ساحة "فردوسي" هي من أشهر ساحات العاصمة طهران، يتوسطها تمثال شاعر الفرس الشهير أبو القاسم الفردوسي، صاحب ملحمة "الشاهنامه". تقع هذه الساحة في قلب المدينة، وعلى الرغم من أنها تشتهر بزحمتها ووجود الكثير من المباني الحكومية في الشوارع المؤدية إليها، وكذلك سوق العملة الصعبة ومتاجر منتجات الجلد من أحذية وحقائب، إلا أنها شهدت قصة حب مذهلة تأبى النسيان في مخيلة أهالي الحي ممن شاهدوا رمز هذا الحب خلال العقود الماضية.
وتعود هذه القصة إلى "ياقوت"، الفتاة التي اتفقت مع حبيبها على موعد في ساحة فردوسي بطهران في خمسينيات القرن الماضي، وبما أن الشاب كان يهوى اللون الأحمر، حرصت الشابة على ارتداء فستان أحمر ليكون العلامة بينهما في الساحة، وعند الساعة المحددة حضرت منتظرة حبيبها بأناقتها المميزة.
تطلعت الشابة العشرينية في عيون المارة كي ترى من ارتدت لأجله فستانها الجديد، امتدت دقائق الانتظار إلى ساعة من الوقت، ثم ساعة ونصف، ثم ساعتين، وهكذا حتى حلول الظلام، ولم يأت الحبيبُ في ذلك اليوم. كان خيارها الوحيد كي تعرف مصير حبيبها هو أن تواصل حضورها في اليوم التالي، وجاءت تنتظر بحلتها وأناقتها. واستمر الانتظار إلى أيام وأشهر وسنوات، لم يوقفها برد الشتاء ولا حرارة الصيف.
تعود القصة إلى "ياقوت"، الفتاة التي اتفقت مع حبيبها على موعد في ساحة فردوسي بطهران في خمسينيات القرن الماضي، وبما أن الشاب كان يهوى اللون الأحمر، حرصت على ارتداء فستان أحمر، وعند الساعة المحددة حضرت منتظرة حبيبها، واستمر انتظارها 30 عاماً
دفعت حالة الانتظار الأبدي لدى ياقوت، وهي الحالة التي بقيت معها حتى بداية ثمانينيات القرن العشرين إلى تعلقها الشديد باللون الأحمر، ليس في ارتداء الفستان فحسب، بل حتى في الحذاء والحقيبة والجوارب. فلم ترتدِ لوناً آخر قط، منذ أن اتفقت مع حبيبها على أن يكون اللون الأحمر علامة بينهما.
تمسكت بحلتها وأناقتها وكأنها ستلتقي به بعد قليل بين زحمة المارة ليجلسا معاً في تلك الزاوية على جانب شارع "فيشر آباد"، في شمال شرق ساحة فردوسي التي شكلت موقع انتظارها الأبدي.
سرديات متعددة عن قصة حب فاشلة
سنوات من الانتظار بنفس الطلة جعلت ياقوت علامة للحب في طهران، حتى صارت حكايتها حديث أهالي العاصمة. ولقّبوها بـ"السيدة ذات الرداء الأحمر"، وبينما قصد البعض ساحةَ فردوسي كي يروها، أخذت حكاية المرأة تنتقل بتنوع وصل إلى ما يزيد عن 10 سرديات، تتضارب في التفاصيل وتتوحد في إطار القصة، التي تثبت بأن حبها ارتدم بجدار الفشل.
لا أحد يعرف شيئاً عن مصير ذلك الشاب إن كان هاجر أم مرض أم تزوج أم مات. تقول إحدى هذه السرديات إن البعض أخبرها بأن الشاب قد تزوج ولكنها لم تصدقهم، واستمرت بانتظارها له.
نقل الفنان والملحن الإيراني تُورَج شعبان خاني في حوار له عام 2016 ذكرياته عن كيفية تلحين وأداء أغنية "المدينة الفارغة" في سبعينيات القرن الماضي حول سيدة اللون الأحمر: "كتبت الأغنية فتاة شاعرة تدعى (شَهبُد)، ولأنني كنت أبحث عن صوت حزين بين المطربين فاخترت الفنانة فِرِشْته لأداء الأغنية، كوني قد تحدثت مع المرأة التي ترتدي الأحمر في ساحة فردوسي، ووجدت نبرة صوتها حزينة".
كما شرح قصة حياتها: "كانت هذه السيدة في شبابها تعمل في منازل المستشارين الأمريكيين والأوربيين، وقد تعرفتْ على شاب كان سائقاً في أحد هذه البيوت وتكونت بينهما صداقة. وفي يوم من الأيام تواعدا الشابان على لقاء في ساحة فردوسي، وقد طلب منها أن ترتدي فستاناً أحمر لأنه يحب هذا اللون، ولكنه لم يحضر في الموعد عند ساعة اللقاء، ولا يعرف أحد سبب عدم حضوره".
ترسخت المرأة في أذهان الجميع، حتى تؤكد إحدى السرديات نقلاً عن أصحاب المحلات في حوالي الساحة أن بعض الفتيات اعتدن على تقديم قطع من القماش الأحمر لها كنذورات عندما يتم قضاء حوائجهن.
هناك ما يزيد عن 10 سرديات عن قصة المرأة التي اشتهرت بـ"السيدة ذات الرداء الأحمر"، تتضارب في التفاصيل وتتوحد في إطار القصة التي تثبت أنها عاشقة
كما قيل إن الطبيب والكاتب الشهير غلام حسين ساعدي، فحصها يوماً في ساحة فردوسي ووجدها تعاني من الحمى، فأصر على نقلها للمستوصف وسط امتناعها الشديد من ذلك، وبعد رعايتها صحياً أعادها إلى مكانها، وأخذ يتساءل عنها حتى بعد هجرته من البلاد.
عندما نفت كل شيء
بعد أن ملأ صيتها كل مكان، تناولت إذاعة إيران الوطنية عام 1976 في برنامج حول الحب حكايتَها في فقرة خاصة تملأها مشاعر الحب وتصاحبها الموسيقى الحزينة. "كل من عاش بخلاف نمط حياتنا، وكل من لديه الجرأة في أن يعيش خلافاً لما نفعله، نعتبره مجنوناً. وإذا ما لا نعرف نيته في اختيار أسلوبه الفريد في الحياة، نصنع له حكاية ونغلفها بالأساطير. ولمَ لا؟ ألم تُخلق الأساطير أساساً بهذه الطريقة؟"؛ هكذا قال المذيع الشهير مسعود بِهنُود في ذلك البرنامج.
كما ضمت الفقرة الإذاعية لقاءً صحافياً مع هذه السيدة ليكون اللقاء الأول والأخير الذي يحتفظ به التاريخ عن أيقونة الحب الحمراء في طهران.
يبدأ المراسل حديثه بهذه الكلمات: "أنا في ساحة فردوسي، الموعد الدائم لامرأة ترتدي الأحمر. السيدة التي تشاهدونها دائماً باللون الأحمر ماسكة الزهور بيدها، تقف أمامي الآن فأحييها.
السيدة: سلام.
المراسل: عرفينا بنفسك؟
السيدة: ياقوت.
المراسل: كم عمرك؟
ياقوت: 50 سنة.
المراسل: لماذا ترتدين ثياباً حمراء دائماً؟
ياقوت: لأن الأحمر أفضل من باقي الألوان.
المراسل: تحبين لونه؟
ياقوت: نعم، نعم.
المراسل: لماذا تتواجدين في ساحة فردوسي دائماً؟
ياقوت: موقعي هنا. أين أذهب؟ أينما ذهبت السماء لونها واحد.
المراسل: لماذا لا تنتظرين في ساحة أخرى؟
ياقوت: لأنني أعيش هنا.
المراسل: يقولون إنك تنتظرين أحداً.
ياقوت: كذب.
المراسل: هل لديك أقارب؟
ياقوت: نعم، نعم.
المراسل: لماذا لا تعيشين معهم؟
ياقوت: أنا عشت وحيدة منذ البداية.
المراسل: يقولون إنك عاشقة؟
ياقوت: كلا. لست عاشقة. الآن يعتبر هذا الكلام (الحب) عاراً.
المراسل: وكيف في أيام الشباب؟
ياقوت: كنت عاشقة في أيام الشباب، ولكن من كان عاشقاً في شبابه، هل يبقى عاشقاً في الكبر؟
المراسل: يقولون إنك كنت عاشقة وكان لك موعد مع حبيبك في ساحة فردوسي...
تقطع كلام المراسل وترد: ليس كذلك، بل لدي أصدقاء يعيشون هنا فآتي لألتقيهم.
المراسل: منذ اليوم الأول لم تنتظري أحداً؟
ياقوت: لا. هذه الكلمات أكاذيب.
المراسل: السيدة ياقوت، شكراً لك وأتمنى أن تنالي أمنيتك.
ياقوت: ميرسي.
في حوارها الوحيد وفي سن الخمسين، تنفي قصة حبها في ردها على مراسل الإذاعة الوطنية، ولكن المذيع يؤكد في نصه الأدبي خلال البرنامج أن حديث ياقوت ونبرة كلامها يشبهان كتمان الشيء أكثر من نفيه. وعندما وصفت الحبَّ بالعار لأنها تقدمت في السن، نعت المذيعُ كلامها هذا كوثيقة على حقيقة حكاية حبها، لأنها تقدمت في العمر وتخجل من البوح به، كما أنها أكدت عشقها في أيام شبابها.
ولربما أنكرت أسرار حياتها لسبب شخصي ما، أو لم ترضَ بإفشاء سرّها للعلن أمام تسجيلات الإذاعة التي يسمعها الصغير والكبير. وأخذ المذيع يتحدث عن بعض أفعال إيذائية تصدر من أطفال تجاهها، أو سخرية بعض المارة من جنونها في ارتداء الأحمر.
لقطات حصرية من المرأة الحمراء
وثق المخرج خُسرو سِينائي عام 1977 لقطات حصرية للسيدة ياقوت في فيلمه الوثائقي باسم "طهران اليوم"، بدأه بلقطة منها، وهي جالسة على حافة الرصيف تنظر نحو المارة وإلى جانبها حقيبة حمراء تضم كلَّ ما تمتلكه، وهكذا حرص على أن يضيف لقطات منها ولمرّات عديدة خلال فيلمه الطويل كي يخبر جمهوره بقصة أيقونة الحب في العاصمة الإيرانية الحديثة، وختم الفيلم الذي يتحدث فيه عن تطورات العاصمة في سبعينيات القرن المنصرم، بمشهد يُظهر المرأة وهي تعبر من وسط الشارع بين زحمة السيارات.
اضطرت ياقوت بعد انتصار الثورة الإيرانية ضد النظام الملكي في بداية عام 1979، أن ترتدي غطاء الرأس، فاختارت لنفسها وشاحاً أحمر، بيد أنها اختفت من الأنظار فجأة في عام 1982.
يذكر المذيع والكاتب مسعود بهنود في مذكراته المصورة: "بعد انتصار الثورة أخذتُ أبحث عن ياقوت لأيام عدة في ساحة فردوسي، واستفسرت عن وجودها، ولكن لم يكن أحد يعرف عنها شيئاً، فأعددت الفقرة من جديد ونشرت شريط كاسيت طالباً من المستمعين أن يوافونا بأخبار ياقوت إذا ما عرفوا عنها شيئاً".
أعاد مسعود بصوته من جديد، إنتاجَ الفقرة الإذاعية التي تتضمن الحوار معها، والتي كانت قد بُثت قبل انتصار الثورة بعامين، وعندما بث حوارها للمرة الثانية، تحدث المذيع مرتجلاً عن نفيها لقصة حبها: "لا. إنها تكذب. هذه السيدة كانت عاشقة. وقد قلت في ما سبق: إنكارك ورعشة صوتك يا امرأة، يخبراننا بأنك عاشقة وأنك من قبيلة مجانين الحب".
ووسط ضجيج الأيام التي تلت انتصار الثورة، حرك المذيع مشاعر المواطنين، وبدأ الناس موجة من البحث عن مصير ياقوت، بيد أنهم لم يعثروا عليها أبداً.
ياقوت طهران في الأدب والموسيقي والأفلام
غنى النجم فِرَيْدون فُرُوغِي أغنية "دائماً غائب"، على لسان حال ياقوت. وكذلك لم ينسها شاعرُ طهران محمد علي سَبانلُو في منظومته "سيدة الزمان"، كما حضرت ياقوت في رواية "ساعة الصفر" للشابين هادي طامة وأمين مَتين.
سينمائياً، تم تسجيل حوالى 3 أفلام عن قصة حبها، بين أفلام روائية ووثائقية. كما عمل نجم البوب بنيامين بَهادُري فيديو كليب "أسبوع الحب"، يبحث فيه عنها في ساحة فردوسي. وهكذا امتدت الأعمال الفنية والأدبية عن أيقونة الحب لدى سكان العاصمة طيلة سنوات ما بعد الثورة.
وشاركت نحو 50 امرأة مرتديات ثياباً حمراء في ساحة فردوسي في أداء فني على طريقة الفلاش موب أو التجمع المفاجئ في عام 2011، من أجل تسجيل وثائقي تحت عنوان "الخامسة عصراً في ساحة فردوسي"، ولكن الفيلم لم ير النور.
خشبة المسرح هي الأخرى ساهمت في تخليد ذكرى الفتاة العاشقة، فقد عُرضت مسرحية تتناول حكاية ياقوت عام 2016 تحت عنوان "فيشِر آباد وقصتان أخريتان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...