إن كنت مدخّناً ومسافراً من مطار برج العرب، قرب مدينة الإسكندرية المصرية، فسوف يأخذون منك عند التفتيش أيّة ولّاعة، قدّاحة، أو علبة كبريت تحملها مع سجائرك. تفعل ذلك مطارات أخرى في العالم وتصادر أيّة موادّ أو أدوات يعتبرونها خطراً على متن الطائرة.
ولأنّني مدخن عتيق، فإنّ مصادرة مصدر النار لإشعال السجائر يسبّب لي أزمةً كبيرة، إذ ما الذي سأفعله في ساعات الانتظار قبل الصعود إلى الطائرة سوى التدخين؟ وهذا ما حاولت أن أجد له حلّاً حين سفري من مطار برج العرب الشهر الماضي إلى مدينة دبي، إذ حملت علبتي كبريت إحداهما في حقيبة اليد، والثانية في جيبي، وعند التفتيش مرّت حقيبة اليد بعلبة الكبريت داخلها، فيما سألني الشرطيّ: "ماذا في جيبك؟"، "علبة كبريت": قلت، وأعطيتها له، ولأنّ حيلتي نجحت بتمرير علبة كبريت في حقيبة اليد، فقد شعرت أنّني كمن "يهرّب النار".
وفي غرفة التدخين في المطار، كنت "السيّد" لساعتين تقريباً، آخذاً في الاعتبار أنّ النار لا يمكن تبديدها ببساطة، إذ ازدحمت الغرفة بالمدخنين الذين يسألون الآخرين "ناراً" لإشعال سجائرهم، وما كان لي أن أسألهم، كما سأل والد ليلى قيساً على لسان أحمد شوقي: "جئت تطلب ناراً أم جئت تشعل البيت ناراً"، ولكن المشترك الإنسانيّ في عاطفة المدخنين يجعلهم إخوةً في النار.
سألني الشرطيّ: "ماذا في جيبك؟"، "علبة كبريت": قلت، وأعطيتها له، ولأنّ حيلتي نجحت بتمرير علبة كبريت في حقيبة اليد، فقد شعرت أنّني كمن "يهرّب النار"
وهكذا كنت أخرج علبة الكبريت وأطلب استخدام عود واحد فقط، لعدد من المدخنين يشعلون سجائرهم، ويسألونني، كيف "دخلت بعلبة الكبريت؟".
"بالاحتيال": أجيب مبتسماً، وأفكّر في قصة الإنسان مع النار، وما يقال عن أنّ "اكتشاف النار" كان تطوراً حاسماً في تحضّر الإنسان، من صهر المعادن كالحديد والنحاس والذهب، إلى طبخ الطعام، إذ بدون النار، ما كان لأمرئ القيس أن يقول: فظلّ طهاة اللحم ما بين منضج/ صفيف شواء أو قدير معجّل.
أي وليمة اللحم ما بين المشوي والمسلوق، وما كان لبروميثيوس سارق النار من الآلهة في الأساطير الإغريقية أن يحظى بمكانته، أو كيف كانت الكتب المقدّسة بدون النار ستحلّ مشكلة العقاب في غياب جهنم المستعرة بالنار، وبوسعنا بالطبع الاسترسال إلى ما لا نهاية في علاقة الإنسان بالنار التي أفضّل شخصياً أن نقول "سيطر الإنسان على النار"، من حرائق الغابات إلى ضبطها في مواقد الغاز المنزلي. وهذا ما يشير إليه جاستون باشلار في كتابه "النار في التحليل النفسي"، إذ يقول: "تهيء لنا النار والحرارة أدوات تفسير في مختلف الميادين، لأنّهما تتيحان لنا المناسبة لذكريات لا تنالها يد البلى، وتتيحان المناسبة لاختبارات شخصية، بسيطة، حاسمة، وهكذا هي النار ظاهرة ذات امتياز يمكنها أن تفسّر كلّ شيء. وإذا كان كلّ ما يتغيّر بطيئاً تفسّره الحياة، فإنّ كلّ ما يتغيّر سريعاً تفسّره النار".
أشعر شخصياً بأنّ الأرض أصبحت سجناً كبيراً للمدخنين
يعود الباحثون بتاريخ تحكّم الإنسان في النار إلى 120 ألف عام مضت، أو أبعد إلى 400 ألف عام مضت، وأيّاً كانت البداية، فإنّ النار جزء لا يتجزأ من حياة أي إنسان، وترتبط النار بالحضارة ارتباطاً وثيقاً، من حرق الطين لصناعة الخزف، إلى الرهبة من تدمير كوكب الأرض بالأسلحة النووية، وهكذا تصغر للغاية قصّة مدخّن يصادرون منه ولّاعته، قدّاحته أو علبة كبريته، في مطار من مطارات العالم، قياساً بتاريخ علاقة الإنسان بالنار قديماً وحديثاً. وقياساً بالمآسي الإنسانية في الحروب حين يدعو الجميع في كلّ حرب إلى "وقف إطلاق النار".
ومع ذلك، فإنّ قصتي كمدخن أكبر، ليس فقط بمصادرة ما نشعل به سجائرنا، ولكن بحظر التدخين في كلّ مكان تقريباً بما في ذلك الطائرات، وهكذا أشعر شخصياً بأنّ الأرض أصبحت سجناً كبيراً للمدخنين، وإن كنت قد نجحت في تهريب النار لإشعال السجائر في غرفة تدخين بمطار برج العرب، فلا أظنّ أنّ من أشعلوا سجائرهم من علبة كبريتي المهرّبة، سيصنعون لي تمثالاً كما فعل الناس مع بروميثيوس سارق النار في الأساطير، وفي المرّة المقبلة، وحين أنجح في "تهريب النار" للمدخنين في مطار ما، سأطلب من كلّ واحد منهم قبل إشعال سيجارته أن يصنع لي تمثالاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...