لم أسافر إلى وطني السودان سوى ثلاث مرّات في حياتي، فأنا ممن يُصنّفون بـ "أبناء المغتربين"، ممّن لفظ الوطن ٱباءهم لما عجز عن كفايتهم، فلاهم نالوا حق المواطنة في بلاد نشأتهم ولا الانتماء التام لأوطانهم، فهم وافدون، يحملون تصريح إقامة ذا تاريخ إنتهاء في الأولى، و"أبناء مغتربين" في الثانية، لهم هويّة هجينة تظهر جلية في حديثهم وفي ذائقتهم الموسيقية، اختلاف كثيراً ما يكون موضع انتقاد أو سخرية في كِلا العالَمين.
كانت زيارتي الواعية الأولى لوطني هي الأخيرة في منتصف العام الماضي، سافرت وحدي لغرض معادلة شهاداتي الجامعيّة. كنتُ أخفي رهبة المواجهة الأولى مع وطن لم أتعامل معه من قبل سوى عبر قنصليّاته وسفاراته، بانشغالي بتوتّر قوائم مهام ما قبل السفر، حتى سألني شقيقي، قُبيل إقلاع الطائرة بساعات، عن مشاعري، فصمتُّ ونطقت دموعي عنِّي بصخب غير معهود.
تركتُ نفسي تغوص في التجربة، بلا أحكام مُسبقة ولا آمال مرتقبة، طوال الأشهر التي قضيتها في السودان غلبت لديّ الدّهشة و رغبة الاستكشاف عن تكوين انطباع راسخ عن علاقتي وانتمائي بوطن أحمل إرثه بوضوح في لوني وملامحي، في مائدة طعامنا اليومية في مكة المكرمة وفي جواز سفري.
السودان بلد تعيس الحظ، لا يكاد يخرج من محنة حتى تلطمه أخرى أنكى وأشرّ. استقلالٌ فحكمٌ جائرٌ فانفصال وانهيار اقتصاديّ، قبل أن تأتي الحرب الأهلية الحاليّة لتقضي على كل ما نجى من المحن السابقة
تعود جذور والديّ إلى منطقة "طيبة الحسناب"، إحدى قرى محلية جبل أولياء، حيث كانت إقامتي الاضطرارية طوال ثلاثة أشهر قضيتها العام الماضي، أشهر من الركض الحرفيّ والمعنويّ وراء الجهات الحكومية المختلفة لغرض معادلة شهادتي الجامعية. بحثٌ مستميتٌ عن معارف ووساطات تساعد في تعجيل ختم هنا وتوقيع هناك، قَسَم طبّيٌّ للمرّة الثّانية، فقد أديت القسم الطبي مع نقابة أطباء الإسكندرية حين تخرّجي، ولكن اشترطت سلطات وطني أن أؤدي قسماً آخر، فمن الجدير بي أن أصون القسم تفادياً لعقاب إلهي مُزدوج، عقب ذلك امتحان رخصة المزاولة والمطالبة بالإعفاء من أداء الخدمة الوطنية لدى القوات المسلحة السودانية.
وقعتُ تعهداً بتأجيل أدائي للخدمة الإلزامية لدواعي إقامتي خارج السودان، وهو تعهّد ينكثه الجميع ويكتفى فيه بغرامة رمزية. سعادة العقيد الماثل أمامي يعلم ذلك، وأنا أعلم، ولكننا ملزمون باتباع سُنّة بيروقراطية مُقدّسة.
لم أقطن في حي من أحياء الخرطوم التَّرفة كعادة "أبناء المغتربين"، وهو أمر أتاح لي خوض تجربة نوعيّة ولصيقة. عرفت بهجة التيار الكهربائي لأول مرة في حياتي، يعود التيار الكهربائي بعد ساعات الانقطاع مصحوباً بهتاف شباب الحي، فنهرول لشحن الهواتف النقّالة والقيام بمهام غسيل وكوي الملابس، وربما الظّفر بسويعات نوم مُكيّفة قبل انقطاع آخر حتميّ.
استقليت المواصلات العامة وتفرّست في الملامح ولغة الجسد، رحلة قد تستغرق قرابة الساعة في مركبة الاثني عشر راكب، دون حوار يُذكر بين السائق والرّكاب، أو الرّكاب بين بعضهم، ففي السودان يعتمد الركاب طُرُقاً غير لفظية لتنبيه السائق بوصولهم لمحطّات توقّفهم، طرقعة الأصابع للسيدات، والـ "سَكْسَكَة" للرجال: "سِكْ سِكْ سِكْ"، أقرب وصف للصوت الذي يُقارب شقشقة العصافير. تراودني نفسي أن أهتف: "على جنب يا اسطة"، كما اعتدتّ القول في الإسكندريّة، ولكنّي أتنازل لشقيقي أو شقيقتي وأرقب باستمتاع.
يدفع الركاب الأجرة بعد نزولهم من المركبة. في مرات عديدة يدفع أحد المترجّلين ويرفع كفيه: "ما عندي غيرها والله"، يستمر السائق في رحلته بتلقائية وصمت. الصمت الذي كثيراً ما يشغله تلاوة هادئة بصوت القارئ والشيخ نورين محمد صديق، الذي كان الخلفية الصوتية لمعظم مشاهداتي وتنقّلاتي.
هالني كيف أن أهل السّودان يستمتعون بأوقاتهم مُتناسين كلّ ما يحدث، يتخلّل أحاديثهم اليومية أخبار عن شوارع أغلقها الثوّار، عجزٌ في الأدوية، غلاءٌ فاحش، تفلّتٌ أمني وحكايات شبه يومية عن حالات نهب مسلحة تتمّ نهاراً على مسمع ومرأى -وربما مباركة- نظام الأمن، موسم أمطار مُقبل ومساعي حفر مجرى للسيول بجهود ذاتية مُتمثّلة في شباب الحيّ.
رغم كل ذلك وأكثر، يُغنّون للمغترب بأن يعود: "مفارق كيف تخلينا.. لشوقنا و ذكرى ماضينا وكيف بعدك يكون الحال؟ وكيف تصبح ليالينا؟".
يذكرونه بضرورة العودة عقب مكالمة بشّرهم فيها بإتمام عملية الحوالة المالية، وتفاصيل تقسيمها بين بيوت عدّة لا قائم لها سوى تلك الحوالة، يشكرونه عليها ويطالبونه بالعودة ووأد الغربة.
رأيت السيدات في قريتنا يتبادلن الزيارات مُحمّلات باللّبن والسُكّر والبسكويت، كمساهمة مُراعية للظروف في واجب الضّيافة، يرقص الأطفال مُواكبين رقصات التيكتوك، ترتدي السيّدات ثياباً بألوانٍ قانية، ويحتسي الرجّال القهوة لدى "ستّات الشّاي" واضعين ساقاً على ساق بسلطنة أباطرة.
السودان بلد تعيس الحظ، لا يكاد يخرج من محنة حتى تلطمه أخرى أنكى وأشرّ. استقلالٌ فحكمٌ جائرٌ فانفصال وانهيار اقتصاديّ، قبل أن تأتي الحرب الأهلية الحاليّة لتقضي على كل ما نجى من المحن السابقة، من بُنية تحتية ومرافق صحية وتعليمية، وتغتال حلم الثوّار الورديّ في مهده.
تخبرني والدتي قبل أسابيع بأنه قد تمّ استهداف "سدّ جبل أولياء" من قبل طائرات مُسيّرَة تعود للقوات المتمرّدة، عُقْبَ معركة دامية بين القوّات المسلحة وقوّات الدعم السريع، انتهت بتدمير تام لسوق جبل أولياء الذي كان شرياناً رئيسياً للإمدادات الغذائية لجميع قرى الجبل-بما فيهم منطقتي طيبة الحسناب- ومذبحة جماعية كان جلّ ضحاياها من سكان المنطقة والمتسوقين من القرى المجاورة، وكما جرت العادة، ولتعس المواطن السوداني حيّاً وميتاً، فلا حصر دقيق لعدد الضحايا، حكايات رهيبة عن مدى الدمار والخراب الذي طال منازل وممتلكات المواطنين، مع أنباء تُنفى حيناً وتؤكَّدُ أحياناً كثيرة عن استهداف سدّ جبل أولياء.
يقع سدّ جبل أولياء على ضفاف النّيل الأبيض، كان قد تمّ إنشاؤه على يد الإنجليز لصالح الحكومة المصريّة منذ أكثر من قرنٍ من الزمان، قبل أن يُسلّم للحكومة السودانية بعد إنشاء السّد العالي.
بعيداً عن وظيفة السّد في تنظيم منسوب المياه وتوليد الكهرباء، فخزّان الجبل يُعتبر وجهة سياحة داخليّة هامّة، والمقصد الأول لتناول وجبة سمك نيليّ طازجة ولذيذة، تُقدم في مطاعم تقع على شاطئ النيل في إطلالة مباشرة ولذاذة مؤكّدة.
يرتبط خزان الجبل في الذّاكرة الجماعية لمعظم السودانيين بالرحلات العائلية، وتنزّهات حديثي الزواج والمغتربين العائدين لأوطانهم في إجازة قصيرة وورديّة.
إذ تخبرني أمي باستهداف منطقة جبل أولياء، تراءى لي الجبل بأهله، أصحاب المراكب والجمال والأحصنة،"ستّات" الشّاي والقهوة، قد زرت خزّان الجبل ثلاث مرّات على امتداد عمري، مرّة وأنا دون السادسة بصحبة والدي في إجازة قصيرة، أُشاهد التّيار المُتسارع من أعلى الجسر والجميع يُهنّئ والدي ويطلق الأبواق المرحة مُتمنّيين له حياة زوجية سعيدة، فقد استعيرت سيارتنا لزفّ عمّي وزوجته قبلها بأيّام، وكان لا يزال أثر الفرح جليّاً على السيّارة، وروداً وقطناً أبيض استخدم لكتابة حرفيّ العروسين.
ثم زيارتيّ -الأخيرتين؟- العام الماضي. تواطأت السماء معنا فحجبت الشمس وكفّت ماء السماء إلا عن هتّان يسير، أكسب الجو لُطفاً أكبر ومنحني إضاءة باردة مناسبة للتّصوير.
في السودان، النّزوح لمن ملك المال، والهجرة لمن ملك مع المال جواز سفرٍ ساري المفعول، والله وحده للباقين
يومها وددت أن أشرب الشاي من "ستّ" شاي لأول مرة، رافقني زوج أختي وقُدّم لنا الشاي كثير السكر، وارف المودّة، بجواره صحن صغير به حلوى وفول سوداني، لاحظت السيدة بأني ألتقط صوراً، فمنحتني خدمة كبار الشخصيات وسمحت لي بالتقاط صورة لها.
يتراءى لي ثوبها الأحمر وعينيها الكحيلتين وجسدها الريّان الذي لا يُخفيه الثوب المسدول، بل يُكسِبه فتنة متوارية رصدتها تلمعُ في أعينُ روّادها دون اكتراث واضح منها. كانت مشغولة بالطلبات وبوضع المزيد من البخور على الجمر الأحمر المتقّد كثوبها.
في زيارتي الأخيرة للخزّان، احتاجت إحدانا لاستخدام دورة مياه، ولما كانت المطاعم غير مزوّدة بمرافق، أشارت إحدى قريباتي بالذهاب إلى إحدى القرى القريبة، توجهت مع المجموعة بغرض استكشافيّ بحت، أخفيته خلف الحاجة لاستخدام دورة المياه.
وجدنا منزلاً ترِفاً نسبيّاً قيد الإنشاء، في بهوه الخارجيّ أُسرَةٌ من ثلاث سيدات في مراحل عمرية مختلفة وجيش صغير من الأطفال، يتجمعون حول مائدة سمك، تبدو أنها من بواقي أحد مرتادي المطاعم القريبة. ألقت خالتي السلام بأُلفة وطلبت استخدام دورة المياه، أشاروا لها بتلقائية من ألِف السؤال على مكان الحمام وإبريق الماء.
دورة المياه تقع في خارج المنزل أسوة بالمعمار السودان التقليدي، مرحاضٌ أرضيّ وإبريق مياه، لا يستر بابه القصير إلا ما يقتضي ستره.
تتراءى لي وجوههم، الطاهي في مطعم السمك الذي شاركنا لعبة تحدّ، فسمح لابن أختي بطهو سمكة ثم قدّمها له كهدية، بائعة الشاي الفاتنة، أسرة قرية "موسى" وطفلهم العاري وباب حمامهم الذي يكشف أكثر مما يستر. أتساءل إن كانو بخير، إن كان شفع لهم أولياء الجبل الصالحين، وإن كانو قد نجوا من حرب غابت عن أعين الإعلام والمنظمات الحقوقية، يُدفن الموتى فيها إكراماً لهم دون رصد أو تقارير طب شرعية.
فالنّزوح لمن ملك المال، والهجرة لمن ملك مع المال جواز سفرٍ ساري المفعول، والله وحده للباقين. الأطراف المبتورة تترك ألماً شبحياً لا يمكن علاجه بمسكنات الألم، كذلك صنع بي انتمائي الأعرج الذي لا يقبل أطرافاً صناعية بديلة.
وإن دمّرت الحرب أثر خطواتي العرجاء في الشّوارع والأزقّة والضّفاف، لكنها لن تدرك ذاكرتي، ولن تدرك ألمي الشبحي الذي يجعلني متصلة بأهل هذه البلاد، الذين تفرقهم القبائل والطّرق الصوفية ويوحّدهم الوجع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع