من بين جميع الصحابة، يظهر أبو ذر الغفاري في مكانة شبه متفرّدة، إذ صوّرته الروايات التاريخية على أنه كان ثائراً ناقماً على الحكم الأرستقراطي الذي انتشر في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان. الكل يحفظ قوله الشهير "عجبت لمَن لم يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه".
وفي حين عملت السرديات المذهبية السنّية والشيعية على قراءة سيرته بما يتوافق مع ثوابتها ومبادئها، اعتبره الصوفيون نموذجاً من نماذج الزهد والورع، إلى الحد الذي حدا ببعضهم إلى اعتباره واحداً من آباء الصوفية الأوائل.
المحطات الأهم في سيرته
على الرغم من المكانة المهمة التي تحتلها شخصية أبي ذر الغفاري في الذاكرة الجمعية للمسلمين، فإن المصادر التاريخية الإسلامية لم تتحدث عن العديد من التفاصيل المتعلقة بحياته المبكرة.
من المصادر المهمة التي اهتمت بالترجمة لأبي ذر، كل من "الطبقات الكبرى" لمحمد بن سعد (ت. 240هـ)، و"الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبر البر المالكي (ت. 463هـ)، و"سير أعلام النبلاء" لشمس الدين الذهبي (ت. 748هـ).
بحسب ما ورد في هذه المصادر الثلاثة، هناك اختلاف كبير في تحديد اسم أبي ذر، كما حول سبب اشتهاره بهذه الكنية تحديداً.
الاسم المُرجّح لأبي ذر هو جندب بن جنادة، وهناك اتفاق على انتسابه لقبيلة غفار، وهي قبيلة من أعراب البادية، تخصص أبناؤها في الإغارة على القوافل، وعُرفوا بكونهم من قطاع الطرق.
وبحسب الروايات المتواترة، وُلد أبو ذر قبل بعثة الرسول بما يقرب من العشرين عاماً، وكان من ضمن العرب القلائل الذين لم يعبدوا الأصنام في الجاهلية، وهناك اتفاق على كونه من السابقين الأولين إلى اعتناق الإسلام، فهو رابع أو خامس المسلمين على أرجح الأقوال.
بعد إسلامه المبكر في بدايات الدعوة المحمدية، يختفي أبو ذر تماماً عن مسرح الأحداث، لمدة 18 عاماً كاملاً، وهو الأمر الذي تفسره الروايات بأن الرسول أمره بالرجوع إلى قومه فيقيم فيهم، حتى يُظهر الله أمر الإسلام.
ويعود أبو ذر مرة أخرى إلى مسرح الأحداث السياسية مع أحداث غزوة الخندق في العام الخامس للهجرة، والتي سيشارك بعدها في العديد من الغزوات كحنين وتبوك، وذلك بعدما استقر في المدينة وصار فرداً من أفراد المجتمع المسلم.
بعد وفاة الرسول في العام الحادي عشر من الهجرة، وبدء حركة التوسع العربي في بلاد الشام وبلاد فارس والعراق ومصر، انتقل أبو ذر إلى بلاد الشام وكان ممَّن رافقوا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في فتح بيت المقدس في العام السادس عشر من الهجرة، والأرجح أنه بقي مقيماً في الشام حتى استدعاه الخليفة الثالث عثمان بن عفان إلى المدينة المنورة.
وعام 32هـ نُفي أبو ذر إلى الربذة، التي تبعد ما يقرب من 200 كيلومتر جنوب شرق المدينة المنورة، فعاش هناك مع زوجته بعيداً عن الناس لفترة قصيرة، ثم توفي هناك ودفنته مجموعة من المسافرين المارين بتلك الناحية.
قبر أبي ذر في الربذة.
ثوري يميل إلى الاشتراكية
تتفق معظم الروايات التاريخية التي تحدثت عن أبي ذر على تقديمه في صورة الثوري المناضل الذي يصدح بالحق دون أن يهتم بالعواقب، ويرفض الحلول الوسطى مع القوى السياسية التي يعارضها.
هذه الصورة ظهرت منذ اللحظة الأولى لإسلام أبي ذر، إذ يذكر الذهبي أنه قال للرسول بعدما أمره بالرجوع لقومه "والذي بعثك بالحق، لأصرخن بها (أي الدعوة للإسلام) بين أظهرهم". كما يحكي الذهبي، أن أبا ذر قام من عند الرسول فذهب إلى المسجد الحرام وجاهر بإسلامه في وجود سادة قريش، فضربوه ضرباً مبرحاً، حتى أنقذه العباس بن عبد المطلب من أيديهم.
بعد انضمامه للمسلمين في المدينة المنورة، كان أبو ذر من الصحابة الذين عُرفوا بصدقهم وحدّتهم فى الدفاع عن معتقداتهم، حتى أن الرسول قال عنه: "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر"، بحسب ما يذكر أحمد بن حنبل في مسنده.
هذه الروح الثورية تجلّت في أوضح صورها في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، والذي اعتلى كرسي الخلافة عام 23هـ. الصحابي البسيط الذي اعتاد على الزهد والتقشف هاله ما رأى من بذخ وترف منتشرين بين جنبات العالم الإسلامي الذي حكمته الطبقة الأرستقراطية القرشية، فقام يدعو الناس إلى الرجوع إلى الحق والسير على الطريق المستقيم، وعُرف بترديده الدائم للآية رقم 34 من سورة التوبة {... والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقوها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم}، وكان يرى أن حكم تلك الآية يسري على المسلمين، بينما ذهب أغلبية الصحابة إلى أن الآية منسوخة، وأن حكمها يسري على أهل الكتاب فقط.
أبو ذر رفض السكوت، واستمر في المجاهرة بمعارضته لسياسات عثمان المالية والإدارية، ومما يعبّر عن ذلك قوله "والله لو وضعتم الصمصامة (السيف القاطع) على هذه، وأشار إلى حلقه، على أن أترك كلمة سمعتها من رسول الله لأنفذتها قبل أن يكون ذلك"، بحسب ما يذكر ابن سعد.
كان الصدام بين أبي ذر وبين أعضاء الطبقة الأرستقراطية الحاكمة محتوماً إذن، ووصل إلى ذروته مع هيمنة معاوية بن أبي سفيان الكاملة على بلاد الشام، فقد وجد أبو ذر التمييز الطبقي فى أوضح صوره، وشاهد الأغنياء الذين يمتلكون كل شيء وكذلك شاهد الفقراء الذين لا يمتلكون أي شيء، ولذلك لم يكن غريباً أن يصدح برأيه الثوري المشهور: "عجبت لمَن لم يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه".
وأمام تلك الدعوة المبكرة للثورة، لم يجد معاوية مفرّاً من أن يرسل إلى الخليفة ليخبره بما يقوم به أبو ذر في الشام، طالباً منه أن يجد حلاً حتى لا يفسد عليه ولايته. وبالفعل، جاء أمر عثمان بترحيل أبي ذر من الشام إلى المدينة المنورة، حيث تم اللقاء بينهما، وقام الخليفة بتعنيفه بشدة وأصدر أمراً بنفيه إلى الربذة.
هذه الصورة دفعت العديد من الباحثين المعاصرين المتأثرين بأيديولوجيات الشيوعية والاشتراكية والقومية، إلى عقد مقارنة بين أبي ذر من جهة ومبادئهم الأيديولوجية من جهة أخرى، ولعل أفضل ما يعبّر عن ذلك ما أورده خير الدين الزركلي في كتابه الأعلام بوصفه لأبي ذر بأنه "لعله أول اشتراكي طاردته الحكومات".
صوّرته الروايات التاريخية على أنه كان ثائراً ناقماً على الحكم الأرستقراطي الذي انتشر في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان. الكل يحفظ قوله الشهير "عجبت لمَن لم يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه"
وفي السياق نفسه، ذهب سيد قطب في كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" إلى الحديث عن أهمية دور أبي ذر في الثورة التي اندلعت ضد حكم عثمان عام 35هـ، وقال واصفاً السياقات والإرهاصات الاجتماعية التي سبقت تلك الثورة: "عندها ثار الروح الإسلامي في نفوس بعض المسلمين، يمثلهم أشدهم حرارة وثورة أبو ذر".
سيرة أبي ذر بين السنّة والشيعة
إذا كانت الروايات التاريخية قد أقرت وقوع الخلاف بين أبي ذر والخليفة الثالث، فإن الرؤية المذهبية، سنّية كانت أم شيعية، عملت على تحليل وفهم هذا الخلاف بما يخدم قضيتها من جهة، ويتماشى مع مبادئها وأصولها من جهة أخرى.
في ما يخص الرؤية السنّية، فإنها أكدت على مكانة أبي ذر المعتبرة بصفته واحداً من أصحاب الرسول العدول الذين يحظون بمقام محترم ومبجّل.
من هنا، عملت السردية السنّية على إثبات العلاقة القوية التي جمعت بين أبي ذر وعثمان، كما تحدثت عن موافقته لتولية عثمان وخضوعه التام لقراراته، إذ يذكر أبو بكر ابن العربي المالكي (ت. 543هـ)، في كتابه "العواصم من القواصم"، أن أبا ذر وافق على ما دعاه إليه عثمان من اعتزال الناس، فخرج بمحض إرادته إلى الربذة.
وفي سبيل التأكيد على ذلك الرضا، ينقل الذهبي عن لسان أبي ذر قوله "لو أمرني عثمان أن أمشي على رأسي لمشيت". أما ابن سعد، في طبقاته، فقد نسب له قوله "والله، لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة، أو أطول جبل، لسمعت وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي".
وفي سياق آخر، حرصت بعض الروايات السنّية على إظهار حزن عثمان لمّا بلغه خبر وفاة أبي ذر، ومسارعته لضم ابنته إلى أولاده، للاعتناء بها والاهتمام بأمرها، بحسب ما يذكر الذهبي.
على الجهة الأخرى، حرصت السردية الشيعية على استثمار المعارضة السياسة التي اشتهر بها أبو ذر في سبيل خدمة رؤيتها الخاصة، وروّجت للعلاقة الوثيقة التي ربطت بينه وبين علي بن أبي طالب.
على سبيل المثال، تؤكد تلك السردية أن إسلام أبي ذر تمّ على يدي علي بن أبي طالب، وأن ابن عم الرسول الذي كان عمره في ذلك الوقت تسع أو عشر سنوات، هو مَن أخذ بيد أبي ذر الذي يبحث عن الحقيقة، ليرشده إلى الرسول الكريم، وذلك بحسب ما ذكره محمد بن يعقوب الكليني (ت. 329هـ) في كتابه "الكافي".
عُرف بترديده الدائم للآية رقم 34 من سورة التوبة {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقوها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم}، واصطدم بمعاوية بن أبي سفيان، عندما كان والياً على الشام، لأنه شاهد كيف أن الأغنياء يمتلكون الكثير فيما الفقراء جائعون
في السياق نفسه، تظهر المرويات الشيعية المتواترة أن أبا ذر كان واحداً من أهم الصحابة الذين وقفوا بجانب علي، ودعموه وساندوه ليصبح خليفة للرسول بعد وفاته، فهو، بجانب كل من سلمان الفارسي وعمار بن ياسر والمقداد بن عمرو، من "الأركان الأربعة" الذين لم يترددوا في دعم علي كباقي المسلمين.
وفي السياق نفسه، تؤكد السردية الشيعية أن أبا ذر كان واحداً من سبعة رجال فحسب حضروا دفن فاطمة الزهراء ليلاً، بعيداً عن أعين أبي بكر وأتباعه، بحسب ما يذكر اليعقوبي في تاريخه.
من جهة أخرى، أورد المسعودي (ت. 356هـ) في كتابه "مروج الذهب"، تأييد علي بن أبي طالب لأبي ذر في محنته مع عثمان، إذ خرج مصطحباً ابنيه الحسن والحسين لتوديعه قُبيل خروجه من المدينة المنورة، وذلك رغم أوامر عثمان المانعة من وداعه أو تشييعه.
وحرصت السردية الشيعية على استثمار ما أشيع عن نبوءة الرسول لأبي ذر بخصوص وفاته وأنه يحضرها "عصبة من المؤمنين"، فأبرزت حضور عدد من كبار شيعة علي بن أبي طالب لتلك الوفاة، ومشاركتهم في دفن أبي ذر، وكان من هؤلاء كل من عبد الله بن مسعود والأشتر النخعي.
