منذ بداية الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، اتُهِمَت الحركة الإسلامية السودانية، وحزب المؤتمر الوطني المنحل، بالمسؤولية عن إشعال الحرب من أجل العودة إلى السلطة، والانتقام من الثورة التي أطاحت نظام الرئيس المخلوع عمر البشير. تلقّفت "الدعم السريع" تلك المزاعم، وتبنّتها سرديّة لشرعنة حربها على الجيش، بعد سردية أخرى لم تصمد عن محاربتها النفوذ المصري المزعوم.
اللافت أنّ قوات الدعم السريع تدين بكل شيء إلى النظام المخلوع، بعكس الجيش الذي يسبق - من حيث التأسيس - الدولة الوطنية السودانية الحديثة. وحين أعلن قائد الجيش الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان الاستنفار الشعبي وتسليح المدنيين للقتال بجانبه، اعتبرت ميليشيا الدعم ذلك بمنزلة تأكيد لسرديتها عن سيطرة الإسلاميين على المؤسسة العسكرية، وعن خطة عودتهم إلى السلطة.
فما هي حقيقة تسليح المدنيين في السودان؟ وهل يكونون "سيف الإسلاميين على رقبة البرهان" أم أن هدفهم الدفاع عن أنفسهم ضد الانتهاكات المبلغ عنها في كل منطقة دخلتها الدعم السريع؟
البرهان والإسلاميون
يمكن القول إنّ معظم الإسلاميين في السودان على اختلاف انتماءاتهم الفكرية يصطفون إلى جانب الجيش في الحرب التي اندلعت في 15 نيسان/ أبريل 2023، مُسخّرين في ذلك الدعم الإعلامي والشعبي، كما أبدوا استعدادهم بل وطالبوا بفتح المجال لهم للتجنيد في الجيش. ولا يرضى هؤلاء بأي حلّ سوى القضاء التامّ على قوات الدعم السريع، ولهذا كلما توجّه الجيش إلى المحادثات السياسية ترتفع ألسنتهم بالهجوم والنقد ضدّ البرهان، الذين يرونه مسؤولاً عن إخفاقات الجيش، بسبب تردده في حسم الحرب، وفق اعتقادهم. لكن موقف الإسلاميين لم يتجاوز النقد، ولم يدع أحدهم إلى التمرد والعصيان ضدّ البرهان إلا حين أبدى قبوله الجلوس في مفاوضات مباشرة مع قائد "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو، الشهير بـ"حميدتي"، كما جاء في تصريحات القيادي بحزب المؤتمر الوطني المنحل، اللواء متقاعد صلاح كرار في تصريحات لقناة طيبة الإسلامية.
سعى طرفا الصراع في السودان إلى تجنيد المواطنين لتعزيز قواتهما وإن بطرق مغايرة. فما هي حقيقة تسليح المدنيين في السودان؟ وهل يكونون "سيف الإسلاميين على رقبة البرهان" أم أن هدفهم الدفاع عن أنفسهم ضد الانتهاكات المبلغ عنها في كل منطقة دخلتها الدعم السريع؟
ويقول أستاذ العلوم السياسية صلاح الدومة إنّ دعوات الإسلاميين إلى تسليح المواطنين من شأنها أن تتحول إلى "سيف مسلّط ليس فقط على عنق البرهان، بل أيضاً على الدولة ذاتها"، مشيراً إلى أنّ الإسلاميين يرهبون قائد الجيش من خلال تهديده بالتصفية والقتل لإجباره على ما يريدون، ومتهماً إياهم بالعمل على خلق فوضى يعودون من خلالها إلى السلطة مرة أخرى. الأمر الذي استبعد في حديثه إلى رصيف22 نجاحهم فيه.
في الأثناء، يذهب عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، كمال كرار، إلى أن "الإسلاميين يريدون إحكام الخناق على البرهان نفسه من خلال حملات التجييش التي يقودونها في عدد من الولايات حتّى يتمكنوا من السيطرة الكاملة على مجريات الأحداث، عبر استغلال المواطنين في الحرب نيابة عنهم، وبذلك تتغير المعادلة بوجود الإسلاميين كقوى ثالثة معلنة عن نفسها، لا تعمل خلف البرهان كما كان في بداية الحرب".
من جانبه، يعتبر المحامي والقيادي في حزب المؤتمر الشعبي، ذي التوجهات الإسلامية، وحليف قوى الحرية والتغيير، بارود صندل، أنّ تسليح المقاومة الشعبية يقف خلفها حزب المؤتمر الوطني المخلوع، مضيفاً أن الغرض من هذا المطلب "إقناع البرهان وتطمينه بأن المقاومة قادرة على إحداث تغيير في ميزان الحرب كي لا يقدم على التفاوض". وهو يوضح لرصيف22 أنّ ما سبق يكشف عن عدم رضا الإسلاميين في الجيش عن أداء البرهان، وإن كانوا لا يرون له بديلاً في الوقت الراهن. ويستبعد المحامي السوداني أنّ تحقق تجربة تسليح المواطنين أي تغيير ملموس في معادلة الحرب كونها "أقل تنظيماً وتدريباً كما أنّها لن تمنع توجه البرهان نحو التفاوض".
مخاطر عودة الإسلاميين
وسعى طرفا الصراع في السودان إلى تجنيد المواطنين لتعزيز قواتهما وإن بطرق مغايرة. فالدعم السريع اتبع سياسة تجنيد المواطنين في المناطق التي يسيطر عليها، لتعويض النقص في جنوده، بالترهيب تارةً والترغيب تارةً أخرى.
يمكن القول إنّ معظم الإسلاميين في السودان على اختلاف انتماءاتهم الفكرية يصطفون إلى جانب الجيش في حربه ضد الدعم السريع.وقد أبدوا استعدادهم بل وطالبوا بفتح المجال لهم للتجنيد في صفوف الجيش حيث لا يرضيهم سوى القضاء التامّ على قوات الدعم السريع
كذلك، دعا الجيش المواطنين إلى التجنيد في صفوفه، في تموز/ يوليو 2023، إلا أنه لم يُقدم على خطوة تسليح المتطوعين في المعسكرات حتّى التقى حميدتي، في أديس أبابا، برئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، عبد الله حمدوك، الذي خرج بإعلان سياسي مطلع كانون الثاني/ يناير الجاري. بعد إعلان البرهان، بدأت المنصات الإعلامية التابعة للجيش في إطلاق مسمى "المقاومة الشعبية" على المتطوعين من المدنيين في معسكرات الجيش. تبعاً لذلك، انقسمت التحليلات لهذه الخطوة بين من يراها ردّ فعل للقاء حميدتي وحمدوك، ومن يراها نية من البرهان للعودة إلى أحضان حلفائه الإسلاميين.
يعلّق بارود صندل على ذلك بقوله إنّ إشادة البرهان بخطوة تسليح المدنيين لا تعدو كونها دفعة معنوية بعد الخسائر الميدانية للجيش، لافتاً إلى أنّ البرهان لديه مخاوف من تسليح المواطنيين ولهذا اشترط أنّ يكون التسليح والعمل تحت إمرة الجيش. ويلفت صندل إلى أنّ المحسوبين على حزب المؤتمر الوطني المنحل لا يمكن لهم قيادة المقاومة الشعبية باستقلال عن الجيش، لدواعي ترتبط بالتسليح والتدريب والعمل الميداني، مؤكداً أنّ الجيش متماسك تحت قيادة البرهان.
في السياق ذاته، حذّر بيان للمكتب السياسي للحزب الشيوعي من أنّ تجنيد المواطنين قد يؤدي إلى حرب أهلية، واتهم الإسلاميين بأنّهم يسعون إلى تحويل الصراع إلى "حرب أهلية حال فشلهم في الإجهاز على جذوة الثورة بالحرب العبثية بين الفلول مع ميليشيا قوات الدعم السريع، وتحقيق نصر عليها للانفراد بالسلطة وثروات السودان". ويشبّه عضو اللجنة المركزية للحزب، كرار، تسليح المدنيين في ما يعرف بالمقاومة الشعبية بميليشيا الدعم السريع التي يحاربها الجيش اليوم. يشرح لرصيف22: "الجنجويد تم تسليحهم لذات الغرض وهو ادعاء مساندة ودعم الجيش، وبالتالي فهذا الاتجاه (تسليح المدنيين) خطر على الجيش نفسه وعلى الوطن حيث قد يشكلون مرتزقة في المستقبل ويصعب جمع سلاحهم و/ أو حصره"، محذراً من أنّ الإسلاميين لن يكونوا وحدهم من يستغل تسليح المواطنين، بل المكونات القبلية والإثنية والجهوية أيضاً.
حق الدفاع عن النفس
من جانب آخر، تطرح الدعوة إلى تسليح المواطنين، والتحذيرات من تبعاتها في المقابل، تساؤلات حول حقّ المواطنين في الدفاع عن أنفسهم في ظل الانفلات الأمني والمخاطر الكبيرة التي ترافق عمليات الدعم السريع، المتهمة بارتكاب العديد من الانتهاكات بحق المواطنين، كما حدث في مدينة ود مدني. وبعيداً عن خطاب قادة الدعم السريع الذين يتبرأون من ارتكاب أي انتهاكات تُتهم بها قواتهم، فإن أفراد الميليشيا يصرحون علانيةً بأنّهم يهدفون إلى الاستيلاء على السلطة، والقضاء على ما يزعمون أنّه انفراد واحتكار من الولايات الشمالية بالحكم منذ الاستقلال في ما يُعرف بـ"سردية الهامش والمركز" التي يتبناها العديد من السودانيين.
إزاء هذه الادعاءات، وممارسات الدعم السريع ضد القبائل ذات الأصول الأفريقية، كما حدث في مدينة الجنينة، الواقعة غربي دارفور، يبدو متفهّماً أنّ يبادر سكان المناطق الشمالية والولايات التي لم يدخلها الدعم السريع إلى حمل السلاح لحماية مناطقهم من الاجتياح واحتمال التعرض للنهب والقتل، أو انتهاكات جسدية وجنسية، كما سجلت منظمات في مناطق يسيطر عليها الدعم السريع.
"الإسلاميون يريدون إحكام الخناق على البرهان نفسه من خلال حملات التجييش التي يقودونها في عدد من الولايات حتّى يتمكنوا من السيطرة الكاملة على مجريات الأحداث، عبر استغلال المواطنين في الحرب نيابة عنهم، وبذلك تتغير المعادلة بوجود الإسلاميين كقوى ثالثة معلنة عن نفسها، لا تعمل خلف البرهان كما كان في بداية الحرب"
فضلاً عن ذلك، لا يتفق عدد كبير من السودانيين مع موقف السياسيين من الحرية والتغيير الذين تجمعوا في جسم سياسي جديد باسم "تقدم"، والذي يساوي بين الجيش والدعم السريع، فيرون في الأول مؤسسة وطنية، بينما الثانية قوات شبه عسكرية على أساس قَبَلي أو ميليشيا ذات سجل شديد السوء بسبب سجل جرائمها المشينة في دارفور. يدل على ذلك أنّ العديد من أعضاء لجان المقاومة التي تمثّل روح الثورة انضموا إلى قوات الجيش في الدفاع عن سلاح المدرعات في الخرطوم، في بداية الحرب. لقي العديد منهم مصرعهم في سبيل ذلك.
والتقى رصيف22 بعدد من المتطوعين في المقاومة الشعبية. يذكر المواطن أحمد عبد الله الذي انضم إلى معسكرات المقاومة في الولاية الشمالية، أنّه استجاب لدعوات الاستنفار رغبةً في "الدفاع عن أسرته بعد ما حدث من اغتصابات ونهب وقتل واختطاف للنساء في مناطق سيطرة مليشيا الدعم السريع"، لافتاً إلى أن قتاله في صفوف الجيش يعد دفاعاً أيضاً عن الدولة لأنه يعرف ما قد يحدث للسودان إذا انتصرت مليشيا الدعم السريع التي قال إنها تكونت بدون "عقيدة وطنية وليست لها مبادئ وأخلاقيات ولا تحترم المواثيق والدولية، وتجاهر بانتهاكها حقوق الإنسان".
أما عن مزاعم سيطرة الإسلاميين على المقاومة الشعبية، فنفاها عبد الله مؤكداً أنّه يقاتل مع جيش مؤسسي تحت شعار "الجيش جيش السودان"، ومشيراً إلى أنّ هذا هو شعار "ثورة ديسمبر" بغض النظر عن اختطاف قرار الجيش، مشدداً على أنّ "صراع الشعب مع الجيش يختلف كثيراً عن صراعه مع ميليشيا". يلفت المواطن السوداني أيضاً إلى استعداده للقتال في أي مكان في السودان تحت إمرة الجيش، مذكراً بأنّ الجيش كمؤسسة كان ملاذ الشعب في ثورة ديسمبر، بغض النظر عن الاختلاف مع قيادته.
من جهته، يرى المحامي عبد الهادي محمد، الذي انضم إلى صفوف المتطوعين في المقاومة الشعبية هو الآخر، أنّ شعار "ما في ميليشيا بتحكم دولة" هو شعار ثورة ديسمبر التي طالبت بحل الدعم السريع. ويضيف أنّ "شعارات ثورة ديسمبر المجيدة لم تأت من فراغ، ويقيني أنها قوات همجية وتعتبر نفسها فوق القانون ولا يخضعون لمحاسبة". ونفى محمد، في حديثه لرصيف22، أنّ يكون تطوعه استجابةً لدعوات إسلاميين، "بل دفاعاً عن الوطن"، يشدد مؤكداً ألّا "رجعة لحزب المؤتمر الوطني للسلطة مهما حاولوا". ويختم بالتأكيد على أنّه مستنفر تحت إمرة القوات المسلحة السودانية وحدها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين