هذا المقال مهدى إلى رصيف22 من مجموعة "العدالة المائية لغزة" Water Justice for Gaza، المؤلفة من باحثين ونشطاء بيئيين من دول مختلفة. ونشر المقال في العدد الثاني للنشرة التي أصدرتها المجموعة في نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي. وصدر العدد الأول في ديسمبر/ كانون الأول تزامناً مع عقد قمة الأطراف "كوب 28" التي عقدت في الإمارات العربية المتحدة، بينما يستمر العدوان على غزة. وصدَّرت المجموعة نشرتيها بالمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار.
ضم العدد الثاني أربع مقالات كتبها باحثون فلسطينيون وكنديون وبريطانيون، تناولت استخدام إسرائيل للمياه كسلاح للإبادة الفلسطينيين في قطاع غزة عبر الاستيلاء عليها، أو تلويثها للتسبب بأضرار صحية لمستخدميها، أو حرمان أبناء غزة من حقوقهم في الحصول عليها بشكل كاف. كما تناولت التأثيرات البيئية المتوقعة في حال تنفيذ السلطات الإسرائيلية تهديدها بتلويث التربة الفلسطينية في غزة، عبر ضخ مياه البحر فيما تعتقده من أنفاق.
وينقل رصيف22 إلى العربية المقال الذي نشره الباحث البريطاني جون سيلبي، أستاذ السياسة الدولية والتغير المناخي بجامعة ليدز البريطانية.
حتى قبل الرعب الذي نشهد تفجره في غزة منذ نحو أربعة أشهر، كانت فلسطين - وليس فقط غزة - نموذجاً للإمدادات "المقلوبة" للمياه والظلم المستمر في ما يتعلق بالحق في الحصول عليها. فكر فقط في ثلاث حقائق:
أولاً: كانت غزة في يوم من الأيام واحة خضراء، منطقة تتمتع بفائض المياه المحلية والثراء البيئي. "قطعنا سبعين ميلاً من الصحراء - أمر مرهق للغاية. ليس هناك سوى المياه المالحة، وكثيراً ما لا توجد مياه على الإطلاق"، هذا ما قاله نابليون بونابرت بعد رحلته عبر صحراء سيناء في عام 1799، لكن غزة كانت مختلفة: "شجيرات الليمون وبساتين الزيتون والأراضي النضرة مثل مناظر لانغيدوك"، هكذا كتب نابليون لأحد جنرالاته. وأضاف: "مناخها قد يكون مثل مناخ باريس". لكن خلال عقود من العنف الاستيطاني والاضطهاد والفقر، تم تحويل غزة الجميلة الغنية بالثروات الطبيعية إلى منطقة كارثية بيئياً واجتماعياً.
حتى قبل الرعب الذي نشهد تفجره في غزة منذ نحو أربعة أشهر، كانت فلسطين - وليس فقط غزة - نموذجاً للإمدادات "المقلوبة" للمياه والظلم المستمر في ما يتعلق بالحق في الحصول عليها
ثانياً: على الرغم من كثافة سكانها الذين يشكل اللاجئون الجانب الأكبر منهم، كان يمكن لغزة بسهولة أن تحصل على ما يكفيها من المياه. في جميع أنحاء العالم، تضطر المناطق الحضرية المشابهة الحجم إلى "استيراد" المياه من خارج حدودها البلدية لتلبية احتياجاتها المحلية من المياه. باريس الحديثة تضطر إلى القيام بذلك. تل أبيب تضطر للقيام بذلك أيضاً. لا تختلف غزة عنهما، باستثناء أنها تُحرم من الإمداد بالمياه، إذ تُعتبر معزولة عن الأرض المحيطة بها وتتجاوزها شبكة المياه المتكاملة لإسرائيل، التي تفضل إرسال المياه إلى مزارع الألبان في صحراء النقب على حساب الفلسطينيين في غزة.
إسرائيل لا تعاني من أي نقص في المياه، بل على العكس، لديها مخزون فائض من المياه ترغب في تسويقه وبيعه - ليس فقط لغزة.
ثالثاً: ما يجعل الأمر أكثر غرابة هو أن الوضع معكوس تماماً في الضفة الغربية التي تتمتع بهطول كميات هائلة من الأمطار، ولديها موارد مائية طبيعية بمقدار أكبر بكثير من غزة، لذا يمكن للضفة الغربية بسهولة التحكم في المياه من دون الحاجة إلى استيرادها من مكان آخر. وبسبب القيود الإسرائيلية على حفر الآبار في جميع أنحاء الضفة الغربية، لا يوجد أمام الفلسطينيين خيار سوى شراء واستيراد معظم مياههم من إسرائيل نفسها.
"قطعنا سبعين ميلاً من الصحراء - أمر مرهق للغاية. ليس هناك سوى المياه المالحة، وكثيراً ما لا توجد مياه على الإطلاق"، هذا ما قاله نابليون بونابرت بعد رحلته عبر صحراء سيناء في عام 1799، لكن غزة كانت مختلفة: "شجيرات الليمون وبساتين الزيتون والأراضي النضرة مثل مناظر لانغيدوك"
هذا العالم المقلوب يُجبر رام الله - حيث تمطر السماء أكثر من لندن- على استيراد المياه، ودفع ثمنها لإرسالها صعوداً من إسرائيل. على النقيض، يُجبر هذا العالم المقلوب غزة، الأرض التي لا يمكن لسكانها الحاليين (2.3 مليون نسمة) الاعتماد بشكل على مواردها المائية الداخلية، على الاكتفاء بتلك المياه فقط.
إسرائيل لا تعاني من أي نقص في المياه، بل على العكس، لديها مخزون فائض من المياه ترغب في تسويقه وبيعه - ليس فقط لغزة. هذا الواقع العنصري تم إرساؤه في التسعينيات، في أوج "مزاعم" السلام
في كلتا الحالتين، فإن نظام الفصل العنصري في المياه تسبب في تدمير الموارد المائية والفقر المائي وازدياد اعتماد الفلسطينيين خاصة في قطاع غزة على المياه الجوفية التي تعاني الملوحة والتلوث، ومع جفاف الينابيع يضطرون إلى الاعتماد على "كرم الضيافة" الإسرائيلي وكرم المانحين. كما ينعكس الفصل العنصري في إمداد المياه على القطاع الزراعي الفلسطيني الذي يعاني تراجعاً، وتترك مجتمعاتُه بدون مياه تكفي لتلبية الاحتياجات المنزلية الأساسية - كل ذلك بجوار إسرائيل، حيث المياه بوفرة.
والأهم من ذلك، تم إرساء هذا الواقع العنصري في التسعينيات، في ظل ظروف التعاون والسلام المزعومة.
إن الحاجة إلى العدالة في المياه لفلسطين أمر مسلم به. لكن هذا لن يتحقق إلا من خلال تفكيك كامل لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي الذي لا يزال يلقى دعماً. وفي حين أن وقف حملة الإبادة الحالية التي تشنها إسرائيل هو - بالطبع- الأولوية الفورية، فإن تحقيق العدالة في المياه لفلسطين سيتطلب الكثير… الكثير جداً.
*جان سيلبي، أستاذ السياسة الدولية والتغيّر المناخي في جامعة ليدز، المملكة المتحدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي