لاحقت بعضهم اتهامات بـ"الكفر" و"الخيانة"، إنهم أقباط السودان المسيحيون الذين وجدوا أنفسهم عالقين وسط الحرب التي اندلعت بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع في 15 نيسان/ أبريل 2023. تلك التهم نُسِبت إلى أفراد من الدعم السريع الذين أُشير إليهم بأصابع الاتهام في عدة حوادث لاستهداف عدد من الكنائس لطوائف مسيحية مختلفة وافتحامها ونهبها.
توجد في السودان أقلية مسيحية متنوعة من حيث الانتماء العرقي والمذهبي، ومن بينهم الأقباط الذين تعود أصولهم إلى قرون خلت في وقت دخول المسيحية إلى شمال البلاد، عبر مصر التي استمر ارتباطهم بها خصوصاً حين زادت أعدادهم خلال القرنين الماضيين حين كانت مصر تحكم السودان منفردةً ثم بمشاركة بريطانيا في فترة الحكم الثنائي. فكيف أثرت الحرب الجارية في السودان على الأقباط؟ وهل اُستهدفوا على أسس دينية أم لم تختلف معاناتهم عن مواطنيهم المسلمين؟
عالقون في الصراع
ريتا، وهي مواطنة قبطية، تقول لرصيف22 إنها نجت من تحرشات ومضايقات جنسية قام بها أفراد من الدعم السريع، وتحكي أنها صبيحة يوم اندلاع الحرب كانت في الكنيسة القبطية جوار شارع النيل قرب القصر الجمهوري بالعاصمة الخرطوم حين سمعت مع الجميع إطلاق النار. لم تمض سويعات حتى اقتحم أفراد من الدعم السريع الكنسية، وطالبوا بتسليم مفاتيح السيارات، وأجبروا الأسقف على فتح الخزينة، وسرقوا منها ما يعادل 100 ألف دولار أمريكي، وكميات من الذهب والأمانات، على حد قولها.
بعيد هجوم الدعم السريع على الخرطوم، تمّ استهداف دور العبادة التابعة للمسلمين والمسيحيين، خاصة الكنائس التي اُستهدفت لنهب محتوياتها في المقام الأول، ولم يسلم من ذلك الصلبان والأجراس. لكن هل اُستهدف مسيحيو السودان على أسس دينية أم لم تختلف معاناتهم عن معاناة مواطنيهم المسلمين؟
تضيف أنّ أحد مقاتلي الدعم السريع كان ينظر إليها بـ"اشتهاء"، فتدخّل القس ج. ي. مسؤول كنيسة الشهيد العظيم مار جرجس في الخرطوم بحري، وزجره بالوعظ الديني، مذكِّراً إياه بأنّه "مسلم وصائم"، لكن الجندي رفع سلاحه في وجه الأسقف والفتيات في الكنيسة، وطالبهم بالدخول في الإسلام، وتحدث عن أخذ ريتا برفقتهم لكي يتزوجها. وبينما ملأ الرعب قلب ريتا من تنفيذ الجندي رغبته، تدخّل قائد القوة وأمر مقاتليه بالرحيل بعد انتهائهم من الاستيلاء على محتويات الكنيسة، بحسب ما تقول ريتا.
في اليوم الأول للحرب أيضاً، كان بنيامين (20 عاماً) في طريقه إلى منطقة "السوق العربي" لملاقاة ابن خالته والذهاب معاً إلى الجامعة. يقول لرصيف22 إنّ عربة تابعة للدعم السريع أوقفتهما، واشتبه مرتادوها فيه هو تحديداً لكونه يحمل الجنسية المصرية، وحين أخبرهم أنه مواطن سوداني، قالوا له: "أنتّ كافر ومصري خائن وعميل". نجا بنيامين وقريبه من مصير مجهول حين تركهم أفراد "الدعم"، وانطلقوا في مطاردة عربة عسكرية تابعة للجيش مرت قربهم.
حادثة أخرى تعرضت لها مجموعة فتيات من الأرثوذكس، في الأيام الأولى للحرب. تقول ساندي (25 عاماً) إنّها وصديقاتها اضطررن للمكوث أربعة أيام داخل مبنى الكلية القبطية، دون طعام حتى وصلت حافلة قامت بإجلائهن. تذكر لرصيف22 أنّ قوات الدعم أوقفت الحافلة في نقطة ارتكاز أمني وطالب أفرادها بنزول جميع الفتيات، إلا أنّ مشرف المدرسة تحدث معهم، ونجح في إقناعهم بأنّ الفتيات "مسيحيات قبطيات ولا علاقة لهن بالسياسية". تلفت إلى أنّهم سمحوا بمغادرة الحافلة بعد تفتيش دقيق واستجواب لمدة ساعة. على النقيض، توضح ساندي أنه حين وصلت الحافلة إلى منطقة يسيطر عليها الجيش، قام الأخير بتأمينها بإرسال عربتي حماية للحافلة لمرافقتها حتى الخروج من مناطق الخطر.
اضطر معظم المسيحيين إلى الفرار من الخرطوم للنجاة من الحرب أسوةً بالملايين من مواطنيهم، وبعضهم توجه إلى مصر، وآخرون إلى مدينة "عطبرة" في ولاية نهر النيل، شمال البلاد ومدن أخرى. تحتضن ولاية الخرطوم 236 كنيسة، موزعة بين الطوائف المسيحية، وفق تصريحات رسمية لوزارة الأوقاف السودانية.
استهداف الكنائس
بعيد هجوم الدعم السريع على الخرطوم، تمّ استهداف دور العبادة تابعة للمسلمين والمسيحيين، خاصة الكنائس التي اُستهدفت لنهب محتوياتها في المقام الأول، ولم يسلم من ذلك الصلبان والأجراس. يقول أحد الآباء في الكنيسة القبطية، فضّل عدم ذكر اسمه لاعتبارات السلامة الشخصية، إن قوات الدعم السريع استهدفت دور العبادة للمسلمين والمسيحيين بشكل ممنهج، مؤكداً لرصيف22 أنّ الدعم نهب ممتلكات الكنائس بما في ذلك الأجراس النحاسية.
ما من إحصاءات رسمية في السودان حول أعداد المسيحيين، وتقدر عدة مؤسسات كنسية وأجنبية عددهم بعد انفصال جنوب السودان بنحو 1.4 مليون نسمة، ولا يوجد مصدر مستقل يمكن الاعتماد عليه لتحديد مدى صدقية ذلك. ينتشر المسيحيون في جميع أنحاء البلاد، وتضم مدينة عطبرة أكبر تجمع للمسيحيين الأقباط، وقبيل الحرب كان هناك تجمع كبير آخر في مدينة أم درمان. قدّرت وزارة الخارجية الأمريكية عام 2022 أنّ 5.4% من عدد السكان البالغ 48 مليوناً هم من المسيحيين. وبحسب الأب، تعرضت أربع كنائس للاستهداف في الأيام الأولى للحرب في مدينة أم درمان. ومن أبرز حوادث الهجوم على الكنائس في الخرطوم، هجوم الدعم السريع على كنيسة "مارجرجس" الذي أسفر عن إصابة أربعة من أفراد الكنيسة، كما تعرض منزل الأسقف ومبنى إقامة السيدات من كبار السن للاقتحام، ونُهبت محتويات الكنيسة، وذلك في 14 أيار/ مايو 2023.
بدوره، يقول القس يحيى عبد الرحيم، راعي كنيسة المخلص الإنجيلية، إنّ مبنى كنيسته تعرض للاستهداف بثلاث قذائف، ما أدى لاحتراق المكتبة التي تضم الإرث التاريخي للكنيسة. ويضيف: "مدرسة الكنيسة الإنجيلية التجارية تعرّضت للدمار بعد سقوط خمس قذائف هاون عليها".
وكان بيان للجيش قد اتهم قوات الدعم السريع باحتلال مبنى كنيسة الأقباط بحي النسيم في الحاج يوسف في العاصمة، واتخاذها موقعاً عسكرياً، ومنع الطائفة من دخولها لأداء الصلوات. كما تعرض مبنى للروم الكاثوليك في منطقة الشجرة لهجوم وسط قتال بين قوات الدعم السريع والجيش في العاصمة.
"هدّدونا لنترك المسيحية فرفضنا على الرغم من الكلاشينكوف الذي كان موجّهاً نحو رؤوسنا"... مسيحيو السودان عالقون في قلب الصراع، وطرفا الحرب الأهلية يتراشقان الاتهامات باستهداف الكنائس ونهبها وترويع المصلين
وفي مدينة ود مدني، حاضرة ولاية الجزيرة، تعرّض مبنى الكنيسة الإنجيلية للدمار بعد إحراقه على يد مجموعة مجهولة، وذلك بعد سيطرة الدعم السريع على المدينة. كما ذكرت كيلسي زورزي، مديرة الدفاع عن الحرية الدينية العالمية في ADF International ونائبة رئيس لجنة المنظمات غير الحكومية التابعة للأمم المتحدة المعنية بحرية الدين والمعتقد، في تصريحات صحافية حديثة، أنّ قوات الدعم السريع احتلت ديراً قبطياً في الولاية، وحولته إلى قاعدة عسكرية.
وكان القس أرسانيوس، كاهن كنيسة أم درمان، قد اتهم قوات "الدعم" باستهداف الكنائس القبطية في الخرطوم، ومنها مقر المطرانية التي اقتحمها الدعم واستخدامها كقاعدة عسكرية، مضيفاً في حوار مع بوابة "دار المعارف" المصرية أنّ قوات الدعم السريع اعتدت بالضرب على بعض الشباب أثناء خروجهم من كنيسة "مار جرجس" في المسالمة التابعة لإبراشية أم درمان، ثم هاجمت الكنيسة وأوقع أفرادها عدة إصابات بالرصاص، فضلاً عن سرقة الهواتف والأمانات والأموال والسيارات. وذكر القس الذي عايش تلك الأحداث أنّ عناصر "الدعم" هددوهم، وقال: "هدّدونا لنترك المسيحية فرفضنا على الرغم من الكلاشينكوف الذي كان موجّهاً نحو رؤوسنا ورأس سيدنا الأنبا صرابامون". وأشار إلى أنّه في الخرطوم أيضاً هاجم أفراد محسوبين على الدعم السريع مطرانيتها، ولكن الأنبا أرميا كان قد أمر بإخلائها من الرهبان والأمهات والعاملين، فلم تحدث إصابات ولكنهم دخلوا على "سيدنا" وهددوه حتّى يترك المسيحية فرفض، فأخذوا منه مفاتيح المقر ونهبوه بكل أمانات الناس، وتم الاعتداء على دار للمناسبات فيها دير صغير للراهبات لكن دون حدوث إصابات، على حد قوله.
هل هناك استهداف طائفي للمسيحيين؟
وأشارت زورزي إلى أنّ سجل السودان في الحريات الدينية شهد تحسناً كبيراً بعد ثورة كانون الأول/ ديسمبر عام 2018، إلى حد الإشادة بها باعتبارها "المثال الرئيسي للتقدم في مجال الحرية الدينية في بلد معروف بأن لديه أحد أسوأ السجلات في هذا الشأن". لكنها حذّرت من انهيار هذا التقدم، لافتةً إلى أنّ احتمالات الحرية الدينية أكثر قتامة من احتمالات السلام. وذكرت أنّه قد تم البحث عن المسيحيين و"مهاجمتهم بسبب عقيدتهم"، ما اضطر العديد منهم إلى الفرار من البلاد والاستقرار في مخيمات اللجوء.
يطرح هذا تساؤلاً حول ما إذا كان استهداف المسيحيين يحدث على أسس دينية وطائفية أم شأنهم شأن بقية المواطنين السودانيين؟ عن ذلك، تقول ساندي، المواطنة القبطية الأربعينية، إنّها ظلت أربعة أشهر في مناطق سيطرة الدعم السريع بالعاصمة، قبل أنّ تتمكن من السفر إلى مدينة عطبرة في الشمال، لافتةً إلى أنّها مرّت على العديد من الارتكازات الأمنية التابعة للدعم لكنهم لا يسألون امرأة مهما كان شكلها أو طائفتها عن شيء، ومضيفةً أنّ غالبية الأقباط خرجوا من العاصمة إلى مدن عطبرة وبورتسودان وسنار والأبيض، على حد علمها.
