كتبت روايتي الجديدة "2067"، ولو لم تنشر هنا والآن. لم أكتبها إبراء للذمة، ولا نفثة مصدور. هو الوفاء للمعنى، وفرحاً بلحظة انتصار نادرة لحلمٍ مشروع بالحرية. حملتها في صدري، ولم تكن عبئاً أتخلص منه بالكتابة. استمتعت بالاستعادة، وقررت أن أتركها وثيقة تتوسل بالفن، عبر قصة حب لا تكتمل أيضاً. آمل أن تجيب الرواية عن سؤال قارئ سوف يصادفها عام 2067: ألا يستحق المهزوم الأسير بعضا من الشفقة؟ ألا تجدر الرحمة بالعزيز المنكسر؟ ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011 انكسرت، الأدق أنها كُسرت عمداً. ولولا ذكرها في ديباجة دستور 2014، في ساعة براءة، لأعلنوا رسمياً عن لعنها، وتحميلها أسباب الفشل العمومي. لن أعتذر.
رواية "2067" هي اقترابي الثاني من كانون الثاني/يناير. في ربيع 2011 كتبت "الثورة الآن... يوميات من ميدان التحرير"، وأصدرته الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، في شتاء 2012، ضمن سلسلة "أدب الثورة". في تلك السكرة باكتمال النصر، نفد الكتاب. وتحمست الناشرة كرم يوسف صاحبة "الكتب خان" لإصدار طبعة ثانية في تموز/يوليو 2012. لولا أنني كتبته في زهوة الفرح، ولولا نشره في ذلك السياق، ما كان ليكتب أو لينشر. كانت أرجوحة الثورة قد ارتفعت عالياً، ثم هوت إلى شرَك سحبها إلى حفرة أُعدّت بليل، ولم يطمروها، تركوا ثقوبا للتنفس، لكي ينصت الشامتون واليائسون إلى الأنين، ويتأكد لهم أن الثورة لن تموت ولن تحيا.
في برلين لم يشعر ريمارك بالاطمئنان، لاحظ أن العائدين من الحرب يحاولون "وبنمط حياتي سريع ووحشي ودقيق أن يعوّضوا ما خسروه في السنين الأربع من الحرب. هؤلاء لا يملكون الآن شيئاً. هذا الجيل بأكمله قد دحر وهزم... يعرف ريمارك بأنه يكتب ضد الزمن"
لا أحد يريد قراءة كتاب عن هزيمته. هل نتحلّى بشجاعة كافية لمواجهة أنفسنا بأخطائنا، ونريد أن يذكّرنا عملٌ بمواضع أقدامنا وهي تدكّ الميدان فتزلزل الجالس على العرش؟ كيف كنا؟ وأين صرنا؟ لم أندم على كتابة "الثورة الآن"، وأشكر تفاؤلاً بلا ضفاف جعلني أكتبه بثقة ومتعة. وكان محظوظاً بنشر مقدمته مسلسلة في صحيفة "الأهرام المسائي" القاهرية، ونشر يوميات الثورة مسلسلة في صحيفة "الجريدة" الكويتية. تلك أيام مصرية بامتياز، وبعد عثرتين صنعتهما قوى الثورة المضادة، لن تمتد الأيدي إلى كتاب عن ثورة عرجاء، رهن الاعتقال والإدانة والتكفير الوطني. فكيف ظلت تطاردني، وتمنعني النوم، إلحاحاً على استحقاقها عملاً روائياً؟ لا أزعم امتلاك إجابة.
انتهيت من الكتابة، ولم أنشغل بسؤال: من سيقرأ رواية عن انتكاسته؟ من يحتمل فتح جرح الْتأم على غير تطهير؟ الحالمون بالثورة يعانون الاكتئاب أو السجن، والشامتون يسوؤهم ذكر الثورة، إن لم تقترن بالتجريم. وجدت نفسي بعد قفزة زمنية، على مسافة أربعين عاماً من الثورة، بصحبة محبين لم يشاركوا في صنع الحلم، ولا تطاردهم مشاعر جلد الذات. اكتشف أبناء الثائرين أنهم يحملون ميراث الآباء، ويحلمون بفرصة أخرى. انتهيت من الكتابة، ثم صادفتني الطبعة الثانية من كتاب ص.ر. مارتين "في تجربة الكتابة"، (ترجمه تحرير سماوي. دار الكلمة للنشر، بيروت 1983). نقل المؤلف عن الكاتب الألماني إريش ماريا ريمارك ما يدعوني إلى الاطمئنان.
جرح ريمارك مرتين في الحرب الأوروبية الأولى، "وانتهت الحرب... إلا بالنسبة لريمارك"، سيطرت عليه ولم تغادره، وصحبته في مهن مختلفة عمل بها، مدرساً في قرية، وعازفاً على الأُرغُن في مستشفى للأمراض العقلية، وبائعاً لتماثيل تذكارية لدى صديق يبيع رخام القبور، وموظفاً في إحدى شركات الكاوتشوك وفيها عمل بصحيفة تابعة للشركة، ثم انتقل إلى برلين محرراً في صحيفة "الرياضة المصورة". وبدأ كتابة روايته "كل شيء هادئ في الميدان الغربي". وكان صنع الله إبراهيم قد دلّني على هذه الرواية، وأنا طالب في جامعة القاهرة، وقال إنها أهمّ رواية عن الحرب. وعثرت على نسخة أصدرتها سلسلة "روايات الهلال" عام 1981، ترجمة محمود مسعود.
في برلين لم يشعر ريمارك بالاطمئنان، لاحظ أن العائدين من الحرب يحاولون "وبنمط حياتي سريع ووحشي ودقيق أن يعوّضوا ما خسروه في السنين الأربع من الحرب. هؤلاء لا يملكون الآن شيئاً. هذا الجيل بأكمله قد دحر وهزم... يعرف ريمارك بأنه يكتب ضد الزمن". عاش الألمان حياة لاهية، عبث ورغبة في الإنفاق والنسيان، "شيء واحد لا يريدون تذكره... الحرب. الناس يحاولون نسيانها، وتجنّب ذكرها... ريمارك يكتب ما لا يريده الناس، يكتب أن جيلاً ما عاد حيّا.. ولو أنه لا يعلم بذلك". في ليالي الأرق، وهو يكتب، عاش ريمارك "الجحيم ثانية". ورفضت دار النشر طبع الرواية: "من يريد اليوم قراءة روايات حربية؟".
حكى ريمارك لأحد الصحافيين عن الرواية، فنصحه بتمزيقها فوراً. أجواء تدعو إلى التشاؤم، وبعد موافقة دار النشر على طبع الرواية، لم يكن ريمارك متفائلاً: "من يريد اليوم أن يقرأ رواية تصف الجحيم الأرضي؟"
في كتاب "في تجربة الكتابة"، وهو حصاد سلسلة مقالات نشرت تحت عنوان "بحث في تجربة الكتابة"، يقول ص.ر. مارتين إن "اختيار ريمارك لم يكن موازياً للزمن". حكى ريمارك لأحد الصحافيين عن الرواية، فنصحه بتمزيقها فوراً. أجواء تدعو إلى التشاؤم، وبعد موافقة دار النشر على طبع الرواية، لم يكن ريمارك متفائلاً: "من يريد اليوم أن يقرأ رواية تصف الجحيم الأرضي؟".
كان الناشر يملك صحيفة "فوس" التي بدأت في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1928 نشر الحلقة الأولى، وبعد الحلقة الثانية "بدأت برلين بأسرها تتحدث عنها... الأيدي تتلقف الجريدة والجمهور في ذهول تام... ذهول في دار النشر الألمانية وكان الناس ما يزالون يهتمون بقضية الحرب".
كانت الرواية الألمانية عزاء لجيل. قال ريمارك إنها "مأساة الذين تحطموا من الحرب، حتى لو كانوا قد نجوا من قذائفها". لا أقارن بين ألمانيا 1928 بعد عشر سنوات على الحرب، ومصر 2022 بعد إحدى عشرة سنة على 25 كانون الثاني/يناير. المشهد أكبر من وعد باستقبال رواية "2067" عن ثورة في الأسر. هل أتفاءل؟ أمامي دلائل على أن التفاؤل القريب نوع السذاجة. قلما يسألني الآن أحد عن كتابي "الثورة الآن" إلا إذا أراد الاستدلال على موقف، والتثبّت من أمر غيّبته العواصف. كانت ألمانيا الجريحة على بعد خمس سنوات من تراجيديا غيّرت وجه العالم. وفي "الجحيم ثانية" يُنتظر انتهاء الانقلاب النابليوني، بخسائر أقل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين