انتصرت الثورة الإسلامية في إيران في الحادي عشر من شباط/فبراير 1979، وكان هذا الانتصار للتيار الإسلامي، بمثابة بداية لنهاية بعض الأمور والأشياء التي كان الشعب الإيراني معتاداً عليها، وأبرزها الحرية في ارتداء الحجاب وارتياد الملاهي الليلية والعلاقات السياسية مع بعض الدول الغربية كالولايات المتحدة الأمريكية وأمور أخرى كثيرة.
لكن كانت هناك أماكن ومحال أخرى، وُضِعَت خاتمتها قبل أن يعتلي الإسلاميون بشكل رسمي سدة الحكم. حدث ذلك قبل اثني عشر يوماً من انتصار الثورة، أي يوم 29 كانون الثاني/يناير 1979، حين أحرق الثوار حياً محمياً في وسط العاصمة طهران، كان يُعرف بـ"القلعة" أو "المدينة الحديثة" (بالفارسية شَهْرِ نُو). كان هذا الحي عبارةً عن مكان يضم العديد من غرف الدعارة والحانات والبيوت التي تحولت إلى رماد على يد الثوار الإسلاميين.
النار تأكل الحي
وحول كيفية نشوب هذا الحريق، ثمة رواية واحدة فحسب، هي التي نُشرت في صحيفة "اطلاعات" في اليوم التالي ليوم الحادث. كتبت الصحيفة أنه في تمام الساعة الخامسة من مساء الإثنين 29 كانون الثاني/يناير 1979، بدأ الناس يتجمعون تدريجياً حول حي "شهر نو"، الذي كان يسمّى يوماً ما بـ"قلعة الموتى"، والذي عُرفت نساؤه بـ"ساكنات حي الحزن". لم يستغرق الأمر طويلاً حتى ازداد عدد المتظاهرين، ففي البداية طلب الضباط من المحتجين أن يتفرقوا، لكن الأخيرين لم يهتموا بهذا الطلب، وبعد فترة قصيرة بدأ الضباط بإطلاق النار في الجو بهدف تفريق المتظاهرين وإبعادهم عن هذه المنطقة.
قبل اثني عشر يوماً من انتصار الثورة، أي يوم 29 كانون الثاني/يناير 1979، أحرق الثوار حياً محمياً في وسط العاصمة طهران، كان يُعرف بـ"القلعة" أو "المدينة الحديثة" (بالفارسية شَهْرِ نُو). كان هذا الحي عبارةً عن مكان يضم العديد من غرف الدعارة والحانات والبيوت
بعد مغادرة الضباط، احتشد المحتجون بشكل أكبر، حول حي بائعات الهوى، وعند الساعة السادسة مساءً، هاجم بعض الشباب باب الحي وكسروه، ثم دخلوا إلى شوارعه وتبعتهم الناس، وفي هذه الأثناء، تم إحراق المنازل والمحال التجارية بالأدوات التي جُهّزت مسبقاً، وقامت مجموعة من الناس بالاعتداء على النساء القاطنات في الحي، بينما قام بعض المتظاهرين بمنع الآخرين من إلحاق أي أذى بهن، إذ ذكر العديد من شهود عيان أن عدداً من العاهرات قد أصبن، وربما قُتلت امرأتان أو 3 منهن. كما رفض رجال الإطفاء أن يخمدوا الحرائق، وفقاً لتصريحات سابقة لمديرية إطفاء الحريق، التي تفيد بأن "رجال الإطفاء لا يخمدون الحرائق التي يرفض الناس إخمادها".
وعلى إثر هذا البيان، توجه عشرة من رجال الدين إلى إدارة الإطفاء وطلبوا من مسؤولي المنظمة التحرك لإخماد الحرائق الملتهبة في جنوب المدينة، وبناءً على هذا الطلب، أُرسلت فرقٌ من رجال الإطفاء من المراكز المختلفة، وأطفأوا الحريق.
وفي اليوم التالي، نُشر في الصحيفة نفسها، بيان لعالم الدين والسياسي الإيراني الشهير محمود طالقاني، وصف فيه الهجوم على "شهر نو"، بأنه تحريض من "العملاء المرتزقة والقذرين للنظام وأصحاب دور القمار والمبتزين المحليين"، إذ خدعوا "الإخوان الأبرياء المسلمين"، وأكد أن ساكنات الحي "هن من ضحايا النظام البهلوي المستبد والسلطوي الفاسد لهذا المجتمع، إذ يجب أن يكنّ (أي نساء الحي)، محصنات من أي أذى، وينبغي أن تتم هدايتهنّ في الفرص المناسبة، وذلك بالاستلهام من مدرسة الرحمة والكرامة الإنسانية في الإسلام".
إغلاق أو توسيع؟
في أثناء عمل رجال الإطفاء، وعندما كانت بعض البيوت في هذا الحي لا تزال تحترق، ذهب مراسلو صحيفة "اطلاعات" إلى هناك، وتحدثوا إلى بعض النساء اللواتي أصبحن بلا مأوى، كما استفسروا عن رأي العديد من الأشخاص الموجودين في المكان حول ما إذا كان حرق الحي فعلاً صائباً أو غير صائب؟
قالت إحدى بائعات الهوى وتُدعى شهلا، وقد أُحرق بيتها خلال هذه الحادثة: "لا أعرف من أشعل النار هنا، لكن من فعل ذلك أحرقنا مرةً أخرى، إذ إننا احترقنا في المرة الأولى عندما رضخنا لهذه المهنة السوداء، حيث كان علينا أن نعمل في هذا المجال لملء بطوننا، لكن الآن، لم يعد لنا منزل يحمينا ولا خبز نأكله".
