شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
يوميّات من غزّة (12)... الفلفل الحارّ ضرورة في السّلم والحرب

يوميّات من غزّة (12)... الفلفل الحارّ ضرورة في السّلم والحرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رائحة الخبز في النزوح

رائحة الخبز الطازج يا لمار تفرك أنفي كلما هبّت نسمة هواء أوصلتها إليَّ، يمكنني السير وراءها وتتبعها حتى أصل إحدى غرف الطابق حيث نزحنا، غير أن المقارنة -إن حدثت- مجحفة بين رائحة رغيف الخبز الذي تنضجه الطنجرة الكهربائية، ورائحة خبز فرن الطين الذي صنعته جدتك خلف المنزل في المساحة الضيقة بيديها المعرورقتين اللتين تتطابق معهما يديّ، حيث كنت أحضر صغار حبات البطاطس وأضعها في جمر الفرن مع حبات البيض الملفوف في ورق أكياس الإسمنت المغسول بالماء، لحفظ البيض حتى استوائه من الاحتراق.

لن أحدثك عن الطعم حين يدخل الفم، فهو حكاية أخرى لن يتسنى لي حتى استعادتها، الرائحة يا لمار، رائحة الخبز حينما يخرج من قلب النار ناضجاً محمر الوجه تساوي أفضل المخبوزات الفرنسية كافة، ورائحة رغيف الخبز التي تسري في طرقات المستشفى لها طعم جديد عليّ. 

تكاثر فجأة مشهد النساء وهنّ يحملن العجين المرقوق والمصفوف على مخدات مغطاة بقطعة قماش، عادة ما تكون غطاء صلاة سوف يلبسنه فيما بعد، ربما دون أن يُغسل حتى، فلا ضرر من رائحة عجين قريبة إلى هذا الحد من الجسد 

تعلمين يا حبيبتي أنهم قصفوا المخابز التي كان الناس يصطفون بالطوابير أمامها من أجل ربطة خبز لا تكفي غداء لكل هذه الأفواه القابلة للنمو بسرعة تفوق سرعة الحرب نفسها، طوابير مرهقة، مستفَزة، ضاحكة، متخاصمة وزاعقة. أياد تتشابك لتناول الأرغفة المخصصة لها أو لمصارعة من يتعدى على دور غيره، لذلك تكاثر فجأة مشهد النساء وهنّ يحملن العجين المرقوق والمصفوف على مخدات مغطاة بقطعة قماش عادة ما تكون غطاء صلاة سوف يلبسنه فيما بعد، ربما دون أن يُغسل، لا ضرر من رائحة عجين قريبة إلى هذا الحد من الجسد.

كيف يخبز "الرجال"؟

الكل هنا يُتقن العجن والخَبز، حتى الشباب الذين يرافقون أقاربهم المصابين الناجين من القصف أو النازحين مع عائلاتهم، يتجمع الشباب ليلاً حيث يعلو القصف ويحلو الأكل والشجار واللعب والسامر، أحدهم يستعير منخلاً وكمشة من الخميرة من عائلة في نفس الطابق، والآخر يتبرع بالدقيق بعد توصيات عديدة من أمه أن يترك لهم ما يكفي لطعام الغد، الكل يتحدث هنا عن الغد بيقين عجيب.

يجمعون الملح في مناديل ورقيّة ويقايضونه أحياناً بالقليل من الفلفل الأحمر المطحون وإن خُلِط بالماء، أتابعهم بعيني في الغرفة المقابلة للممر حيث استلقي وهم يضعون المكونات في إناء بلاستيكي ويعجنون، أحدهم يقوم بصب الماء والآخر بالعجن والثالث بتحضير الشوبك واللوح لرق العجين، متقمصين أدوار أمهاتهم أو زوجاتهم في تناغم تكاد تشعر معه أنهم يلعبون هذه الأدوار منذ الأزل، غامزين ولامزين:

إعجني كويس يا حلوة.

من عينيا يا ابو محمد بس الولاد تعبوني.

الضحكات الرائقة تسمعينها مختلطة برائحة الخبز التي تدخل أنفي الآن، مختلطة برائحة الدم الذي أغرق الممر بعدما أصابت شظية شاباً كان "يغور من وجه أمه"، ممزوجة بصوت القذائف المدفعية التي تنطلق فجأة دون أن ينهق الحمار فتنخز شاباً صديقه من خاصرته كان قد انتفض قليلاً من أثر الضربة بقوله: "إوعى" ويعلو الضحك من جديد.

عشق الفلفل الحار 

في الأيام الأولى في المستشفى كانت الخضار لا تنقطع عن النازحين -حينما كانت هناك طرق تؤدي إلى المستشفى- مثلما كانت رائحة قلاية البندورة تهب بمختلف الإضافات عليها، محظوظ من لديه بضعه فصوص من الثوم لإضافة نكهة ورائحة لا تترك طابقاً دون التسلل إليه، حتى أنك تسمعين أصوات متسائلة عن مصدر الرائحة، أو ترين رجالاً تقودهم في الممرات أنوفهم.

لكن قلاية أحمد -جارنا في الطابق- تتفوق على أية قلاية أخرى، قلاية من الفلفل الاخضر مع القليل من البندورة تتفاعل مع أنوف جميع من في الطابق، فتبدأ بالعطس والجريان بتناغم متسق مع الريق الجاري.

يمكن للغزي الاستغناء عن الكثير من الأكلات لكن الفلفل الأحمر ليس منها، في موسم الفلفل الأحمر تشمين رائحة غزة.

غزاوية أنت مثلي يا لمار، ومثلي تعشقين الفلفل الحار، علامة غزة المميزة، يمكن للغزي الاستغناء عن الكثير من الأكلات لكن الفلفل الأحمر وخاصة المطحون ليس منها، يكفي أن تنزلي غزة في موسمه وتري صناديق الفلفل الأحمر المتراصة فوق بعضها على عربات تجرها الحمير والأحصنة وكلٌّ يشتري خزين السنة، في موسم الفلفل الأحمر تشمين رائحة غزة.

ضجيج الروائح

أن تتفوق روائح الأكل على روائح المعقمات والأدوية التي تتميز بها المستشفيات فهذا عبث لا يحدث في الحياة الواقعية، لكننا في مدينة تعيش بمحاذاة الواقع وقد تتقاطع معه أحياناً كما تفعل الآن، تغيب هذه الروائح بين روائح الطعام على قلة أنواعه وروائح الفراش المكتوم أو كما تقول الغزّيات "المعطبن"، حيث لا يكاد ضوء شمس يدخل من أي شباك، لكن روائح براز الأطفال تسيطر على الطابق، الأطفال أنفسهم يسيطرون على الطابق، على المستشفى، على الممرات فيها وعلى آذاننا. 

أن تتفوق روائح الأكل على روائح المعقمات والأدوية التي تتميز بها المستشفيات فهذا عبث لا يحدث في الحياة الواقعية، لكننا في مدينة تعيش بمحاذاة الواقع.

تشمين روائح براز ومخاط من ملابس غسلتها النساء ونشرنها على قضبان الشبابيك أو على حواف السلالم، لكن يحدث أن تدير رأسكِ رائحة رز مبهر تدخل أنفك دون سابق إنذار حتى لو كان الرز بارداً، فالطعم وحده كفيل بأن يسيل الدموع من جديد، لا أفهم هذه الدموع السخيفة التي لا تسيل إلا مع كأس ماء بارد او ملعقة رز مبهر تأتي على غفلة.

الأكل هنا يعتمد في معظمه على الدُّقة الغزية والزعتر والجبن والحلاوة الطحينية والمعلبات التي وصلتنا من خلال "كوبونة" من الصليب الأحمر مرتين، لم يعد باعة الخيار يمرون من أمام المستشفى، ونهيق الحمار الليلي الذي كنا نسمعه دائماً قبل كل قصف بدقائق مثيراً لعنات النازحين والمتشائمين من نهيقه -المشؤوم- قد توقف، لم يعد هناك باعة للخضار ولم تعد هناك شوارع تصلح لمرور قطة منها.

الطابق المشؤوم

لديّ أنف شديد الحساسية للروائح يستطيع التقاط الرائحة عن بعد، كنت أفهم حساسية "غريغوي" للروائح في رواية العطر، لكن فرز الروائح في الطابق أشبه بالمعجزة، ولا رفاهية لديك في الاعتراض. 

يتجمّع الشباب ليلاً حيث يعلو القصف ويحلو الأكل والشجار واللعب، أحدهم يستعير منخلاً وكمشة خميرة من عائلة في نفس الطابق، وآخر يتبرع بالدقيق بعد توصيات عديدة من أمّه أن يترك لهم ما يكفي لطعام الغد، الكل يتحدث هنا عن الغد بيقين عجيب

أذكر حكاية روتها لي ابنة عمك تغريد عن امرأة عجوز تسكن طابقاً أسفل منا، امرأة سمينة كانت تضجع على جنبها ثم تخرج ضراطاً قوياً يفزع النيام مقترناً برائحة تصيب كل قاطني الطابق بالغثيان، كان الشباب يقولون لها معترضين: يا خالة موتينا، ريحة دخان القذائف أهون من ريحة ضراطك، فترد عليهم دون أي مبالاة: "يوه يا خالتي، أخليه يموتني؟ خليه يطلع برة ويفضح ولا يضل جوة ويسطح".

محظوظة أنا لأنني لم أسكن في نفس الطابق، وإلا كنت أخذت قطعة من العجين وسددت بها ذلك الخرم دون أن أتردد أو تهتز لي يد، لكن يا حبيبتي لمار، بإمكان كوب شاي بالميرمية إصلاح كل هذا الخراب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image