يبدو المشهد في السودان كأن قوات الدعم السريع تحقق تقدماً في الجانب العسكري على حساب القوات المسلحة التي تمثل الطرف النظامي في الصراع، وهو أمر صحيح من حيث الكم دون الكيف حيث تسيطر قوات الدعم - التي أعلنتهاالحكومة "منظمة إرهابية" - على أربع من خمس ولايات في إقليم دارفور (غرب البلاد)، وعلى مساحات واسعة في ولاية الخرطوم التي تضم العاصمة، وتواجد كبير في ولايات أخرى.
وخلال الأشهر الأخيرة، توسعت سيطرة الدعم السريع على حساب الجيش، وهو ما دفع الأخير إلى تغيير إستراتيجيته ليستفيد من "تشتت" الدعم في مناطق واسعة، في محاولة منه لاستعادة العاصمة التي تعتبر الهدف الأهم للفريقين. فهل يتمكن الجيش من تحقيق ذلك؟
معركة أم درمان
منذ شهرين، تشهد مدينة أم درمان تقدماً ملحوظاً للجيش على حساب الدعم السريع، في الوقت الذي حقق فيه الأخير مكاسب في مناطق خارج العاصمة. يذكر مصدر عسكري ميداني، طلب عدم الكشف عن هويته، لرصيف22 أن القوات المسلحة قد سيطرت فعلياً على مناطق ذات أهمية عسكرية في وسط أم درمان، ومنطقة الأحياء القديمة، إلى جانب مبانٍ عالية كانت تتمركز فيها تشكيلات من قناصة "الدعم" الذين يستخدمون المدفعية لاستهداف آليات الجيش.
ومنذ الأيام الأولى للحرب، سيطرت قوات الدعم على معظم مناطق العاصمة، وفرضت حصاراً على جميع المقرات العسكرية من مراكز القيادة والقواعد العسكرية، ما جعل الجيش يتخذ موقف المدافع خلال الأشهر الثمانية الأولى للحرب. وتغيّر ذلك بحسب المعطيات في مناطق العمليات.
إستراتيجية الجيش شهدت نقلة نوعية في الآونة الأخيرة إذ انتقل من الهجمات الخاطفة التي لا تتمسك بالأرض، إلى إستراتيجية التقدم البطيء وتطهيرها من عناصر الدعم السريع. ما هي الأسباب التي أدت إلى ذلك؟ وما هي التغيّرات التي ترتبت على ذلك في المعارك؟
يقول قائد ميداني يقاتل في صفوف الجيش في أم درمان لرصيف22 إنّ هذا التقدم النوعي تحقّق بعد تعديل إستراتيجية الجيش نتيجة عدة عوامل، من بينها إقالة المسؤولين عن قيادة العمليات وتعيين ضباط آخرين، والحصول على دعم من بضع جهات، أبرزها كتائب المتطوعين الإسلاميين وقوات وزارة الداخلية الممثلة في هيئة العمليات التي كانت تتبع سابقاً جهاز الأمن، وقوات الاحتياطي المركزي عالية التدريب التابعة للشرطة. يضيف أن تلك القوات الجديدة شكّلت هيئة عمليات مشتركة مع الجيش، وهو ما يمثّل نقلة نوعية حيث انتقل الجيش من الهجمات الخاطفة التي لا تتمسك بالأرض، إلى إستراتيجية التقدم البطيء وتطهيرها من عناصر الدعم السريع.
وتوجد في أم درمان أهم القواعد العسكرية للجيش، ومنها قاعدة وادي سيدنا الجوية الإستراتيجية، والتي تمثل أهمية كبيرة لسيطرة الجيش على الأجواء، وسلاح المهندسين، ومنطقة كرري العسكرية التي تحتوي على مدفعية ثقيلة وصواريخ أرض-أرض. لهذه الأسباب، كانت المدينة محط اهتمام الدعم السريع، كما أنها بمثابة مركز تجميع لقوات الدعم بفضل موقعها غربي العاصمة الذي يتصل بخطوط الإمداد في غرب البلاد.
