شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
عاطف أبو سيف راوياً حياة الغزاويين وموتهم

عاطف أبو سيف راوياً حياة الغزاويين وموتهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

منذ تصوير العدسات في الطائرات الحربية الأمريكية المغيرة على أهدافها المُعْلَمة بخطين متصالبين (علامة الجمع الحسابية)، في الكويت، ثم في جنوب العراق، عام 1991 وحرب الخليج الثانية، والحرب المصورة و"الحية" من لوازم الإعلام المتلفز، أو الإعلام من غير صفة خاصة أو تعريف. يومذاك، خصت القيادة العسكرية الشبكة الوطنية "سي.إن.إن" ومراسليها وشاشاتها، بصورها الرمادية والغائمة، على شاكلة الشريط الذي يسبق التظهير، ويقتصر تدوينه المرئيات على مزاوجة الضوء والعتمة (على درجاتهما)، وعلى وصف انفجارات المباني والمركبات والجسور، وتحتها الناس.

وعلى هذا، حجبت عدسات آلات التصوير وعيونها المفتحة والفاغرة، أول حرب حديثة، فوق حرب فيتنام، صاحب تصويرُها حدوثها المادي والزمني، وعاصره معاصرة وصفت بالحية، على سبيل الطباق، أو الضد والعكس الساخرين والمريرين. ولم تبخل الحروب الطويلة، الأهلية في معظمها و"العربية" (لبنان والجزائر وسوريا وليبيا واليمن... إلى الأفغانية والباكستان والميانمارية...) على التصوير المشهدي و"السينمائي"، وبعضهم يقول: لم تبخل على الفرجة، بصور أو مشاهد فوتوغرافية حادة ونافذة.

فلا تزال الأم الجزائرية الثكلى في منتصف "العشرية السوداء"، ووالدة ثمانية أولاد قُتلوا معاً، أو الأم الحزينة المريمية (بنت عمران، والدة عيسى أو يسوع ابنها)، ولا يزال الولد السوري، أحمد الكردي، الراقد في ثياب حضانة الأطفال الملونة على رمال الشاطئ التركي- يتردد صداهما، صدى الصورتين، في ذاكرة الناس. وصورة الولد أحمد أسهمت يومها، في 2015، في فتح أبواب ألمانيا آنجيلا ميركل (2005- 2021) في وجه هجرة سورية "تسونامية"، إذا جازت العبارة.

ولا شك في أن الصورة الفوتوغرافية والتلفزيونية، والسينمائية التوثيقية، على وجه آخر، تلاحق الوقائع، وفي وسعها محاصرتها، والاقتراب من دقائقها وتقريرها (على المعنى البوليسي أي الحمل على الإقرار) صفاتها ومعانيها، وربما اختصار هذه في حركة أو عبارة أو شارة. فبعد أطنان الأشرطة الأمريكية التي صورت في فيتنام، التلفزيونية والسينمائية الروائية والتوثيقية (وهي لم تنقطع إلى اليوم)، يكتب الروائيون، الأمريكيون والفيتناميون الأمريكيون من بعد، قصصاً وروايات تتناول الحرب اللعينة والدامية التي توسطت "الحرب الباردة" وكذّبت "برودها". ولم تستنفد الصحافة المرئية والورقية الكتابية، رغم غزارتها وكثافتها وجودة بعضها، وقائع الحرب الروسية- الأوكرانية، الموشكة على قضاء عامين من عمرها الأسود. فتعاقبت على الصدور كتب كتّاب وكاتبات أوكرانيين وروس وفرنسيين. ولم تحل صور بوتشا- البلدة الأوكرانية التي خلف الجنود الروس المنسحبون من طرقاتها صور أهلها القتلى بالقرب من دراجاتهم. وعلى أبواب منازلهم وحوانيتهم- دون تناول "أهوال الحرب"، على قول رسامها الإٍسباني الكبير فرانشيسكو غويا (1746- 1828)، كتابة.

تدوين ذاتي وموضوعي

أي ثمة فائض يتخلف عما يسميه الإعلام "تغطية"، ويصفه بالشمول. فيكتب "تغطية شاملة" أو "تغطية مستمرة". ويعني بالصفتين السائرتين التمام والإحاطة. وهذا الفائض، أو البقية التي لا يأتي عليها التصوير، ولو على مدار الساعات الأربع والعشرين، وهو ما قد تطمع الكتابة أو تنوي وتريد تناوله. ووصف هذه الكتابة بـ "الأدبية"، أو بـ "الروائية"، لا يدل دلالة واضحة على نوعها، ولا على قصدها. وافتراض أن موضوعها، أو دائرتها وحيّزها، هو الفائض الذي لا تتناوله الصورة الحية ولا التعليق الشفهي الذي يصحبها ويشرحها، يقتضي التحقق منه في كل مرة، وكل حال على حدة.

منذ 19 تشرين الأول/ أوكتوبر 2023، يكتب الروائي الفلسطيني، (ووزير ثقافة "السلطة" أو دولة فلسطين، عرضاً) عاطف أبو سيف، في صحيفة العربي الجديد، يوميات الحرب في غزة. يوميات كُتبت على مثال القَصَص التقليدي، مع مقدمة وعقدة وحل، ودارت على "بطل" فرد يجمع حلقات الحكاية حوله وعليه، لكان الموت المتربص البطل الأول والوحيد

ومنذ 19 تشرين الأول/ أوكتوبر 2023، يكتب الروائي الفلسطيني، (ووزير ثقافة "السلطة" أو دولة فلسطين، عرضاً) عاطف أبو سيف، في صحيفة العربي الجديد، يوميات الحرب في غزة. وبلغ عدد الحلقات التي قرأتها 32 حلقة. ونشرت هذه في عدد اليوم الأول من السنة 2024. وتتناول الحلقة يومية 29 كانون الأول/ ديسمبر 2023، أي يوماً واحداً سبق ليلة رأس السنة، واتفق وقوع فيه يوم ولادة ابن الكاتب، واحتفال الأقارب، نحو عشرين من بني العمومة، أعماماً وعمات. وبعض الحلقات أو معظمها يروي وقائع يومين (الحلقة 31 على سبيل المثل، أو الحلقة 10). ويعقب نشرها تاريخ كتابتها المدون بيومين أو ثلاثة.

ويفصح هذا التوضيح عن قصد الكاتب الفلسطيني تدوين سجل شخصي وذاتي ومباشر للحوادث والوقائع، لا يُنقِص من "موضوعيته"، ولا من تقريره المشهد، صدوره عن راوٍ يشدد على ذاتية ما يروي، ويعلنها. وبعض حجة الكاتب أنه يتشارك الشهادة مع آخرين حاضرين لا يفوت أبو سيف إسم واحد منهم، الأحياء طبعاً، والأموات القتلى ("الشهداء"، جرياً على اصطلاح عام أهلي وأخلاقي متعارف، وواسطةً إلى نعت الحرب بالعدوان الظالم، والصبر عليها بالشهادة للحياة والكرامة).

ومن هذا الوجه، الشخصي والذاتي والمعيّن الموضعي، يزاود المخبر (على معنى الصحافي المهني) على الإعلامي التلفزيوني الذي يستعمل الصورة أو الفقرة المصورة والمكررة، تمثيلاً على ما يقول أو عيِّنة مادية معينة، وهو يكرر في مواضع كثيرة أنهم- الكاتب وبعض إخوته أو أخواته، أو أبنائهم وبناتهم وجيرانهم وزوارهم- جلسوا، وأصغوا إلى الراديو أو شاهدوا التلفزيون، إذا أسعفهم الحظ وسرى التيار الكهربائي في الأسلاك والمقابس، ولكنه لا ينقل عما سمع أو شاهد شيئاً.

وما عدا الأخبار السياسية الشائعة والمتداولة عن زيارة وفد من "حماس" إلى القاهرة، غداة أسبوع وقف إطلاق النار في الخمس الأخير من تشرين الثاني/ نوفمبر، ومناقشته شروط وقف آخر، مَنّى الكاتب نفسه به أماني حارة، تعمد القصّ الاقتصار على الخبر عن شاهد مرئي أو مسموع. فيكتب في الأول من كانون الأول/ ديسمبر: "اليوم يوم تعبئة الماء، فيما أنا نائم أسمع صوت الجلبة على الدرج، وصوت الشبان والأطفال ينادون ويصرخون ويتجادلون، وهم يحملون الدلاء والغالونات الصفراء، ويصعدون إلى السطح" (حيث الخزانات الجامعة).

وفي الطريق إلى غزة، المدينة، هو القادم من جباليا، موطنه ومسقطه وملعبه ودنياه الأولى- على قوله في مواضع متفرقة من يومياته- كان "بائعو الخضار وطابور الخبز وطابور الماء (يقولون) إننا في مدينة تحت الحرب (و) كان العشرات يصطفون قرب الصراف الآلي لبنك فلسطين، (من يومية 20 تشرين الأول/ أكتوبر). ومثل هذه المشاهد البانورامية كثير في تدوين صاحب "اليوميات": الطرق والأسواق التي تعج بالناس، والمخيمات الجديدة والمديدة إلى الأفق أو إلى البحر، والمباني المهشمة والمتهالك بعضها على بعض، والساحات المستوية مع الأرض على مستوى واحد، وصفوف السيارات التي تخطو خطو أو حبو الولد، وأكوام الجثث على أبواب المستشفيات.

هذه البانوراميات تتقاسمها الأخبار والمشاهد اليومية والمكتوبة مع إعلام الشاشات. وقد تفوق الشاشات الوصف المكتوب دقة وإحاطة. ولكن ما يفوت الشاشات، وتعجز عن تناوله، هو ما يلازم رواية الوزير الروائي في معظم فقرات سرده. وهذا ظاهر في الشاهدين المقتطفين للتو. فمراحل تعبئة الماء، وآلاتها، و"أبطالها"، ووقتها، وأصواتها، واتفاقها مع يقظة الراوي من النوم، هذه كلها تسلكها اليومية في سلك (يجعل منها) شعيرة. والشعيرة "يوم". واليوم وحدة زمن تلي وحدات، وتسبق وحدات، وتؤذن بها، وتدعو إلى انتظارها، وإلى توقع مجيئها في أحلك الأوقات، كتلك التي نذر عاطف أبو سيف ذاته وكلامه للتحديق فيها تحديقه في الموت المُحْدِقِ من خلال الجفون التي لا تني ترف وتعمي عن الرؤية.

والموت مخيم على أخبار "اليوميات". ولو أن "اليوميات" كُتبت على مثال القَصَص التقليدي، مع مقدمة وعقدة وحل، ودارت على "بطل" فرد يجمع حلقات الحكاية حوله وعليه، لكان الموت المتربص البطل الأول والوحيد (في أوقات دون أخرى). والكاتب لا ينفك يبدي ويعيد في مكانته و"سيادته": فهو يسميه "سيد المدينة" (يومية 2/11)، مردداً ربما صدى قول باول تسيلان (1920- 1970) الروائي الألماني في لحن الموت: "الموت معلم قادم من ألمانيا". فإذا انسلت شعيرة إلى سلسلة الحوادث اليومية، وحملت معها إيقاع وقتها وعوده الدائري، نحّت الموت جانباً، وحالت بينه وبين سد الأفق، وصدعت جداره أو فتحت كوّة في الجدار. ويتضافر على هذا الفعل الأولاد الفتيان، والماء، والخَزْن ليوم جفاف أو حاجة.

وإذا باشر وصف مشهد عريض، بانورامي، مَزَج البانوراما ونحوَها النمطي بتفاصيل تخصّص المشهد وتعيّنه وتسميه، فهو يزور حارة الفالوجا، في مخيم غزة الغربي، ويمشي في الشارع بين محلة أبو شرار وبين دوار الشهداء الستة، أو الطريق النازل من جهة البحر نحو دوار السكناجي، فيكتب: "سقطت كل أسلاك الكهرباء على الطريق، وتعلقت في الفراغ شرفة نصف مدمرة، وإلى جنبها عمود باطون يتدلى على أطراف البناية العلوية، وتطل زاوية سور فيها نافذة، على خراب".

لا يسود أو يتسيّد الموت (على) المدينة، على خلاف زعم عاطف أبو سيف في مواضع من "يومياته"، وعلى رغم آل الحرب الساحقة التي يُعملها في لحم الغزاويين وعمرانهم. وبين موت وموت، وبين دفن ودفن، "لائقاً"، كان الدفن أم غير لائق، على قول الراوي في الحزن على من لم يبق منهم جثمان واسم يُحمل إلى المثوى الأخير، يحتفل الأحياء، في ظل القتل المخيم، بذكرى ولادة واحد منهم. ويوقدون ناراً كبيرة، ويصنعون شكشوكة في قِدْرٍ "كبيرة جداً"، "ربما أكبر مقلاة في المخيم حولنا" في رفح

مقارنات

فيقارن صوغُ الخبر العادي، من غير تنبيه، بين مكان أول متماسك، لم يفقد جهاته ولا علامات هذه الجهات وترتيبها وعلاقاتها بعضها ببعض وأسمائها، وبين مكان ثانٍ، ولدته (إذا جازت العبارة) الحرب. فقطعت أوصاله، وعزلت أبعاضه وأجزاءه بعضها عن بعض، وأبطلت جهاته ووصلاته. والمكان الأول، المتصل والمرتب، معنوي ونفسي، ويقيم في الاستعمال الاجتماعي والمشترك، وفي التصورات وعادات الجسد المكتسبة، وفي الاستجابات والانفعالات. وهذا نظير تذرير (الحل إلى ذرات) الدمارِ الحربي العمرانَ، المبانِيَ والمَرافِقَ والأهل معاً.

وتلي المقارنة المكانية والعمرانية مقاربة زمنية، فشارع البحر كان، قبل التدمير الذي أحاله خراباً من غير بنية أو منطق، "الطريق إلى الموج الغافي في عب الماء". وكانوا، الراوي (وهو ولد) ورهطه، يمشونه "سيراً على الأقدام من المخيم إلى البحر، وسط أشجار الغابة والرمال الصفراء في ذلك الوقت".

وثمة مقارنة ثالثة- مضمرة، شأن الاثنتين المكانية والزمنية- طبيعية أو كونية، تمتّ بقرابة إلى صنيع الحرب في العمران. فهذه، الحرب، لا تصيب الناس في الليل والنهار على نحو واحد أو صورة واحدة. يكتب أبو سيف: "والليل أشد ما نخشى ونخاف، ففيه نموت في مجموعات كبيرة، وفيه يعلو القصف ولا نرى شيئاً، ونسير في ظلمته، نبحث عن بقايا جثثنا الممزقة والموزعة في الأزقة الضيقة (...) نرقب النهار الذي يكون أقل وطأة، لأننا نرى ما حولنا، ونمشي قليلاً فنسمع الآخرين ونتبادل معهم ما يعرفون من أخبار سيد المدينة، ونعرف أين تقف الدبابات، وأين مكان القصف قبل قليل".

الدخول والملابسة

ولا يقتصر عمل "اليوميات" على التفصيل والتقريب والتخصيص والمقارنة (على وجوهها وأنواعها). وشرط هذه كلها حمل الرواية على راوٍ فرد، و "ذاتٍ" تجلو ما ترويه في مرآتها، أي فيما تراه وتسمعه وتخافه وتذكره وتتوقعه، هي و "أهلها"، ومن تكلمهم ويكلمونها، وتمر بهم عرضاً ويقصدونها، إلخ. وتجني "اليوميات" من هذا- ويكاد كاتب هذه العجالة يقول: تجني الحرب، موضوع "اليوميات"، من هذا- دخول الحياة في الموت، وملابستها له، وتقلبه في أحضانها، على نحو قلما يؤديه العمل التسجيلي أو التوثيقي الخام، أو قلما يعيره انتباهه.

فراوي سقوط أطنان الإسمنت المسلح بالحديد على الرؤوس الطرية، وطحنها الوجوه والأعناق والجوارح، وخلطها قسمات القتلى ومعالمهم فلا يتعرف عليهم أقرب أقربائهم (ما حمل بعض الفتيان والأولاد والشبان على كتابة أسمائهم وعناوينهم وأرقام هواتفهم على جلد أحذيتهم الداخلي، أو على ورقة دسوها بين النعل وبين قعر الحذاء)- راوي هذا لا تفوته رواية بعض "الأفراح" القليلة. فأحد أقاربه أو جيرانه أبو نبيل فقد معظم عائلته تحت الركام لتوه، ويجلس على الرصيف القريب ويندب "أولاده وبناته وأحفاده". ويجلس عاطف أبو سيف قربه، معزياً و"متضامناً".

وأهل الشارع الذين لم يقتلهم القصف ينتظرون، في الأثناء، "موتوراً يغذي مقصاً كهربائياً يعمل في الحديد والقواطع"، ويمكّن من انتشال جثمان يوسف، ابن نبيل وحفيد أبي نبيل. من الكوة التي حفرها سقف المبنى الساقط. وبينما يقص المقص الكهربائي شبكات الحديد، ويفتح طريقاً في طبقات الركام، ظهرت أطراف "يبدو أنها لجثة طفلة (...) قال أحدهم فرحاً"، (يومية 20 تشرين الأول/ أوكتوبر).

وفي دوامة هذا العيش المهدد والمتقطع والتائه على وجهه، يسأل صاحب "اليوميات" نفسه عن جوازه لبسه شورتاً طويلاً، يغطي معظم ساقيه إلى ما تحت الركبتين، في زيارة إلى مستشفى. ويقول في نفسه: "ربما كان هذا ممكناً في الحارة وبين أبناء العائلة (...) ولكن قد لا يبدو لائقاً في المستشفى المليء بالسيدات والصبايا والرجال والأطفال" (اليومية السابقة نفسها). ويجيبه محمد، أحد إخوته: "لا أحد يلاحظ (الشورت)، هذه حرب، وفي الحرب كل شيء ممكن". ودليل محمد على جواز "كل شيء" في الحرب، احتذاؤه هو الرجل، حذاء زوجة أخيه، عاطف، القديم، جراء تعبه من احتذائه بوطه القديم طوال أسبوعين كاملين. ويخلص المُحِلّ، من أفتى بالحلال والجواز، إلى أن "أحداً لم يلاحظ ذلك".

ولا يرى الكاتب هذا الرأي. وأنا أفترض الأمر. ولا يعرب عن رأيه في صيغة الرأي أو الحكم الآخر. فيروي أو يلاحظ أن السيدات الغزاويات ينمن "معظم الوقت بالملابس كاملةً، ويضعن غطاء الرأس بجوارهن تحسباً لحدوث قصف واضطرارهن للهرب من المنزل فجأة (...) أو إذا باغتهن الموت وهن نائمات، تكون أجسادهن مستورة..." فالموت، وإن قتلاً وعنوة وفجأة، لا يعفي الناس الذين يروي الغزاوي يوميات حياتهم وميتتهم من تبعتهم أو مسؤوليتهم عن هيئاتهم التي يتهيأون بها بعد مماتهم. وهو ينقل هذا بعد تأمّله في حاله، وحال جسده، بعض مقتله في الحرب الدائرة: "لا أعرف كيف سأموت، أو ما إذا كان جسدي سيظل سليماً أصلاً إذا وقع عليه سطح بناية، أو حمله الانفجار عشرات الأمتار في الهواء...".

السيرة

فلا ينفك القتيل في "اليوميات" وبعد مقتله، يتناول سيرته كلها ومماته على وجه حياة تامة ومتصلة، لا تبدأ بولادته ولا تختتمها ساعة وفاته. وحين يخبر الكاتب عن وفاة قريب أو جار أو مقيم بحي، ولا يتناول النعي فرداً واحداً بل يشمل على الدوام عشرات الأهل، يُتبع الخبر ببعض سيرة من ينعيهم. وهو غالباً الفصل الأخير من سعيهم: إعدادهم الطعام الذي كانوا يعدّونه لعشائهم، أو تركهم المنزل الذي حسبوه غير آمن إلى بيت حسبوه آمناً وقُصف بعد ساعات من انتقالهم إليه...

فلا يقصر الراوي الحياة على حدّي الولادة والموت العريضين والقاطعين، وينتزع ما وسعه فئات الحياة الضعيفة، أو تكهناتها وتخميناتها المتهافتة، من دائرة الموت، ويقحمها في دوائر الحياة. ويشرف على السيرة، بعد ختامها، من تطلعات حياتها ورهاناتها. ويحاول وصف ما تصنعه كتابته هذه في ضوء ما يختبره من نفسه، فيقول: "تقفز من لحظة إلى لحظة (...) هكذا لا يعود للوقت أهمية، لأنه يصبح هدفاً وغاية (...) وليس إطاراً عاماً للحياة..." (يومية 4 تشرين الثاني/ نوفمبر). وتخالف كتابة "اليوميات" "القفز" هذا، ولكنها لا تقنع بالوقت إطاراً، فتوكل إلى أهلها، البشر، السهر، إلى الرمق الأخير وما بعده، على نسيج خيوط وقتهم.

وفي دوامة هذا العيش المهدد والمتقطع والتائه على وجهه، يسأل صاحب "اليوميات" نفسه عن جوازه لبسه شورتاً طويلاً، يغطي معظم ساقيه إلى ما تحت الركبتين، في زيارة إلى مستشفى. ويقول في نفسه: "ربما كان هذا ممكناً في الحارة وبين أبناء العائلة (...) ولكن قد لا يبدو لائقاً في المستشفى المليء بالسيدات والصبايا والرجال والأطفال"

وعلى هذا، لا يسود أو يتسيّد الموت (على) المدينة، على خلاف زعم عاطف أبو سيف في مواضع من "يومياته"، وعلى رغم آل الحرب الساحقة التي يُعملها في لحم الغزاويين وعمرانهم. وبين موت وموت، وبين دفن ودفن، "لائقاً"، كان الدفن أم غير لائق، على قول الراوي في الحزن على من لم يبق منهم جثمان واسم يُحمل إلى المثوى الأخير، يحتفل الأحياء، في ظل القتل المخيم، بذكرى ولادة واحد منهم. ويوقدون ناراً كبيرة، ويصنعون شكشوكة في قِدْرٍ "كبيرة جداً"، "ربما أكبر مقلاة في المخيم حولنا" في رفح. وجلس حول نار القدر نحو 20 شخصاً، في اليوم الثاني والثمانين للحرب. وضحك المتحلقون، وأصابتهم الخشية من ضحكهم. ودارت الأسئلة عن فلان وابن فلان، وفلانة وبنت فلانة. "وهذا يعني أننا غرقنا في الحزن مرة أخرى". وفي آخر السهرة نام صاحب العيد "من دون مخدة". فاقترح الوالد، وهو الكاتب، على ابنه اتخاذ حذاءيه مخدة، وسوغ اقتراحه بالقول: "لا يجوز في عيد ميلادك أن تنام بلا مخدة، على الأقل حتى لا تقع أحلامك على الأرض". ولا ريب في أن إيليا سليمان، السينمائي الفلسطيني، أو روحه رفرفت في المكان.

ويولد الضحك، الخالي من المرارة، من دمج الأحلام في الرأي وحشوها فيه، ومن الترجح بين معنيي الرأس: مَلَكة الحلم والجزء المادي من الجسد. وتجاور رواية "اليوميات" بين الأخبار والمعاني على مثال قريب من هذا. فهي (الرواية) لا تحمل الخبر على معنى واحد، ولا تردّ على رأي برأي ينقضه. فتروي الخبر بعد الآخر، وإلى جنبه أو في سياقه، وتخلي بينهما، أو بينها، وبين موازنة القارئ، وترجيحه المؤقت، والعودة عن الترجيح إذا شاء.

وقد يخرج القارئ من عالم "اليوميات" الطاغي إلى عالم الإعلام ورواياته وأخباره ونثره. فينتبه إلى أن الحرب التي تهب على غزة حرب بين معسكرين وحزبين ودولتين وجيشين، وأن بعض أهل غزة يقاتلون ويَقتلون ويُقتلون. ولا يلوح أثر لهم في ثنايا القص. ولا يتراوى الناس خبراً عنهم. وهم من الناس طبعاً، وبينهم وبين الأحياء الذين يروي عاطف أبو سيف مَحياهم ومَماتهم، ويدخل حيُّهم في ميِّتهم، على القول القرآني، روابط نسب حميمة. ولا يرد ذكر 7 تشرين الأول/ اوكتوبر في طول "اليوميات" وعرضها. كأن أنفاق "المفاعل النووي"، على ما يسمي أهل غزة شبكة أنفاق غزة التحتية، ابتلعتهم أو أخفتهم. أو هي شقت الحرب شقين: واحداً مميتاً وآخر محيياً، على خلاف "اليوميات".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard