انتشر في الآونة الأخيرة منشور عبر السوشيال ميديا يقول: "أنا بكرهه من 2013، إنت كرهته لما جعت. إحنا مش زي بعض". ربما قابلت مئات أو آلاف من شاركوا صاحب المنشور رؤيته في التفريق بين المعارض من أجل الحرية والغاضب من أجل الخبز، فالخبز عندهم يعتبر مطلباً متدنياً نسبياً عند مقارنته بقيم العدالة والكرامة والحريات والديمقراطية، ربما لأنهم عرفوا مراراً شعور فقدان تلك القيم، لكنهم لم يعرفوا بعد شعور فقدان الشبع.
بالطبع المنشور لا يتحدث فقط عن عشرات الملايين من فقراء المصريين الذين يسدون آذانهم عن أهل السياسة غصباً في شكل طوعي، والأمر يتجاوز ذلك إلى "المعايرة" لمن ينتمون للطبقة الوسطى، أو ربما حتى يكون بعض المقصودين بالمنشور مشتغلين بالسياسة لكنهم لم يشاركوا "رابطة كارهي الرئيس منذ 2013" شعورهم منذ الوهلة الأولى، والمجيء متأخراً لن يشفع لهم تلك المرة، لكني سأركز أكثر في مقالي على النوع الأول "الفقراء"، لأن هناك رسالة مؤجلة يجب أن تقال، ولأنها ليست المرة الأولى التي نتفاجئ فيها بالمثقفين يسبون البسطاء، أو يحتقرون مطالبهم التي لا تتجاوز جدار المعدة إلى رقعة العقل.
انتشر في الآونة الأخيرة منشور عبر السوشيال ميديا يقول: "أنا بكرهه من 2013، إنت كرهته لما جعت. إحنا مش زي بعض"
لماذا لا يثور أولاد الفقراء؟
للفقر وجوه عديدة، أحد هذه الوجوه لا يُرى بسهولة وهو فقر المعرفة، المقصود هنا صعوبة الوصول إلى المعلومات أو الإمكانيات الحديثة التي تتيح لآخرين عالم أوسع من المعرفة، والصعوبة هنا لن تتعلق فقط بالمال اللازم لتلك العملية، لكن في الظروف المحيطة والصدفة. مثلاً، حدث في أيام الثورة أن وجّه أهل القاهرة لأهل الصعيد رسالة لوم وعتاب على هياكل قطارات الصعيد لأنهم لم يشاركوا في الثورة في أيامها الثلاثة الأولى. لم يُدرك القهراوية أن ما كانوا يرونه هناك في محيط ميدان التحرير لم يراه معظم الصعايدة من الأساس، أو شاهدوه بعين القنوات الحكومية، عدا هؤلاء الذين صدف أنهم يدرسون في العاصمة أو المشتغلين بالسياسة والذين ترددوا على هناك بكثرة وبانتظام.
لماذا لم ينتفض الصعيد يوم 25 يناير؟ لأنه لم يكن فيسبوك –حلقة الوصل حينها- قد غزا بيوت المصريين في المحافظات البعيدة عن العاصمة بالشكل الذي سيحدث لاحقاً، بالتالي مُنع الصعايدة لسنوات طويلة من الوصول إلى المعلومات والإمكانيات الحديثة التي اقتصرت، مثل أمور أخرى، على محافظات الوجه البحري، أعرف ذلك لأني عشت في الصعيد ولم أغادره إلا بعد الثورة بأربعة أعوام، لو عرف من كتب رسائل اللوم ذلك لاعتذر وتعاطف معنا وقتها، وعرف أن هناك ما يُمكن أن نطلق عليه "الفقر الثوري"، وهو كما أسلفنا، فقر الوصول للمعلومة والقدرة على متابعتها.
القصة السابقة لم تستند على فقر مادي بشكل أساسي لكن فقر الوصول، أما التالية فهي بين ذلك وذاك. حكت فتاة قصة مقابلتها صدفة لأم تبدو عليها ملامح الفقر، رفقة طفل كانت تعرض إحدى رسوماته للبيع، وعندما سألتها الفتاة لماذا لم تحاول بيع الرسومات عبر السوشيال ميديا لربح المال بشكل أسرع وأسهل، أخبرتها الأم بأنها لا تعلم كيف يتم ذلك بالضبط، والآن جرب أن تسأل نفس الأم لماذا لا تتابع أخبار الاقتصاد والسياسة وتحليلات المخبر الاقتصادي على سبيل المثال، في أفضل الأحوال، ستخبرك أنها لا تعرف من "بتوع الاقتصاد" غير مدبولي "بتاع الوزارة". القصة تضع أمام عينيك مرة أخرى "الفقر الثوري" ملطخاً بالمادي.
كرتونة الوطنية
ذلك الاحتقار غير المبالي الموجه ناحية البسطاء يُمكنك رؤيته بفجاجة أكبر في مواسم الانتخابات بأنواعها، فتجد المثقفين يلقون المسبات على هؤلاء الذين وضعوا أصواتهم رهن كرتونة مساعدات غذائية أو مستقبل عملهم غير القابل للاستغناء عنه. أرى أن هذا يحدث لأننا جميعاً لا نرى الكرتونة أو العمل بنفس العين، فمن لا تنقصه زجاجات الزيت والسكر والأرز سيترفع بالتأكيد عن الوقوع في شرك أموال الانتخابات القذرة، ومن يعمل دون خوف من فقدان عمله لأن هناك من يستطيع إعالته، سيظن أن الشخص الذي يخشي من فصله من العمل عبد طوعي، من يظن ذلك فقد فاته الأمر مجدداً.
المشكلة ليست في السمات الشخصية مثلاً التي تجعل أحدهم يتنفس حرية وآخر لا يرغب في ذلك، لكن في اختلاف العالم الذي يعيشه كلا الطرفين، وكلما كان عالمك أصعب كان إجبارك على الصمت أو عدم التفكير أسهل، لذلك تحديداً ظلّ الفقر ركناً أساسياً تحتاجه جميع الأنظمة الديكتاتورية، الفقر المادي والثوري.
بيان آخر لا نراه بوضوح عن الفقر الثوري، وتحديداً في كيفية استخدام التكنولوجيا الحديثة لزيادة الوعي، وهنا يُمكنك ببساطة تصفح فيسبوك من هاتف والدك أو والدتك، سترى أن عالمهم يختلف تماماً عن عالمك، رغم أنكم ربما تعيشون معاً في منزل واحد وتستخدمون نفس التطبيق، لأن ما شكّل العالمين ليس الرغبة في المعرفة بقدر التراكمات المعرفية أصلاً، وأيضاً، الطريقة التي يستخدم فيها البسطاء تطبيقاً آخر هو تيك توك، حيث عرض حياتهم متمثلة في أدق تفاصيلها بدلاً من عرض محتوى يعتمد على المعلومة –أي معلومة- يُخبرك أن حتى الوصول للإمكانيات لا يعني بالضرورة الوصول إلى نفس المعلومات.
لم نقصد ذلك
بعض المشاركين في حملة سبّ الجوعى تلك، سيقولون إن المقصود هم الغاضبون من ارتفاع الأسعار وليس الجوعى حرفياً، وأن الشعب الذي لم يشاركهم حماستهم ضد الرئيس الحالي منذ البداية، "لا يهمه إلا بطنه"، لدرجة أن هناك من يتهامس بالندم على مشاركته في ثورة يناير، لأن مبارك كان أفضل بالنسبة له.
ذلك الاحتقار غير المبالي الموجه ناحية البسطاء يُمكنك رؤيته بفجاجة أكبر في مواسم الانتخابات بأنواعها، فتجد المثقفون يلقون المسبات على هؤلاء الذين وضعوا أصواتهم رهن كرتونة مساعدات غذائية أو مستقبل عملهم غير القابل للاستغناء عنه
لست بصدد المقارنة بين السيسي ومبارك، وشخصياً أصبحت معارضاً للرئيس الحالي عندما منع بعض الوجوه من الترشّح ضده أول مرة، ولم أظن أني بحاجة لتدوين تاريخ موقفي هذا، لأني لم أر أن هناك قوائم لترتيب الكرامة سوف تُكتب وسأحتاج لإثبات توقيت موقفي حينها، لكني أريد أن أسترجع بعضاً مما حدث عقب الثورة، وتحديداً في الاستحقاقات الانتخابية التالية لها، نفس الشعب عندما طُلب منه اختيار نظام مختلف عن النظام السابق اتفق بأغلبية على أن يختار الثورة، لكن الثوار وقتها لم يتفقوا أصلاً، فرأينا أن أصوات الناس قد تفتّت بين حمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح وخالد علي، باعتبارهم الأوجه الثلاثة المناسبة وقتها لطرد فلول مبارك والحد من سلطة الإخوان، لدرجة أنهم مجتمعون كانوا يستطيعون حسم الانتخابات من الجولة الأولى بفارق الضعف عن أقرب منافسيهم، لكن ما حدث من تفتيت للأصوات أخرج الثلاثة من المنافسة، وحصرها بين أحمد شفيق ومحمد مرسي، هل يُمكن لوم الشعب على ذلك؟
نفس هذا الشعب الذي غدر به أهل السياسة، أصبح مطالباً مرة أخرى أن ينحاز للمثقفين والثورة، رغم ما عاناه من غياب الأمن والإرهاب ونقص الخدمات وغلاء الأسعار في العام الذي حكم فيه الإخوان مصر، الأمور أسوأ الآن –اقتصادياً- لكن عدم تحمس الناس لمهاجمة السيسي منذ البداية يُصبح منطقياً بعد حكاية الانتخابات تلك، لأن في البداية تحسّنت الأمور أمنياً، ولم نعد نسمع عن الإرهاب تقريباً بعد سنوات قليلة من وصول السيسي إلى الرئاسة، لذلك كان من الطبيعي ألا يشارك الشعب مثقفيه معارضتهم للحكم إلا عندما تسوء الأمور الاقتصادية.
الحرية والخبز
أدرك جيداً أن العالمين بأبعاد الأمور يرون العلاقة الوطيدة بين الحرية والخبز، لكنهم يرونها من ناحية واحدة، وهي أنه من أجل أحوال معيشية جيدة لا بد من الحرية التي تراقب وتعارض وتحاسب، لكن الناحية الأخرى تقول بأنه من أجل القدرة على طلب الحرية لا بد من أحوال معيشية يستطيع معها المرء المراهنة بعدم استقرار أموره وحرمانه من عمله، ورغم ذلك، فإنه عندما يبلغ السوء مداه، نجد الناس قد اتفقت على كره نظام أو معارضته، فهل من العدل أن نسخر منهم حينها لأنهم لم يمتلكوا من الرفاهية والوعي ما يجعلهم يصلون في نفس وقت وصولنا؟
لنتذكر دائماً أن فهم الناس هو الحجر الأول في إحداث أي نقاش يهدف إلى تغيير منشود، وأن الناس ليسوا الخصم، والفقر ليس مادياً فقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع