شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
زملاء العمل: أصدقاء أم خصوم أم خونة مؤجلون فحسب؟

زملاء العمل: أصدقاء أم خصوم أم خونة مؤجلون فحسب؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 12 فبراير 202412:09 م

قادتني صدفة غريبة للعثور على حساب فيس بوك لأحد زملاء والدي القدامى في عمله، لم أتذكره وحسب، بل وجدت حسابه نشيطاً للغاية. ربما تبدو المنشورات عادية، لكني وجدت في الصور قصة أثارت انتباهي وتساؤلات لم تخطر على بالي من قبل، وربما على بال آخرين أيضاً.

الحساب أقرب لكونه أرشيف صور، تم التقاطها على مدار سنوات، مثلاً: أثناء تناوله للإفطار مع فلان وعلان، صور لحفلات الترقية أو المعاش، وصور أخرى مصحوبة بأسماء من فيها وسنة التقاطها فقط. وأحياناً كثيرة لا يكون هذا الرجل داخل الصور. تعمّقت أكثر في الصور الجماعية، وجدتها أقرب لرحلة بحث وتفتيش عن الأصدقاء القدامى. التعليقات كثيرة والبُعد الزمني بينها متفاوت بالشهور وأحياناً بالسنين. ما أثار فضولي أكثر أن الأمر لم يقف عند حدود التذكر وإلقاء السلامات، بل وجدت صوراً حديثة تجمع الباقين منهم على قيد الحياة، وصوراً أخرى تستحضر ذكريات الذين فارقوا.

قلق لم يعُد ذاتياً

بينما أنتقل من صورة لأخرى تذكرت أني أعمل منذ سبع سنوات كمندوب دعاية طبية (Medical representative) ورغم ذلك لم أحظَ بصديق طوال هذه الفترة من العمل. هذا بجانب كون مجال عملي يعتمد بالأساس على قاعدة واسعة من العلاقات والمعارف، حيث زيارة شهرية، أو ربما أكثر، لعشرات الأطباء والصيادلة، بجانب رؤية العديد من مندوبي الشركات الأخرى بشكل شبه يومي.

لماذا نفشل في اتخاذ أصدقاء من زملاء العمل؟

لأول وهلة انتابني شعور بالحزن جرّاء ما كشفت لي هذه الصور عن معانٍ وأخلاقيات وتصورات لم أجدها في علاقات العمل الحالية، أو بالأحرى وجدت نفسي أقارن بين حالتين، يغلب على الأولى طابع الافتقاد لا لشيء محدّد، بل لأشياء كثيرة. وهذا حال جيلي الذي تقوده أقصى التطلعات، تطلعات للحب والتملك والإنجاز، وتوقعات غالباً ليس لها جذور أو أساس صلب على أرض الواقع، ما يعمل على انتشار أوصاف كثيرة للحياة لا تشير إلا لثنائية التَعَب والفشل، ومن ثم يغدو الافتقاد حالاً دائماً يجب التطبيع معه. أما الحالة الأخرى فهي جيل الآباء والأجداد والذي بالطبع لم يكن مثالياً، بالعكس، حُرم هذا الجيل من مزية العصر الحالي: "التحرّر الفردي وفرصه".

من الممكن أن يبدو الأمر شعوراً فردياً، أو يمكن اعتباره ضمن جبل الحظوظ السيئة، ولكن تغيرت نظرتي تماماً بعد مشاركتي منشور مع الأصدقاء، وفاجأتني التعليقات التي تحركها أيضاً مشاعر الافتقاد، وتشعر بغرابة إزاء ما حدث أو تغير.

ذكرت إحدى الصديقات بأنها طيلة ثلاثة عشر عاماً من العمل لم تتمكن من كسب سوى صديقة واحدة، على عكس علاقة والدها بأصدقاء عمله، حيث لم ينقطع التواصل بينهم حتى بعد وفاة والدها. أبدت أيضاً صديقة من الأردن اندهاشها من صورة نشرتها إحدى معلماتها برفقة زميلاتها، وبالرغم من كونهن متقاعدات، إلا أن الصورة تعكس دوام الاتصال واستمرارية ما يجمع بينهن، الأمر الذي أصابها بحسرة كبيرة، أدركت إثرها حجم الخسارة التي رافقت جيلنا.