من جهته، يوضح الأب ج. ي. أن ما تعرض له الأقباط لا يختلف عمّا تعرض له السودانيون المسلمون، لافتاً إلى أنّ هناك مسيحيين ما يزالون في مناطق سيطرة الدعم خاصة في أم درمان، ويعانون مثل أي سوداني آخر من ويلات الحرب، مؤكداً أنّ "الحرب الحالية لا تفرق بين المسلمين والمسيحيين، أو بين المذاهب المسيحية وبعضها البعض. فنحن شاهدنا الجميع يتعرّض لنفس المعاناة". أما القس يحيى عبد الرحيم، فيقول إنّ الكنيسة الإنجيلية تركز الآن على الدعوة لوقف الحرب، وتوفير الاحتياجات الأساسية للمتضررين من أبناء الوطن قدر المستطاع.
استناداً إلى الشهادات السابقة، يمكن القول إنّ ما يتعرض له المسيحيون في ظل الحرب لا يختلف عما يتعرض له المسلمون، وأنّ المخاطر التي تحيق بالفتيات المسيحيات هي عينها المخاطر التي تحيق بالمرأة عموماً في ظل بيئة الحرب حيث لا يُحترم القانون والأعراف والأخلاق. لكن استهداف الكنائس بهدف سرقة محتوياتها، بسبب التصورات الشعبية السائدة عن وجود أموال ومقتنيات قيمة داخل الكنائس، هو ما يمكن وصفه بأنّه استهداف على أسس دينية، إضافة إلى التصرفات الفردية التي تكررت من أفراد من الدعم السريع يمكن وصفها بالعدوانية تجاه المسيحيين. أما القذائف التي سقطت على مبانٍ كنسية فلا تُعتبر استثناءً حيث طالت مئات المباني والمؤسسات وتسببت في مقتل آلاف المدنيين.
رداً على الاتهامات باستهداف الأقباط والكنائس، ممثل الدعم السريع لرصيف22: "استهداف الكنائس تكرّر من الجيش، وأصابت رصاصاتهم جنودنا والعاملين في المؤسسة الخيرية في الصدر وهم يحاولون إخلاء رعايا الكنيسة قبل أسابيع… العالم أجمع يعلم كره الإسلاميين للتعايش الديني والتسامح بين العقائد المختلفة"
لعل هذا ما دفع الكنيسة القبطية إلى إعلان دعمها الجيش السوداني. مطلع العام الجاري، استقبل قائد الفرقة الثالثة مشاة في شندي، حمدان عبد القادر داؤود، في مقر قيادة الفرقة، ممثلي الطائفة القبطية بمدينة شندي في ولاية نهر النيل يتقدمهم الأنبا أبو دانيال برفقة عدد من أعضاء لجنة الطوارئ والإسناد للقوات المسلحة بالمحلية حيث تسلم قائد الفرقة دعم وتبرع الطائفة القبطية، وذلك وفق بيان رسمي.
على الجانب الآخر، تنفي "الدعم السريع" أية مسؤولية عن العدوان على الكنائس بل وتتّهم على لسان عضو المكتب الاستشاري لقائد "الدعم"، إبراهيم مخير، الجيش باستهداف الكنائس. يقول مخير لرصيف22: "استهداف الكنائس تكرّر من الجيش، وأصابت رصاصاتهم جنودنا والعاملين في المؤسسة الخيرية في الصدر وهم يحاولون إخلاء رعايا الكنيسة قبل أسابيع في منطقة الشجرة، برعاية الصليب الأحمر". وحمّل مخير ما وصفها بـ"أيادٍ واضحة للاستخبارات العسكرية للجيش في هذا العمل الفظيع، والعالم أجمع يعلم كره الإسلاميين للتعايش الديني والتسامح بين العقائد المختلفة. فبعدما فشلت محاولات زرع الفتنة القبليّة ها هم يلجأون إلى زرع الفتنة الدينية، ولن يكتب لهم النجاح"، مشيراً إلى أنّ قوات "الدعم" قامت بتأمين المسيحيين الأقباط في مدينة ود مدني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...