الروايات الشيعية المتأخرة حرصت على أن تعطي لأبي ذر دوراً مهماً في نشر التشيّع، إذ ذكر كثيرون من الباحثين الشيعة المعاصرين أنه كان أوّل مَن نشر التشيّع في بلاد الشام عموماً، وفي منطقة جبل عامل في لبنان على وجه التحديد. وفي ذلك يذكر محسن الأمين العاملي في كتابه "أعيان الشيعة": "ومن المشهور أن تشيّع جبل عامل كان على يد أبي ذر".
تبقى النقطة الأخيرة في التناول الشيعي لشخصية أبي ذر هي محاولة تفسير الإشكال المرتبط بإصراره على معارضة عثمان وولاته، في الوقت الذي سكت فيه إمامه، إذ فسرت المصادر الشيعية ذلك بأنه خطأ من أبي ذر، وخروج عن أمر الإمام. وفي ذلك يقول الإمام الخامس للشيعة الإمامية محمد الباقر: "أمره أمير المؤمنين بالسكوت، ولم يكن تأخذه في الله لومة لائم فأبى أن يتكلم"، بحسب ما أورده محمد بن عمر الكشي (ت. 350هـ) في كتابه "اختيار معرفة الرجال".
ومما تجدر ملاحظته هنا أن ذلك القول جاء في سياق ترسيم القواعد الاعتقادية لمذهب الشيعة الإمامية، والذي يدعو إلى التقية ومداراة السلطان الجائر والامتثال لأوامر الأئمة بالسكون والبعد عن السياسة حتى ظهور المهدي المنتظر.
في السردية الصوفية: أبو التصوف الاجتماعي
يستحضر المخيال الصوفي الجمعي، أبا ذر، كواحد من الرموز المُبجلة، التي تُحاط بكل احترام وتقدير، إذ أنه أحد الآباء الأوائل للصوفية، وصاحب الكثير من القصص والروايات التي تحض على الزهد والقناعة.
مما يؤكد على زهد أبي ذر وتواضعه، ما أورده ابن سعد في طبقاته من قول الرسول: "مَن سره أن ينظر إلى زهد عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر". ويظهر هذا الزهد في موقف شهير يذكره الذهبي وفيه مر أبو ذر فوجد أبا الدرداء يبني بيتاً جديداً، فقال له موبخاً "ما هذا؟ أتعمر داراً قد أذن الله بخرابها؟ لو مررت وأنت تتمرغ في العذارة (القذارة) أحب إلي من أن أراك في هذا".
أيضاً، يظهر أبو ذر كواحد من أهل الصفة، والذين كانوا من الفقراء المعدمين الذين لا يملكون شيئاً، وكانوا قد اعتادوا على النوم في المسجد النبوي، وبحسب الكثيرين من الصوفيين، هناك اعتقاد قوي بأن أهل الصفة كانوا الرعيل المؤسس للتصوف الإسلامي.
في سياق آخر، احتفظت الذاكرة الصوفية بالكثير من الأقوال المنسوبة لأبي ذر والتي تؤسس لبعض مبادئها وقيمها المهمة، من ذلك حديثه عن الأبدال، وهم فئة مهمة من الأولياء من ذوي الحظوة عند الصوفية، إذ قال عنهم: "لما ذهبت النبوة وكانوا أوتاد الأرض، أخلف الله تعالى مكانهم أربعين رجلاً من أمّة محمد يقال لهم الأبدال، لا يموت الرجل منهم حتى ينشئ الله تعالى مكانه آخر يخلفه، وهم أوتاد الأرض..."، بحسب ما يذكر ابن أبي الدنيا (ت. 281هـ)، في كتابه "الأولياء".
ومن أهم النقاط التي رسخت لمقام أبي ذر المُعتبر في العقل الصوفي الجمعي، اكتفاؤه بزوجة واحدة ورفضه لاتخاذ الجواري والعبيد، وفي ذلك يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه "مدارات صوفية": "هو ممَّن حرّم الرق على نفسه... وشاركه في ذلك سلمان الفارسي وعامر العنبري... فهؤلاء الثلاثة هم معلّمو المشاعية في الإسلام، والمرجع الذي أخذ منه أقطاب التصوف الاجتماعي مسالكهم في الزواج بواحدة وعدم امتلاك الجواري والعبيد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Nahidh Al-Rawi -
منذ 10 ساعاتتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
Tester WhiteBeard -
منذ 12 ساعةkxtyqh
بلال -
منذ 22 ساعةحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ 5 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.