وفي هذا السياق، علّق صديق سوري من خلال متابعته لطاقم إطفاء المدينة المقيم بها، إذ تنشر صفحتهم على فيسبوك صوراً من الستينيات، حتى أنه يحكي عن وفاة أحد العاملين القدامى، وكيف تم تشييع جثمانه في سيارة سبق أن خدم عليها وهم يرتدون الزي الرسمي للعمل.

الآخَر: صديق أم منافس؟!

بقدر ما تعكس هذه المشاهدات نبذة عن افتقاد العديد لاجتماعيات العمل، بقدر ما تكشف عن الصورة الكاملة التي رافقت عديد من التغيرات الخاصة بالشروط الموضوعية لطبيعة العمل نفسه، والتي أحدثت بدورها تغيّراً جوهرياً على أخلاقيات واجتماعيات العمل، وهذه هي نقطة الانطلاق، حيث تحول مبحث التغيير ناحية الفرد نفسه، وهو ما جعل أغلب التساؤلات تُطرح بالشكل التالي: لماذا لم يعُد بإمكاننا تكوين صداقات من العمل؟! وما الذي يربط بيننا وبين زملاء العمل؟!

الانتهازية والوصولية لم يعُد يُنظر لهما أنهما مجرّد طباع أو تصرفات فردية، بل تمت إعادة تعريفهما باعتبارهما "فضيلة" تميز السلوك الفردي الطموح في مساره المهني

ومهمة هذه التساؤلات هي بحث أوجه القصور في شخصياتنا وحثنا على معالجة عيوبنا الذاتية وتنمية مهارات التواصل، وبهذه الطريقة يتم حصر الأسئلة وتوجيهها للذات، وتحميلها كامل المسؤولية.

تعود جذور هذه الرؤية إلى أواخر القرن العشرين، قرن "استكشاف الذات" ونشوء أدوات مفاهيمية جديدة تستدعي الاعتماد الكلي على الفرد وما يستطيع تحقيقه، وبحث توافر الثقة الشخصية من عدمها، ومدى جاهزية "البروفايل النفسي" للانخراط في الشروط الجديدة التي تغذيها جرعات مكثفة من التنافس على الفرص، الكفيلة وحدها ببناء وتشكيل الذات الجديدة. وفي المقابل استحدثت تابوهات جديدة للفشل، تعتمد حصراً على افتقاد الشغف، والتشبّع بالأفكار السلبية، وانعدام الطموح وعدم استغلال الفرص.

وفق هذا المنظور يغدو "البحث عن الاستثنائية" المبتغى الاجتماعي الوحيد، ويستحث هذا التوجه التعرّض الدائم لإعلانات تليفزيونية وفيديوهات تنمية الذات التي تخاطب الفرد دوماً: "انت استثنائي، مش زي الباقي"، بجانب اللغة الجديدة التي لا تعرف سوى النجاح واستنفاذ الوقت وتسخيره للعمل واقتناص الفرص، حتى إن كانت على حساب الآخرين.

لا مجال أو اعتبار للآخر، الذي أصبح بالنهاية يتلخّص وجوده في كونه منافساً شرساً على فرص النجاح المحدودة.

الانتهازية والوصولية لم يعُد يُنظر لهما أنهما مجرّد طباع أو تصرفات فردية، بل تمت إعادة تعريفهما باعتبارهما "فضيلة" تميز السلوك الفردي الطموح في مساره المهني. لا يصح أن تخبر زميلك براتبك أو تفاصيل عملك، كل هذا من أسرار العمل، والبوح بمثل أسرار كهذه يعرّضك إما للفصل أو النبذ على أفضل تقدير. إذن ما الذي يدفع شخصاً يبحث عن استثنائية مُلحّة، ويغمره شعور دائم بالاستحقاق، وتحرّكه دوافع أنانية صرفة، لكي ينخرط في علاقات اجتماعية، حتى بالحد الأدنى، لخلق تضامن ما، أو حتى على سبيل تكوين علاقات إنسانية من قبيل الزمالة أو الصداقة؟!

لا توضع في الاهتمام "سُمعة الفرد" وسيرته بين زملائه، ولكن الأهم هو ما ينخرط فيه الأفراد من محاولات لإثبات جدارتهم بكونهم استثماراً في محله من قِبل الشركة، وبالتوازي يغرس هذا في داخلهم شعوراً دائماً بالاستحقاق، والذي يتغذى وينمو اعتماداً على نظرة المديرين وأصحاب العمل للأفراد، حيث هم المعنيون تحديداً بالتقييم وتوزيع المِنَح والهدايا والسماح بالترقية والموافقة على العطلات والإجازات. إذن فما الذي يمنع أن يُقال على أحدهم إنه كذا أو كذا طالما يحصل على الرضا والقبول من المديرين؟!

أغلى ما نفتقد

اختفت المصالح الجماعية لتفسح الطريق لمشروع "الذات الحرة" كنموذج جديد. تستند شرعية هذا النموذج إلى القوة الغاشمة: مقدار ما يتعرّض له الفرد من القهر والإجبار من ناحية، والقوة الناعمة: الوعود والإغراءات من ناحية أخرى. يتحدّد إثر ذلك اختيار الفرد بين أن يظل عاملاً أو موظفاً وبين أن يتطلع لارتقاء طبقي، بأن يصبح مديراً مثلاً.

لا يصح أن تخبر زميلك براتبك أو تفاصيل عملك، كل هذا من أسرار العمل، والبوح بمثل أسرار كهذه يعرّضك إما للفصل أو النبذ على أفضل تقدير

وبفعل عدم وجود خيار ثالث، يصبح منتهى التغيير للفرد هو أن يتحوّل من وضعية "المقهور" إلى مصاف "القاهر"، وتتحدّد بالتالي الطريقة الوحيدة المسموح بها للعيش، بكلمات المفكر البرازيلي باولو فريري في كتابه "بيداغوجيا المقهورين": "أن تكون" هو "أن تكون مثل"، "وأن تكون مثل" يعني "أن تكون مثل القاهر".

بالنهاية نجد مزيجاً من المشاعر والرغبات والتطلعات قد تأسست على قاعدة "الافتقاد" التي ترزح تحت وطأتها الأجيال الشابة الجديدة. وتَعدُّد ما نفتقده من أشكال اجتماعية لا يستند في جانبه الرئيسي على ما نمتلكه من مقومات أو إمكانات، بقدر ما يرجع إلى ظروف ومحدّدات موضوعية شكّلت في الماضي الطريقة التي عملت على إنشاء ونسج العلاقات الاجتماعية بين العاملين والموظفين، الأمر الذي أنتج نظامين من الوصف: "التَعَب" منظوراً إليه من الخارج ومن الداخل، وسرعان ما سيصبح الأخير أكثر أهمية وتداولاً، بجانب كونه الإجابة الأسهل على سؤال: لماذا نفشل؟!

ربما اختفت حفلات الخروج على المعاش، وافتقدنا لكثير من المواقف والمشاعر التي طالما رافقت جيل الآباء والأجداد، لكن ما فقدناه في الحقيقة هي ضمانات الاستقرار الاجتماعي، حيث صار يُنظَر لمن يبقى في نفس الشركة لمدة أربع أو خمس سنوات، باعتبار هذا "قصة نجاح". أما عن "قصة الحكمة"، فقد شاهدنا بأعيننا زملاء ومعارف وأصدقاء استغنت عنهم شركاتهم لأسباب كثيرة، وكانت الحكمة الخالصة هي "الحمد لله الذي صرف عنا الأذى"، ولعل هذا هو آخر خيط يربطنا بالآخر، أننا نعرف كثيراً من القصص الذي طال فيها الأذى أحدهم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image