في قصة شهيرة عن الخليفة هارون الرشيد، الذي كان "يتلصّص" على زوجته زبيدة، وصنع لها بستاناً خاصاً ليمارس هوايته بـ"البصبصة"، على طريقة الحكام العرب المغرمين بمراقبة شعوبهم، وفي يوم انتبهت له وهو يتملاها فغطت فرجها بيدها، ففاض عن يدها لكبره (كذا)، فقال بيتاً واحداً من الشعر: نظرت عيني لحيني/ وشكا وجدي لبيني، وأشكلت عليه التتمة، فاستدعى أبا النواس الذي أكمل:
نظرت عيني لحيني/ وشكا وجدي لبينـي
من غزال قد سباني/ تحت ظل الدرتـين
سكب الماء عـلـيه/ بأباريق اللـجـين
نظرتني سـتـرتـه/ فاض من بين اليدين
ليتني كنت عـلـيه/ ساعة أو ساعتـين
إلى آخر القصّة الشهيرة، التي تعرّفنا على طبيعة الحكّام العرب منذ بدء خلافتهم، وحتى آخر مغفور له، قضى تحت ضربات "الثوار" ومحاكماتهم، الملفوفة بالعلم الأميركي.
إنهم الرجال، يقول علم النفس المنحاز، فثلث الرجال يشاهدون المقاطع الإباحية مرة في الأسبوع، (بالتأكيد تفعل النساء ذلك أيضاً، لكن لا تحضر "البصبصة" السرية في حياتهن الجنسية كما تفعل لدى الرجال)، وإنهم المتسكعون في الحدائق العامة والمستلقون على كراسيهم في المقاهي، يراقبون الرائحات والغاديات، بلا غاية، لكن مع شدة التدقيق بالتفاصيل التي تغيب عن بال أعتى الكاميرات.
كان لدي صديق يستطيع أن يعرف إن كانت هذه الفتاة التي تتهادي في ساحة الشيخضاهر باتجاه سوق العنابة، بكراً أم لا، وأحياناً كان يدخل في تفاصيل أعمق، لدرجة التأليف الأدبي، لكن بالتأكيد لا نستطيع التأكد منها، إلا بإيماننا بخبرة الرجل الذي صرف عمره مراقباً ومتلصّصاً.
والأغلبية يحبون مراقبة صور الصديقات الافتراضيات على الستوري أو إنستاغرام، يراقبوهن ويشتهوهن، ويستمرّون بادعاء الترفّع والنبالة، ولا يجرؤون حتى على وضع إعجاب على هيئة قلب أو اثنين على سبيل المثال، لكن يكتفون بالبصبصة الشرعية، ففي النهاية، هم يعتبرون أنفسهم رجالاً محترمين، يراقبون فقط.
كان لدي صديق يستطيع أن يعرف إن كانت هذه الفتاة التي تتهادي في ساحة الشيخضاهر باتجاه سوق العنابة، بكراً أم لا، وأحياناً كان يدخل في تفاصيل أعمق، لكن بالتأكيد لا نستطيع التأكد منها، إلا بإيماننا بخبرة الرجل الذي صرف عمره مراقباً ومتلصصاً
البصبصة، حاسة الذكور السادسة
في عام 1975، كتبت الناقدة السينمائية البريطانية لورا مولفي، عن النظرة الذكورية نحو الشخصيات النسائية في السينما، باعتبارها تلصصاً وشهوانية، قبل أن تكشف دراسات حديثة أن قابلية النساء للإثارة عند "التلصص" أكثر حدة، وليس حقيقياً أنهن يفضلن قارئ كونديرا أو ديستويفسكي، ولا الرومانسي ذا النظرة الهائمة، بل ذوي الجسم المتناسق والطلّة البهية، لكن ألا ينطبق الأمر على كل شيء في الحياة؟ التلصص الشهواني يسم حياة الجميع، وخصوصاً الذكور، بدرجات متعدّدة، لكن الحياة نفسها عبارة عن تلصّص مستمرّ على ما يحصل، هناك، هنا، في بيت الجيران، في تلفزيون الواقع وفي الواقع أيضاً.
"توم البصّاص" أو حسين، صديقي القديم، هو البشري في كل مكان، هو من راقب الحروب تصنع في غرف مغلقة، والعلاقات تبنى وتنتهي بكلمة واحدة، وهو من شاهد البورصات تنهار والأسهم ترتفع وتنخفض، الحروب تشتعل ثم تنطفئ ثم تبرّر، هو من شاهد "الحياة تطبع في نيويورك" بينما كان جالساً على كرسي مريح في مقهى "بن زيتي". راقبها وبصبص بعينيه الضيقتين، ثم انكفأ إلى جبلة لا يلوي على شيء.
عندما يتعلّق الأمر بالنشاط الجنسي، لا حصر للطرق التي يحصل عليها الرجال على بغيتهم، ومع ذلك، يتعلق الأمر هنا بالضرر الذي يلحق بالآخرين، وهن غالباً من النساء، فالأمر يتعدّى مراقبة الرجل نفسه وهو يمارس الجنس مع شريكته في المرآة على سبيل المثال، رغم أنها تحمل نفس الطابع من حيث اعتبار نفسه أيضاً "موضوعاً" للرغبة، أو الانفصال عن النفس والمراقبة بـ"عيني قط باردتين".
