جميع الأمكنة التي تفوح منها روائح الألفة وتوابل الشهوة ولحظة الخلق تأتي من مساحة صغيرة صامتة، لا تتجاوز المترين وبعلو عدة سنتيمترات، محاصرة بأعمدة أربعة وهو السرير. كل اشتباك حميمي يقع فوق ذلك الحيز الفيزيولوجي الذي قد يثمر عنه لاحقاً جنين يستلقي بدوره في سريره الأولي وهو الرحم.
لا يمكن أن يكون مجرّد قطعة خشبية مدفونة في غرفة النوم، نلقي بأجسادنا المتهالكة عليه لأخذ قسط من الراحة، بل يمتد إلى جمالية المكان وفلسفته الخاصة، إذ ينتفي عنه البعد الهندسي، لنسقط عليه كل شعور بالألفة ومجون الخيال والشطحات والتهويمات الجنسية. نلجأ إليه بغريزة الحمامة التي تختار عشها بثقة لتحمي صغارها من شرور العالم وهي تبني سريرها من القش بحثاً عن أمان ودفء مفقودين، تنبع جمالية المكان أو الشيء لا من شكلها الهندسي والفني المتقن فحسب، بل ما يمدنا به من قيم الحماية والأمان والألفة وكل ما هو مرتبط بالموقف الشعوري تجاهه، فأذرع المحبين التي تطوّقنا ونحن نيام نستطيع بها مجابهة قسوة العالم، لننهض في اليوم التالي بحمولة خفيفة.
أكثر من نصف حياة على السرير
لم يكن السرير يوماً مجرّد مستطيل من الأثاث مزروع في زاوية من البيت، على الأقل بالنسبة لصديقتي التي قضت أكثر من نصف حياتها فوق هذا الجماد المسجى بدعامات، يعتليه فراش مهترئ وتقسمه وسادة محشوة ببقايا ملابس مستعملة، إلى أن أخذ مكانة خاصة في حياتها ولا تغادره إلا عند الضرورة القصوى، لدرجة أنني أطلقت عليها اسم "فتاة السرير".
تحول الآخرون إلى أسّرة، أفرزهم حسب درجتي الراحة العميقة والعلو الذي يحميني من الارتطام، فإن ضاق هجرتهم دون أدنى التفاتة، وإن اتسع رفض مغادرتهم... مجاز
وفق عمليتها الحسابية الخاصة، اتضح أنها تقضي أكثر من خمس عشرة ساعة على متن السرير، موزعة بين النوم والدراسة والقراءة والأكل والاستراحة واستقبال الصديقات. بدأت بوادر علاقتها الحميمة مع السرير منذ الطفولة، إذ كان بيتهم على هامش ريف دمشق، نمت جدرانه شاقولياً بسرعة هائلة بمقادير ناقصة من الإسمنت والحديد ضمن مواصفات متلاعب بها لجهة جشع متعهّد البناء.
كان المنزل عبارة عن مطبخ صغير جداً، وغرفة طولانية شُطرت، بمزاج والدتها الهندسي، إلى نصفين بواسطة ستار قماشي سميك، خُصّص أحدهما كغرفة لها ولألعابها، كانت موجوداته مكونة من سرير يتيم وخزانة.
كانت صديقتي تمارس عليه كافة أشكال الفعل البشري اليومي نظرا لعدم وجود بديل، ففي الصباح تتخذه كرسياً تجلس عليه للدراسة، ومكاناً لتناول الغداء عند الظهيرة، بعد أن تفرشه بغطاء من المشمّع منعاً لاتساخه، كما كان فسحة لها لاستقبال بنات جيرانها لتطلق عليه ممازحة "غرفة الضيوف"، أما في المساء، فيحين موعد لعبة الطبيبة والمريض الشهيرة، فتعاين جسد دميتها على السرير بمهارة طبية مزيفة، تتلمس جبينها لقياس حرارتها تارة، وتضع سماعة بلاستيكية على بطنها تارة أخرى، في تمتمات غير مفهومة ،إلى أن يفرد الليل جناحيه لتنام فيه، بعد أن تطلق أمنية بحصولها على لعبة "باربي" تجدها بانتظارها في الصباح تحت السرير.
تغير مقاس السرير لم يغير من عادة صديقتي، سوى أنها استبدلت الدمى بطفلتها التي تلاعبها على السرير وشاطرت رجلاً في فراشها، كما أن قرار الطبيب بلهجة تحذيرية على ضرورة ملازمة السرير لحوالي 20 ساعة في شهرها الأخير خوفاً من حصول إجهاض، لم يثر سخطها على الإطلاق، ولم تصدر أي حركة ملل أو احتجاج، فالطفلة التي اعتادت عيش حياة كاملة في بقعة لا تتجاوز المترين وألفت حدوده لن تغضبها بضعة ساعات إضافية.
لعنة السرير
أن تحظى بسرير في بلاد تعيش مخاض الحرب يعني أنك حدت شعرة واحدة عن حياة العراء والتشرد وافتراش الأرصفة، وأبعدت عنك، لبضعة أمتار، شبهة لاجئ المخيمات التي يتخذ سكانها إسمنت الأرض، بوعورتها القاسية والموحلة، فراشاً لهم، يعني أنك لم تجرّب شعور حبات الحصى وهي تنخر بعظام ظهرك، ولم تستنجد بتنكة زيت ممهورة بختم الذل يحمل اسم المنظمات الإنسانية لسدّ ثقب في الخيمة ينقط قطرات حسرة وانكسار.
تظل لعنة السرير تطارد الهاربين من الحرب إلى بلدان مجاورة، فإعلانات "أجار سرير في دبي.. أحجز مكانك لإقامة مريحة" تختزل هذه اللعنة بصياغة لغوية جيدة وعناوين براقة، فتراهم يدفعون ثلث رواتبهم مقابل حجز سرير بطابقين يذكرك للوهلة الأولى بحيّز في سجن جماعي، وذلك لأنه يشكل في لاوعيهم الدفين مكاناً للألفة والقوقعة وانعتاق الجسد من الضوابط والأغلال. هو صورة منعكسة عن ذكريات الطفولة والقصص المروية قبل النوم. مع مرور الزمن، يغدو هذا السرير، رغم برودته، ملكية ذاتية، كونه الشيء الوحيد الذي لا يشاركونه مع أحد، حيزك الخاص الذي لا يقتحمه أحد بدون إذنك، فتتعامل معه بمنطق المكان لا الشيء.
السرير حامل الجسد بآثامه وطهرانيته
يتكبّد السرير مشقة حمل الجسد في رحلته الوجودية الطويلة في هذه الحياة، بطفولته وشبابه وكهولته، بعافيته وسقمه، بطهرانيته وآثامه، صمته وعويله، يتحمّل تقلب مزاج الراقد عليه في جميع حالاته، لكن في كثير من الأحيان يحصل العكس، يعجز الأخير عن ملازمته طويلاً، فبعد أن كان صديقي الكاتب يواصل جولاته الجنسية دون توقف على سرير في بيت سرّي، لم يعد يحتمله حين أضطر إلى الإقامة الجبرية فوقه، إثر حادث سير أدى إلى تهتك عموده الفقري وإصابته بالشلل، لم يستوعب فكرة احتجازه بقية حياته في هذه المكان الضيق، مشدوداً بأسلاك متشعبة، ويبقى تحت وطأة عذاب السرير، لينهي حياته بالإضراب على الطعام إلى أن خلد إلى غفوته الأخيرة معلناً انتهاء صلاحية الجسد.
لا متعة تضاهي متعة النوم عارية. وذلك بوصفها طريقة ناجعة لتقشير الجسد المنهك بطبقات الوحدة والبرودة، ونزع حروق الخيانة ودمامل الخذلان... مجاز
لا متعة تنافس متعة التعري على السرير
بجسد مندى بالماء ونقاط من عطر الفانيليا والسكر من اختراعي الخاص، بعد إلحاح على بائع العطور للمثول إلى خلطتي العجائبية، وشعر مربوط على هيئة كعكة، استلقي بهيئتي الأولى التي حضرت بها إلى هذا العالم تحت ملاءة بيضاء رقيقة. لا متعة تضاهي متعة النوم عارية. وذلك بوصفها طريقة ناجعة لتقشير الجسد المنهك بطبقات الوحدة والبرودة، ونزع حروق الخيانة ودمامل الخذلان، والحصول على جسد بكر نظيف من الآلام، بجسد جديد أواجه به العالم في اليوم الثاني.
عرفني السرير بوصفه المكان الأول ليقظة الحواس على فضيلة اكتشاف كنوز جسدي والتنقيب على ذلك المخبأ السري من اللذة الكامنة تحت طبقات الجلد الغائرة، جميع حوادث ارتطام الجسد في حفرة النشوة المحرّمة تحدث في تلك البقعة الهندسية. يبدأ استلقائي في السرير لغايات النوم والراحة، وينتهي بالحصول على حيز وجودي أمارس عليه كافة محاولات اكتشاف مكامن النشوة المحرمة.
بعد اكتشافي مزايا السرير، ابتكرت نظريتي الخاصة بالعلاقات الإنسانية بوحي منه، صرت أقيس علاقاتي وفق الراحة التي يقدمها الآخر واحتوائه لي في خفّتي وضجري وفرحي وحزني وزيادة وزني وتقلب هرموناتي وهشاشتي كما يحتملها السرير، أذكر أنني قطعت علاقتي برجل لأنه لم يحتمل أفكاري غير المدجنة، وعجز عن تقبل احتفائي الدائم بجسدي، محاولاً ترسيم الحدود. تحول الآخرون إلى أسّرة، أفرزهم حسب درجتي الراحة العميقة والعلو الذي يحميني من الارتطام، فإن ضاق هجرتهم دون أدنى التفاتة، وإن اتسع رفض مغادرتهم. أحلم بسرير برتبة خمس نجوم، يقدم لي الحب على طبق من رغبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.