وتساءلت تمارا، وهي عاملة أخرى في هذا المجال: "ما هو مصيرنا بعد أن أنزلوا بنا هذه الكارثة؟ أين نذهب وماذا نأكل؟ لم نرغب يوماً في القيام بذلك، لقد أجبرنا المجتمع على هذا".
بعد هذه المحادثات، أجرى المراسلون مقابلات مع عدد من الأشخاص الذين كانوا متواجدين هناك، فقال السيد مراد: "لا أعرف بالضبط من الذي أشعل الحريق، لكن من ارتكب هذا الفعل ارتكب خطأً كبيراً، لأنه في الواقع، نشر الدعارة من مركز خاضع للرقابة إلى جميع أنحاء المدينة".
وأدان طالب من طلاب جامعة طهران هذا الفعل، الذي وصفه بالبعيد عن الإنسانية والعاطفة، مضيفاً: "هذا الفعل يهدد المجتمع ومن المؤكد أن بعض سكان هذا الحي لديهم منازل في المدينة، ولذلك فإن المركز المدمّر يعطي مكانه لمراكز عديدة وصغيرة في مختلف مناطق المدينة".
بعد ذلك أُغلق هذا الحي وبدأت عملية تدميره في آب/أغسطس 1980، ولم يُعَد فتحه بعد ذلك. بدأت هذه العملية بأمر من السلطات التي عقدت العزم على تحصيله منذ بداية الثورة، برغم معارضة بعض رجال الدين ورجال الدولة، وبما أن "شهر نو" انقسم إلى قسمين؛ قسم كانت تقع فيه البيوت والقسم الآخر ضم المحال والغرف المخصصة للجنس، فلم يتم تدمير الجزء السكني في عام 1980، وهذه المنطقة التي كانت تسمى شارع أستخر، أصبحت تدريجياً مكاناً للدعارة، وبعد ذلك تم شراء البيوت من أصحابها، وهُدمت في عام 1989. لم تكتفِ السلطات بإغلاق الحي، إذ أعدمت أربع "قوّادات" أو كما كان يتم تسميتهن بـ"الرئيسات" (بالفارسية خانُم رييس) في عام 1979.
"شهر نو"... ميراث القاجاريين في إيران
وقصة هذا الحي الشهير بدأت منذ زمن حكم القاجاريين في إيران، وتحديداً في فترة حكم محمد علي شاه القاجاري، أي بين 1907 و1909، حيث تم بناء قلعة "شهر نو" لأول مرة بأمر من هذا الملك، وذلك لإسكان أسرته فيه، كما تمت تسميته في الأول بـ"حي القاجار". في نهاية عهد ابن محمد علي، وآخر ملوك القاجار أحمد شاه، سُمّي هذا المكان بـ"البوابة" بسبب وجوده على طريق مدينة قزوين القريبة من طهران، ورويداً رويدا أصبح هذا المكان ملاذاً للمجرمين.
قصة هذا الحي الشهير بدأت منذ زمن حكم القاجاريين في إيران، وتحديداً في فترة حكم محمد علي شاه القاجاري، أي بين 1907 و1909، حيث تم بناء قلعة "شهر نو" لأول مرة بأمر من هذا الملك
مع انتهاء حكم القاجاريين في إيران، ازداد عدد بائعات الهوى فجأةً، ما تسبب في اتساع هذه الظاهرة، وكان السبب الرئيسي في ذلك هو عندما أعلن رضا شاه البهلوي سقوط القاجاريين، وفي أول خطوة له قام بتدمير حريم القاجار، وطرد جميع نساء الحريم من البلاط، ونتيجةً لذلك، ذهبت المئات من النساء والفتيات اللواتي لم يكن يعرفن غير ممارسة الجنس، نحو بوابة قزوين واستقررن فيها، كما مات الكثير منهن بسبب المرض والفقر، وبعض من كانت لديهن ثروة تزوجن من أمراء قاجاريين أو أثرياء، وتحولت البقية منهن إلى عاهرات يعملن في هذا الحي.
لم تتوسع شهرة هذا الحي، حتى تمت إعادة بناء أجزاء من نصفه المدمر في عهد رضا شاه، ليصبح مركزاً لعاهرات طهران، وأعلنت الحكومة آنذاك، أن هدفها من تنفيذ مثل هذا القرار، السيطرة على الدعارة في إيران، كما أمر رضا شاه بإخراج جميع العاهرات من طهران وتوطينهن خارج بوابة قزوين في حي القجر (شهر نو).
واستمر هذا الحي في العمل على هذا النحو، لغاية عهد محمد رضا شاه البهلوي، حيث وضع قوانين لتنظيم حي "شهر نو"، وبحسب إحصائيات جهاز السجل المدني لعام 1969، كانت تعيش في "شهر نو" نحو 1،500 امرأة من بائعات الهوى، وبموجب القانون، كان عليهن الحصول على بطاقة صحيّة، ومن أجل الاحتفاظ بهذه البطاقة، كان عليهن الذهاب إلى العيادة كل أسبوع وإجراء فحوصات الدم كل ستة أشهر. بعد الثورة الإسلامية في إيران لم يبقَ لهذا الحي أي أثر وقد مُحي إلى الأبد.
ربما كان رأي السيد مراد وطالب الجامعة صحيح، عندما قالا إن الدعارة خرجت من السيطرة بعد حرق "شهر نو" في طهران، وربما كان حرق هذا المكان هو القرار الصحيح وكان لا بد منه، ولكن ما هو مؤكد أن حركة الثوار هذه، تسببت في تأزيم حياة فئة محروقة من المجتمع، إذ تُركت لتحترق أكثر، وذلك دون أن تقدَّم لها أي حلول بديلة، كي تخرج من محنتها التي تسبب فيها المجتمع من البداية حتى النهاية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...