"مساء الفل أبو حميد" إنه صوت وليد علاء الدين، عرفته قاصاً، وإذا به شاعر ومسرحي، وأدخلني معه في روايته الأولى "ابن القبطيّة" إلى عوالمه السردية.
يفتح وليد علاء الدين في روايته الأخيرة "كيميا" ملفاً عويصاً وغامضاً وحساساً، ستتضح حساسيته مع الترجمة؛ البحث عن مولانا جلال الدين الرومي. ويصرّ الإيرانيون على أنه بلخي (نسبة إلى بلْخ، المدينة التي كانت ضمن إيران الكبرى، وهي ضمن الأراضي الأفغانية اليوم)، وشمس. يكفي أن نكون بقربهما في عصرهما حتى يغطينا ظلهما ويقصينا. ماذا لو أردنا أن نعرف ابنة جلال الدين "كيميا"؟ مَن هي وكيف عاشت مع أبيها وما قاسته؟ هل تزيح الهالة الكبيرة التي أحاطت أباها؟ أم تكتفي بالصمت مثلما فعلت وتفعل؟
في الفترة التي قضاها الروائي وليد علاء الدين في تركيا، كنت أتلقى أسئلته عن كيميا. بعد جمعي لأسئلته اكتشفت حقيقة أنّ الرواية هي نصّ المهمشين؛ حتى ولو مرت ثمانية قرون على تهميشهم.
جعلتني الرواية أعيد التفكير في الشخصيات التي نتلقى منها الخطاب كما هو دون التفكير فيه. كيف لي التفكير في نصوص مولانا أو حتى الاعتراض عليها ذهنياً. كنت أبحث لنصوصه عن مخرج تأويلي في كلّ مرة أتصادم معه.
يدخل نصّ الرواية في الحياة الداخلية لكيميا وكيف ضحى بها أبوها. لا ننسى أنّ الروائي كان قد اطلع على نصين سرديين: رواية "قواعد العشق الأربعين" للكاتبة التركية إليف شافاق، ورواية "بنت مولانا" للكاتبة البريطانية مورل مفروي". ومَن قرأ النصين وتابع حياة "كيميا" سيجدهما قد مسّا السطح واكتفا بذلك. بينما "كيميا" حاولت تحطيم الهالات المضيئة وزرع أسئلة جديدة عن مولانا وشمس، بل حتى على شخصيات كنّا نؤمن بالجانب المضيء فقط من حياتهم.
بطل رواية "كيميا" يعود للماضي، وهو يعرف جيداً كيف يعود للماضي؛ يكفي أن نلقي نظرة على المصادر التاريخية التي وضعها في نهاية الرواية، ويحاور البطلة الضائعة بين ضوء شمس وظلال مولانا.
ما شغلني في النصّ هو الثوابت التي أراها مع نصوص جلال الدين الرومي وشمس التبريزي، لقد تزعزعت من أساسها، وحل مكانها ما فعلاه لكيميا.
كنتُ أتتبع سيرة شخصية شغلتني كما شغلت العالم، بغتة وجدتُ نفسي في النصّ مع كيميا وأبيها وشمس. أعدتُ قراءة النصّ لأتأكد، هذا أنا في الرواية.
في بحث الكاتب حين كان في مدينة قونية، وهو يبحث عن جلال الدين وتاريخه، كان يرسل رسائله إلى أصدقائه، وكنت منهم، مستفسراً عن مقاطع تاريخية سيضيفها لروايته، ولم أكن على علم بأنها رواية.
الرواية تزيح الستار عن بنت جلال الدين الرومي التي غطى ظلّ أبيها وشمس عليها
أمّا الرواية فهي نصّ سردي وبحثي ورحلة أدبية وكثير غير ذلك. بعد صدور الرواية تحدثتُ مع وليد علاء الدين وأنا مندهش بروايته. وكنتُ أحاسب نفسي بسؤال: لماذا لم أطل رسائلي معه حتى أتجلى أكثر في الرواية؟
كنت متحمساً للخوض في تفاصيل الرواية كما كنتُ متحمساً على إرسالها لصديق أقسم أنه سيترجمها، وقد فعل. قال لي: سأتفرغ للكتابة والقراءة وسأطلق الترجمة؛ فلا مال من ورائها ويجعلك الناشر تركض وراءه؛ ثمّ المصيبة الكبرى في دهاليز وزارة الثقافة لدينا في إيران. قال: لقد اضطررتُ أن أبيع خاتم زواجي من أجل طباعة كتاب ترجمته.
قلّما نصادف في الحياة مترجماً يرضي فينا شعور اكتمال النصّ وقربه من النصّ المبدأ. أرسلت له رواية "كيميا" وقلت له اكتفِ فقط بقراءتها. وأخّر قراءتها عدة أشهر، حتى قال في يوم: أعادتني كيميا إلى الترجمة. وهنا بدأت حكاية كيميا بلغة كانت تتحدثها: "الفارسية".
بالتحديد بدأت حكاية الترجمة قبل سنتين. عرض المترجم الكتاب على دار "مرواريد" للنشر الإيرانية، في معرض الكتاب الدولي في طهران. صادف تقديم الكتاب للدار ولوزارة الثقافة والارشاد، قيامَ منتج سينمائي بالعمل على فيلم "سكرة العشق"، وهو فيلم مشترك بين تركيا وإيران. وتقرر أن يمثل فيه ممثلون إيرانيون منهم بارسا بيروزفَر بدور مولانا، وشهاب حسيني بدور شمس، بينما تجسد دور كيميا الممثلة التركيّة الجميلة هاندة أرتشل.
يعالج الفيلم سيرة جلال الدين وشمس. وفي نفس الفترة التي سُلّم الكتاب لوزارة الثقافة ثارت ضجّة حول الفيلم وأعلن اثنان من مراجع إيران تحريم الفيلم لأنه يروّج للصوفيّة. فرفضت "كيميا" كلياً التمثيل دون ذكر أسباب الرفض. وبعد أشهر جاء الردّ من وزارة الثقافة بأنّ الكتاب يهين رموزاً وطنية. ودخل الكتاب في مرحلة جديدة بين الرفض والرفض المتشدد.
ثارت ثائرة المترجم فكتب رسالة حادة للمسؤل عن صدور الترخيص في وزارة الثقافة والإرشاد قائلاً فيها: ألا تعتبر الآراء التي تتهم شمس ومولانا بالمثلية إهانة، ورغم ذلك نقرأها في الصحف والمواقع والكتب؟
وكانت رسالة المترجم مؤثرة؛ إذ كتب نصاً مطولاً عن الموضوع، بعد أن صحح المحاور التي اعترضت عليها وزارة الثقافة. لكن حتى بعد التعديل جاء رفض الكتاب.
في المرة الثالثة التي أُرسل الكتاب كان العالم قد دخل عصر كورونا. صادف في هذه الفترة أن زار المترجم دار "بارسا" ودار حوار حول "كيميا". صُدم المترجم بأنّ الدار حصلت على موافقة إصدار رواية "كيميا" دون أي منع أو اعتراض، فثارت ثائرته. واتضح أنه كتاب آخر، وليس ما ترجمه هو.
وقع المترجم هجوماً من نقاد متخصصين في نصوص مولانا وشمس، لأنه تعرض لحقيقة الشخصيتين
دخل المترجم في عملية بحث عن "كيميا" مثلما فعل الروائي وليد علاء الدين في بحثه الحثيث. راجع كلّ ما توفر من نصوص وبحوث عن كيميا، خاصة النصوص الشعرية. واختيار ترجمة رواية "كيميا" إلى اللغة الفارسية كان مشكلة، فمحبة الرومي، حتى بين الناس، زادت من مشكلة ترجمة الكتاب. والسبب الحساسية الكبيرة تجاه شخصية جلال الدين وشمس. من ناحية أخرى توقع المترجم هجوماً من نقاد متخصصين في نصوص مولانا وشمس، لأنه تعرض لحقيقة الشخصيتين.
رواية "كيميا" التي صدرت الطبعة الثانية لترجمتها إلى الفارسية بعد فترة قصيرة من إصدارها الأول، تزيح الستار عن بنت جلال الدين الرومي التي غطى ظلّ أبيها وشمس عليها، فكانت اسماً مظلوماً يحتاج إلى الخوض فيه من جديد. يفتح وليد علاء الدين في نصّه الأبواب الخلفية المغطاة بغبار الشهرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...