يصنّف هذا الهوس على أنه اضطراب نفسي خصوصاً عندما يسبب إزعاجاً أو تدهوراً في أداء النشاطات اليومية، وحتى لو لم يفعل ذلك. إن شخصية المتلصص تشبه إلى حد بعيد المخبر ومراقب الدوام وقاطع التذاكر وعنصر الجمارك وموظف المطار وسيكيورتي المخازن العملاقة، لكن هذه الخاصية محمية بوظيفتها وبجانبها الأدائي وبالفائدة التي تقدمها للجمهور، بينما لا يقدّم الجار الذي يقضي وقته على البلكون أو السطح، برفقة منظار صيني مقرّب، أية فائدة للآخرين، اللهم إلا لرغباته الشهوانية وفضوله النهم.
البصّاص الأول
"وَكَانَ اللَّـهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً"، "أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّـهَ يَرَى".
فحوى الإيمان: أداء تمثيلي فاشل غالباً، يقدم أمام متفرّج وحيد، لا يضحك ويفتقد لحسّ الفكاهة كالله
لا يكتفي الله بمراقبة أفعالك، ولا بإرسال مندوبي تجسّس قادرين على رصد أدنى تحرّك تقوم به، خيراً أو شرّاً، وتسجيله في تلك الصحيفة العملاقة، والتي، ربما، استعيض عنها بفلاش ميموري حالياً، لكن أيضاً يراقب أفكارك وظنونك وهواجسك.
إن غاية إيمانك به هو قبولك بأن تتم مراقبتك وأنت تؤدي دور "المؤمن"، ومعرفتك بأنك موضوع للمشاهدة على مدار الساعة، حتى وأنت تقوم بأشد أفعالك وضاعة، وهذا فحوى الإيمان: أداء تمثيلي فاشل غالباً، يقدم أمام متفرّج وحيد، لا يضحك ويفتقد لحسّ الفكاهة كالله.
تعدّدت الحكايات التي تشرح طبيعة الملاكين اللذين يراقبان أفعالك اليومية، لكن بالمجمل يتبدّى الأمر عن نظام من التجسّس والقمع والقسر تعجز مخيلة أورويل عن تبيانه أو وصفه، لكن الأمر يتعدّى الرغبة بتقويمك وإصلاح نفسك المريضة، أيها العبد السيء، و"أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ"، بل ربما ننتقل إلى نوع من المتعة الخفية التي يتحصّل عليها "المراقب" من مراقبة البشر ومعرفة من منهم/ن اشتهى زوجة جاره أو زوج جارتها، من ظهر منه/ها ما لا يفترض ظهوره، من ترك صلاته أو من قام بفعل لا يرضى عنه الرب، المراقب الأول، والبصّاص الذي لا يملّ من الفرجة، والذي يحاسبك لاحقاً إن أخذت جزءاً بسيطاً من مهامه.
تبادل أدوار
في الحقيقة البشر نوعان، إما مؤدي أو مراقب، وليس بالضرورة الاستمرار في فعل أي من الوظيفتين على الدوام، قد تكون مؤدياً في وقت ما ومراقباً في وقت آخر، على الأداء الذي يجري أمامك.
السوشيال ميديا جعلت الجميع بصّاصين. قد تظن أنك فاعل أو مؤد، خصوصاً أولئك الذين يقومون على الدوام بالإشارة إلى أخطاء الآخرين من موقع مثالي، فيقعون في وهم أنهم أنجزوا دورهم
السوشيال ميديا جعلت الجميع بصّاصين. قد تظن أنك فاعل أو مؤد، خصوصاً أولئك الذين يقومون على الدوام بالإشارة إلى أخطاء الآخرين من موقع مثالي أو بإبداء الرأي في مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية وحتى الأخلاقية، فيقعون في وهم أنهم أنجزوا دورهم الذي أناطوا أنفسهم به أو أناطتهم به طبيعة الأشياء. وفي الحقيقة هم بصاصون فحسب، مسترقو نظر، مرضى الفرجة المفتوحة، وبينهم حتى من يقوم بالإشارة إلى هذه الخاصية بالذات وينتقدها. في أحد المرات، قامت امرأة لطيفة بالتعليق على نصّ قصير لي يتكلم عن متعتي بالمشاهدة، بأني مريض نفسياً ومتلصّص، متناسية أنها لم تر هذا الجانب مني إلا لأنها راقبتني ببساطة.
دائماً ما نعيد العناصر التي كنا نخجل من إظهارها فينا للسوشيال ميديا، كيف أنها فعّلت ما كنا نتحرّج من إظهاره فينا وأعطته مشروعية في بعض الأحيان، وأيضاً موضوع الحريات التي طغت على كل لما حولها: للجميع الحق في إشهار أسوأ ما فيهم/ن، وليس لأحد الحق في الحكم على صوابية أو عدم صوابية ما يفعلون، إذ إن هؤلاء هم البشر فحسب.
الحكم على التلصص أو البصبصة يأتي من جانبين: غايتها والمصدر الذي تأتي منه، فالتلصص على الحبيب/ة على سبيل المثال محمود لأنه مصحوب بدوافع خيرية وما يسمّى بفضول الحب، أما لو أتى من جانب الزوج/ة فتصحبه الغيرة والرغبة بالامتلاك، كذلك الأمر حين نتحدّث عن رقابة الرقيب، الإلهي أو المخابراتي، وهذا ما أنجزته الميديا اليوم، في جعل الجميع يتخلون عن الكلام لصالح الأداء ومراقبة الأداء. وانتشار العلوم "الوهمية" التي تقوّي الجانب الذي يسمح لك بمعرفة الآخر دون الحاجة إلى الحوار معه، بمراقبة أدائه وهو يراقب أداءك وهكذا... إلى نهاية المسرحية التي يبدو أنها لن تكون بعيدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...