في المقابل، ينفي إبراهيم مخير، مستشار قائد قوات الدعم السريع، وجود أي تراجع لقواتهم في أم درمان. يقول لرصيف22: "الدعم السريع ما يزال يسيطر على 70% من مساحة البلاد، وما يزال مستمراً في حصار كل المعسكرات الكبيرة للجيش داخل العاصمة"، مبرزاً أن قوات الدعم أسقطت خلال عمليات أم درمان الأخيرة مسيرات من طراز مهاجر الإيرانية، مبرراً ذلك بـ"زيادة سيطرة الإسلاميين على الجيش"، ما انعكس على استعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران، التي تعتبر حليفة لهم.
وكانت منصات تابعة للدعم السريع قد نشرت حديثاً مقاطع مصورة لتجول قادة ميدانيين من "الدعم" في مناطق داخل أم درمان ادّعى الجيش السيطرة عليها.
الأوضاع الميدانية والإنسانية
وتسيطر قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة من ولاية الخرطوم منذ بداية الحرب، وتوسعت منذ كانون الأول/ ديسمبر الماضي في مدينة ود مدني، حاضرة ولاية الجزيرة، دون قتال بعد انسحاب الفرقة الأولى في الجيش. وقبل شهرين، سيطرت قوات الدعم على حواضر أربع من ولايات إقليم دارفور الخمس، بينما بقيت الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، تحت سيطرة الجيش والحركات المسلحة الحليفة لها.
في المقابل، يسيطر الجيش على كل المدن الهامة في إقليم كردفان رغم تعرض بعضها لهجمات عنيفة من الدعم السريع، وتحديداً في ولاية غرب كردفان. بالإضافة إلى جميع ولايات الشريط النيلي والشرق، والحدود الدولية مع مصر وإريتريا وإثيوبيا وجنوب السودان، ويسيطر الدعم على الحدود مع ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى.
أما في العاصمة الخرطوم، فيستميت الجيش في الدفاع عن معسكراته الرئيسية المُحاصرة، ومنها مقرّ القيادة العامة في وسط المدينة، وإدارة سلاح المدرعات جنوبها. ومنذ أيام، أعلن الجيش عن محاصرة مصفاة الجيلي في منطقة بحري، أكبر مصفاة لتكرير النفط في البلاد، والتي يسيطر عليها الدعم السريع منذ أشهر، بالإضافة إلى غالبية مناطق مدينتي بحري والخرطوم اللتين تشكلان مع مدينة أم درمان، العاصمة المثلثة للبلاد، مدينة الخرطوم.
وبينما تتواصل العمليات العسكرية بين الجيش والدعم السريع، تتزايد معاناة السكان. وفق أحدث تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، يبلغ عدد القتلى من المدنيين منذ اندلاع الحرب حتّى مطلع الشهر الجاري، نحو 13 ألفاً، علاوة على نزوح 10.7 مليون مواطن/ة داخل وخارج البلاد، منهم 1.7 مليون إلى دول الجوار. وتسببت تداعيات الحرب في أزمة إنسانية كبيرة حيث بات 24 مليون سوداني/ة في حاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية، من بينهم 16 مليوناً يواجهون خطر الجوع. وصحياً، تُشير التقديرات إلى الإبلاغ عن عشرة آلاف حالة إصابة بمرض الكوليرا، توفى 284 منهم.
هل تتسع رقعة الحرب؟
في غضون ذلك، شهدت مدينة الخرطوم بحري اشتباكات عنيفة بين طرفي الصراع، أواخر الشهر المنقضي، وُصفت بأنها الأعنف منذ اندلاع الحرب، وتمكّن خلالها الجيش من استعادة مواقع كانت بيد الدعم السريع. تزامنت الاشتباكات مع تصريحات القائد العام للجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، خلال تفقده قاعدة عسكرية حيث قال: "لن ندافع بعد اليوم بل سنهاجم وسنتحرك ومعنا قوات الحركات من كل الجهات، من دارفور ومن ولايات الشرق وولايات الوسط وولايات الشمال، مستندين على إرادة وعزيمة الشعب السوداني الذي اصطف حول قواته المسلحة لمواجهة هؤلاء المتمردين".
"طرفا الصراع لا يملكان إرادة التفاوض لأسباب متعلقة بسير العمليات العسكرية. إذا حقق الجيش مكاسب مؤثرة على الأرض، فقد يجلس للتفاوض مع الدعم، وهو موقن من قدرته على فرض أجندة تفاوضية، بينما ترى قوات الدعم أن الحصول على تسوية أكثر جدوى من شراء الزمن والتعرض لخسائر ربما تكون أكبر"
لم يستبعد البرهان خيار التفاوض، لكنه جدّد التأكيد على ضرورة خروج الدعم من المدن وإعادة الأشياء المنهوبة قبل الجلوس للتفاوض.
في هذا السياق، يقول لرصيف22 المحلل العسكري واللواء المتقاعد في الجيش السوداني، أسامة عثمان مساعد، أنّ الوضع في أم درمان يشهد تقدماً ملحوظاً للجيش الذي استغلّ تمدد الدعم السريع في ولاية الجزيرة، وتشتت قواتهم، مضيفاً أنّ الجيش يعطي أولوية لإحكام السيطرة على الخرطوم، لأهميتها السياسية والعسكرية، حيث يوجد بها ثقل الجيش الكمي والنوعي.
يضيف مساعد أنّ القيادة العامة للقوات المسلحة في العاصمة تعتبر "الرأس في جسد الجيش"، ما يزيد من أهمية استعادة العاصمة. وذكر أن الجيش ما زال محافظاً على قواته وعتاده رغم فقدانه لمناطق جغرافية وقواعد عسكرية في الولايات. كما يشير إلى أن هدف عمليات الجيش في أم درمان هو فتح الطريق بين القوات في شرق وغرب المدينة، ما يعني فكّ حصار الدعم السريع لها، وتأمين خطّ إمداد للجيش من كرري في غرب أم درمان، وحتى بورتسودان على البحر الأحمر، وهو ما قد يمكن الجيش من التقدم في المناطق التي ينتشر فيها "الدعم". ويلفت مساعد إلى أنّ الجيش يعتمد على خط إمداد من الخلف، بينما قوات الدعم تعتمد على الإمداد من الأمام، من خلال الاستيلاء على الممتلكات والسلع في المناطق التي يتوسع فيها.
تأتي معركة أم درمان عقب شهر من النشاط الدبلوماسي الخارجي لكل من الجيش والدعم السريع، بعد تحقيق الأخير مكاسب ميدانية في دارفور. ولهذا يرى البعض أن الجيش يستفيد من معارك أم درمان لتعديل الوضع السياسي لصالحه، بعدما مال لمصلحة الدعم السريع، وقد يكون ذلك بداية مرحلة جديدة من التفاوض تتوقف على نتائج المعارك.
يقول عثمان ميرغني، رئيس تحرير صحيفة "التيار" إنّ هدف عمليات الجيش في أم درمان هو إحكام السيطرة على بعض النقاط الحاكمة، والتي يمكن أن تشكل مواقع انطلاق لمزيد من التوسع والانتشار، وربما استعادة ولاية الخرطوم، مردفاً بأنّ "الطرفين لا يملكان إرادة التفاوض لأسباب متعلقة بسير العمليات العسكرية. إذا حقق الجيش مكاسب مؤثرة على الأرض، فقد يجلس للتفاوض مع الدعم، وهو موقن من قدرته على فرض أجندة تفاوضية، بينما ترى قوات الدعم أن الحصول على تسوية أكثر جدوى من شراء الزمن والتعرض لخسائر ربما تكون أكبر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين