الناس حتى نحكم فيه حكمين، أله أن يحكمهما أم يمضي على حكم الله؟".

انتقل الحرورية بعدها للحديث عن حال الحكمين -وهما أبو موسى الأشعري ممثل جيش العراق وعمرو بن العاص ممثل جيش الشام- اللذين اجتمعا في دومة الجندل، فقالوا: "أفعمرو بن العاص عدل الذي صرح بالعداوة والبغي وباع دينه بمصر وسفك دماء المسلمين بغير حق؟ وأبو موسى الذي ثبط الناس عن الجهاد؟". بعدها أوضحوا أن القول بعدالة فريق يلزم منه الإقرار بخطأ الفريق المعادي، لأنه لا يمكن أن يكون كل من الفريقين على حق. قالوا: "إن كان عمرو عدلاً وهو يقاتلنا فنحن على غير حق وقد كان شنأ رسول الله في سبعين بيتاً من الشعر، فقال عليه السلام: اللهم إني لا أحسن الشعر فألعنه بكل بيت قاله لعنةً، وإذا كان عدلاً فنشهد أن عمّاراً ومن استشهد معه قتلوا على باطل وضلالة...".

يؤكد الشماخي أن ابن العباس أقرّ بهزيمته في المناظرة، ورجع إلى عليّ وقال له: "خصمك القوم". اضطر الخليفة عندها إلى أن يخرج بنفسه لمناظرة الحرورية فانتصروا عليه أيضاً بحسب المصادر الإباضية. يذكر العالم الإباضي المعاصر سالم بن حمد بن سليمان الحارثي، في كتابه "العقود الفضية في أصول الإباضية"، أن عليّاً بن أبي طالب لمّا عزم على قتال الحرورية وطلب من ابن العباس أن ينضم غليه للقتال، فإنه -أي ابن العباس- رفض وامتنع، وقال مفسراً: "...لا والله، لا أقاتل قوماً قد خصموني في الدنيا، وإنهم يوم القيامة لي أخصم، وعليّ أقوى، إن لم أكن معهم لم أكن عليهم...". فارق ابن العباس معسكر عليّ بعدها وترك القتال وآثر أن يعتزل السياسة حتى نهاية حياته.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard