شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
في الوطن أكرهها، في الغربة أحبها

في الوطن أكرهها، في الغربة أحبها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 10 مارس 202311:00 ص

لم تخلق مني الغربة إنساناً جديداً فحسب، بل جعلتني شخصاً آخر لم ألتقهِ يوماً، فلم يجمعني به لقاء عابر في جامعة، ولا رافقت خطواتي خطواته إلى البحر. لهذا يمكنني القول: إن الغربة جعلتني إنساناً لا أعرفه.

لا العادات التي بتُّ أستمتع بالقيام بها هي عاداتي، ولا الأفكار المحشوة بالحنين والحب كانت يوماً ما رفيقة سهري، فبعد مرور سنة كاملة بعيداً عن الوطن، أتذكر الآن كلماتي لأصدقائي: إذا خرجت لن أعود أبداً، لن أحنّ أبداً. وكم كنتُ كاذباً، فها أنا أحنّ بكلّ ما فيّ من جوارح، وأفضّل ليلة واحدة رفقة الأصدقاء في خانيونس (تحديداً عند دوار أبو احميد، حيث يتجمع الناس والفقراء والشحادين والدعاة)، عن عشر ليالٍ كاملة في كاديكوي بإسطنبول.

الحنين كفن للبقاء

منذ خرجت من غزة عام 2021م، لم أشعر بهذا الحنين الذي يدقّ باب قلبي هذه الأيام. لقد أصبحَ صوت الدقّ أكبر من قدرتي على التجاهل، فلم يعد بإمكاني إكمال حياتي على نحوٍ طبيعي دون الالتفات إلى الخلف. حتى أصبحتُ أضع "الحنين إلى البلاد" في المرتبة الأولى كإجابة مريحة عند إلحاح الأسئلة الوجودية، أهرب بها من اللاجدوى والعبث الذي ينهش الأيام هنا في إسطنبول.

بتُّ أفكر في غزة وأنا ذاهب إلى العمل في الصباح، وأنا أشتري قطعتي "كشارلي" من المخبز المجاور للعمل، وأنا أجلس على اللابتوب مشهرا كلماتي لجمع القليل من المال، وأنا عائد في المساء وخطواتي أثقل من الريح الحزينة، وأنا تحت الدش، وأنا أفكر في كتابة قصة جديدة، ما جعلني أقتنع بما كتبته في 2017 عن الحنين، حين قلت: "ولسنا سوى قطع حنينٍ مركبة على هيئة جسد".

لم تخلق مني الغربة إنساناً جديداً فحسب، بل جعلتني شخصاً آخر لم ألتقهِ يوماً، فلم يجمعني به لقاء عابر في جامعة، ولا رافقت خطواتي خطواته إلى البحر. لهذا يمكنني القول: إن الغربة جعلتني إنساناً لا أعرفه

لا أعرف كيف تسلل هذا الحنين متجاوزاً كلّ الماضي الذي حملته لفترات طويلة على ظهري. لا أعرف كيف تجاوز المنظومة الاجتماعية التي وصلت إلى حدٍّ خطيرٍ من التطرّف الفكري والديني، ولا أعرف كيف تجاوز صوت الزنانة الذي يقضي على أي فرصةٍ للاستمتاع بأجواءٍ صافية لخمس دقائق فقط، ولا أدري ما الذي استعان به ليعبرَ خوفي الشديد في الحروب الأربعة التي حضرتها، والتي شعرت فيها بكل نقطة دمٍ شربتها الأرض، وكل صرخة أم عبرت إلى أذنيّ.

أكبر من مجرد وطن

يرتبط الفلسطيني بالوطن بطريقةٍ عجيبة، يصعب فهمها أحياناً، وهذا عزائي الدائم حين أغرق في الحيرة، ولا أستطيع تحديد شعوري تجاهه. هل أحب هذا الوطن الذي نشأت فيه وأمتلك فيه ذكريات تكفي لتشييد مدينة كاملة؟ أم أكرهه لأنني لم أشعر فيه يوماً بالأمان الذي يشعره أيّ شخصٍ في المكان الذي بدأت فيه حكايته مع الدُنيا؟ هل أحبه لأنه الملجأ الآمن للذكريات المحملة بالأم والأصدقاء والطريق إلى المدرسة والحب الأول؟ أم أكرهه لأنه غصّة في ذاكرتي، ومشاهد دمٍ ودمارٍ لا تقطعها إلا مشاهد حمراء أخرى؟ وفي كلّ مرة كنتُ أُرجِعُ عدم قدرتي على الإجابة، إلى علاقتي العجيبة بالوطن، المبنية في الأصل على التناقض.

"وأخيراً أريدكِ أن تخبريهم بأنني أحبّ غزة وأشتاق لها جداً... لكنني لن أعود".

فعندما يتعلّق الأمر بفلسطين، تسقط جُملة نجيب محفوظ الشهيرة: "وطن المرء ليس مكان ولادته، ولكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب"، تُصبح متناقضة وغير صحيحة، فلقد كانت كل محاولاتي كفلسطيني للهروب سابقاً - قبل الخروج من فلسطين - ما هي إلا محاولات للعودة إليه وامتلاكه، وما زالت هذه المحاولات مستمرة بعدما قضيت سنة ونيف في إسطنبول. لهذا، يُمكنني القول: إن فلسطين أكبر من مجرد وطن، وإذا أردتُ وصفها، فسيكون ملجأي ما قاله الشاعر البحريني مهدي سلمان: "يا لرطوبة هذا الوطن، كعرق خجل الحب، رغم الرقة اللامتناهية فهي تجعلك تختنق".

نخرج من غزة لكنها لا تخرج منا

حملَ الفصل الأول من روايتي الوحيدة "ممحاة السيد أزرق" عنواناً، يقول: "نخرج من غزة لكنها لا تخرج منا". كُتبتُ الرواية عام 2017، وعلى الرغم من ندمي على كتابتها، إلا أن الشيء الوحيد الذي لم أندم عليه إلى الآن، هو كتابتي لكلمات هذا العنوان، فإنه يُعبّر عني بكلّ ما فيه مِن حقيقة وازدواجية لشخصٍ كان يبحث عن النجاة، تلك التي لوّحت له من بعيد... ولمحها فذَهَب.

أما ما دفعني للخروج، فأشياءٌ كثيرة تختلف تماماً عن تلك التي يصنع منها بقيّة جيلي سلماً لعبور النهر، فعلى سبيل المثال: لم تكن الحالة الاقتصادية السيئة لغزة سبباً في مغادرتها، وعلى الرغم من ضيق المكان جغرافياً، إلا أن الجلوس أمام البحر كان يمنحني فسحةً لا بأس بها.

كانت كل محاولاتي كفلسطيني للهروب سابقاً - قبل الخروج من فلسطين - ما هي إلا محاولات للعودة إليها وامتلاكها، وما زالت هذه المحاولات مستمرة بعدما قضيت سنة ونيف في إسطنبول. لهذا، يُمكنني القول: إن فلسطين أكبر من مجرد وطن

ولكن الأمر تعلق عندي دائماً بالتفاصيل الصغيرة، تلك التي ربما لا تهم أيّ شخص من الذين هاجروا إلى بلادٍ أخرى. تلك التفاصيل التي تأكل النفس على مَهل، كصوت الزنانة - طائرة مسيّرة تابعة للاحتلال الإسرائيلي - الذي لم يفارقني ساعة واحدة طوال حياتي، وطريقة الناس في القول والعمل، حيث بدأت في تحويلي إلى شخصٍ آخر لم أكن أعرفه ولا أرغب فيه أبداً. ولعلني من الذين تأثروا بشكلٍ لا محدود من الحصار النفسي والاجتماعي والثقافي الذي تمت ممارسته على قطاع غزة، سواءً من الخارج أو من الداخل. ولكنني رغم ذلك، كنتُ أحتفظ بغزة متكاملة كما رسمتها يوماً في خيالي، وكنتُ دائم السعي للعودة إليها، لهذا عندما خرجتُ منها لم تخرج مني.

الكره كأقصى درجات الحب

"حين وطأت قدماي أرض المعبر، شعرتُ كم أحب غزة، أحسست أنني كنتُ من شدة حبي لها أكرهها!". هكذا كتبتُ ذات يومٍ في قصةٍ حملت اسم: "من يعود يخسر نفسه مرتين"، واصفاً مشهد الخروج من الوطن وإحساسي تجاهه. كنتُ أعرف أن كل الكره الذي أحمله في قلبي ما هو إلا حب كبير، حب لا يمكن للأيام أن تحدّه أو توقفه، إنه يمشي بالتوازي مع العمر، يكاد كل منهما لا يتحرك إلى الأمام/الخلف إلا مع الآخر.

وما أصبح يزعجني في الأيام الأخيرة، هو اختفاء قشرة الكره عن كرة هذا الحب الكبير، ما جعلني غير قادر على كتم مشاعري أكثر من ذلك، غير قادرٍ على إنكار الاشتياق، ومتصالحاً تماماً - نظرياً ونفسياً - مع كل الأسباب التي أجبرتني على الخروج من البلاد، كأنني نسيت كل ما حدث هناك، نسيت اهتزاز البيت من الصواريخ، وأشلاء الضحايا الذين حملتهم بيديّ، وصوت الزنانة الذي "يأكل رأسي"، كما قال الكاتب عاطف أبو سيف.

نسيتُ الخوف والقلق وتشدد المجتمع وأفكاره الغريبة، نسيت الرغبة في الخروج الأبدي، وأصبحت البلاد التي أعرفها لا تشبه أبداً التي أحملها في قلبي وأشتاق إليها.

هذا كله يجعلني أعيد كتابة الجملة التي ختمت بها قصتي يومها، والتي تقول: "وأخيراً أريدكِ أن تخبريهم بأنني أحبّ غزة وأشتاق لها جداً... لكنني لن أعود".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image