شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
بين جدران غرفتي... أسرار وأرواح ترافقني

بين جدران غرفتي... أسرار وأرواح ترافقني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 5 فبراير 202412:16 م

ترعبني المساحات الفارغة، وتقلقني البيوت شاسعة المساحة، ويشعرني اللون الأبيض بالخواء. وجود هذه الغرفة في هذا البيت المسكون بالأشباح، هو ما أطال أمد بقائي هنا، وإلا كنت قد جننت بلا ريب.

غرفة صغيرة لا يمكن لها أن توحي بالكثير بمجرد النظر إليها أول مرة، لكن عندما تمرّر عينيك عليها بتمعّن، ستشعر بها تخطفك وتشدّك وتلمس روحك. هنا عاش هذا الجسد، انطلقت في رأسه الغيلان وسكنته الأرواح الهائمة بلا مأوى.

في الغرفة كتب كثيرة مكدّسة فوق بعضهما البعض، ولوحة سوداء عليها صورة للسيدة فيروز، مرسومة بالحروف العربية، كان قد أهدتني إياها صديقتي، وأكواب وفنجانين لا نهائية، وزجاجات عطر، وصندوق أحمر يحوي أوراق ودفاتر وهدايا وطوابع ورسومات وجوابات. (نموذج القراءة وفيروز والقهوة المعتاد؟). 

أبواب الغرفة مغلقة معظم الوقت، لذا يعتبرها كل من يعبر بهذا البيت الصاخب كنزاً مخبّأ، أو مغارة علي بابا. يرغب الجميع بفتح الباب، واكتشاف ما بالداخل. (افتح يا سمسم).

أطفال العائلة يتراصون على الباب، يطرقونه عدداً لا متناهياً من المرات، وسعيد الحظ هو من يكون له نصيب في الدخول بسهولة، والنظر إلى الأشياء الغريبة ومقتنيات المكان.

تخبر الفتاة التي تكتب النصّ أخواتها ألا يحلمن بالكثير، لأنها حتى إذا غادرت هذا البيت في يوم ستغلق الباب بالترباس، وإذا ماتت ستأخذ غرفتها معها إلى القبر

لم يكن في مخطط الأب والأم أبداً أن تتلون هذه الغرفة بطلاء محدّد، أو أن تنتقل ملكيتها من بنت إلى أخرى. هما غالباً لم يحلما بالبنات، ولم يفكرا في التخطيط لغرفة مثالية، تضم سريراً صغيراً، ومنضدة، ومكتباً، وألعاباً لا تحصى، وضحكات مترامية الأطراف، وحلوى كثيرة.

لم تعتد الأم أن تبقى كثيراً هنا في الماضي –أي في هذا البيت- لعلها أرادت منذ البداية أن تغادر بلا عودة، لكن الخوف، الخوف وحده، هو ما كبلّ خطواتها، وجعل قدميها أكثر التصاقاً بالأرض، فظلت.

تخبر الفتاة التي تكتب النصّ أخواتها ألا يحلمن بالكثير، لأنها حتى إذا غادرت هذا البيت في يوم ستغلق الباب بالترباس، وإذا ماتت ستأخذ غرفتها معها إلى القبر. تسخر من قولها ذاك، وتتمنى أن ترحل خفيفة.

تقسم الأم أن هذه الغرفة تتسع كل شيء، رغم ضآلة مساحتها. السرير أصلاً يتسع لشخص واحد فقط- ولذلك كل ما يزيد عن حاجتها تلقيه في الحجرة، العلب التي ترى أنها ستحتاجها ذات يوم، الكراتين الفاضية، الأحذية التي تخص البنت (حاجتك تتحط في أوضتك)، الرز والسكر، وعلب الزيت إذا لزم الأمر، والكرسي المكسور، وكل ما تريد أن تبقيه بعيداً عن الأعين. تفعل ذلك متحاشية غضبها، ورغبتها في أن تظل غرفتها قصراً منعزلاً عن كل ما يدور حوله. 

وجود هذه الغرفة يفتح الباب على الكثير من الغرف التي رأتها في حياتها، بداية من العلب الكرتونية التي صنعتها في طفولتها عشرات المرات، وجعلت منها بيتاً جميلاً للعرائس البلاستيكية، صديقاتها الأوائل. تذهب إلى المكتبة على أول شارعها، تمشي خطوات أكبر من طولها، وتصل إلى المكتبة "الحديثة"، تختار مطبخاً للأطفال على مزاجها، وحجرة صالون، وعروسة، دمية بلاستيكية، وتمنحها اسماً بالطبع، وفي الشارع الخلفي للمكتبة، تبحث عن الفرع الآخر التابع لها، تشتري إبرة وخيطاً، وبقايا أقمشة (هلاهيل)، وتعود لتصنع بيتاً من خيالها، يوازي بيتها الحقيقي ويفوقه جمالاً، ويزرع فيها الحلم بأن تكبر ويصير لها بيت يخصّها وحدها.

الكثير من الغرف انحفرت في زاوية عقلها، منها غرفة وردية، ذات ستائر حمراء، ومفرش سرير وردي، وكنبة نبيذي، وكرسي، وطرابيزة عليها فازة تنبض بالحياة. تحمل الغرفة رقم 8 في الدور السابع في المعهد القومي للأورام، فيها قضى أمل دنقل أيامه الأخيرة، على سرير الموت: "صرت أنا والسرير.. جسداً واحداً.. في انتظار المصير". بين جدران الحجرة، يكتب شعراً لآخر لحظة في حياته، يدوّنه على هوامش الجرائد وعلب الثقاب، مستدعياً ذكرياته ووجوه أحبته، متأملاً باقات الزهور التي يجلبها الزائرون والمحبون. وفي نفس الغرفة، أخرجت عطيات الأبنودي فيلمها التسجيلي عنه: "فكلّ باقهْ.. بينَ إغماءةٍ وإفاقهْ.. تتنفس مِثلِىَ - بالكادِ - ثانيةً.. ثانيةْ".

وغرفة أخرى تأتي إليها من زمن قديم، بالأبيض والأسود، من خلف شاشة السينما، غرفة تجلس فيها هيئة محلفين من اثني عشر رجلاً غاضباً (لا نعرف أسماءهم)، يحدّدون قواعد اللعبة، و يتشاورون في مصير متهم بجريمة قتل من الدرجة الأولى، حياته على المحك، بينما يوجههم من خلف الكاميرا سيدني لوميت، صانعاً فيلمه الأول الخالد في السينما.

غرفة على ورق، تخرج إليها من بين دفتي كتاب من حين لآخر، منذ قرأتها لأول مرة. غرفة يابانية بامتياز، كتبتها يوكو أوغاوا في "غرفة مثالية لرجل مريض" وترجمها ببراعة بسام حجار. تحكي يوكو عن امرأة شابة، تعرف بمرض أخيها (تندهش من تفاصيله التي تتقاطع مع حياة أخيها الميت) طريح الفراش في المستشفى. تذهب إليه، تزوره مرات كثيرة، في غرفة بيضاء نظيفة ومرتبة، وأرضية مرحاض وخزف جرنه قد غسلا، وستارة دانتيلا، ووسادة من ريش، وجسد مريض.

 يبدو شفافاً كأبدان الرخويات، وللغرابة، كان نقاء الغرفة هو ما يجعلها مطمئنة. تتذكر كثيراً حبات العنب الخضراء التي كان يتناولها أخوها كما يحبها أيضاً الأخ المريض/ الميت في الرواية.

غرفة بيضاء، باردة، وقلبي بارد، والعيون تشخص في كل اتجاه ولا تقول شيئاً، والعالم يدور، وأنا أدور حول جسدي الصغير، وأضم ركبتي إلى صدري، وأتخذ وضعية الجنين، وأبكي، وأذوب داخلي، وأشعر بكل خلية في جسدي تنتفض، وتبتعد الأصوات من حولي، فتتلاشى، وتتضاءل الغرفة البيضاء، وتصبح في حجم حبة سمسم، ويبدو الناس ليّ كدمى خشبية، وتبدأ رائحة نفاذّة تدخل أنفي وتخنقني، فأبدأ في نوبة سعال قوية، تحيلني إلى شيء صغير وتافه.

وتظل تلك الرائحة تراودني من حين إلى آخر، وأسميها برقّة "رائحة الموت"، وأقول بأن رائحة الموت تشبه رائحة التوت الأسود.

أنا على فراش أزرق من الحرير، ينسدل من شعري القصير ورود حمراء، وبيضاء، وبنفسجية، وعلى جسمي يلتف فستان أخضر ناعم، ومن رقبتي تتدلى سلسلة فضية، ومن عروقي الخضراء النافرة، يخرج أنبوب يعلق في المحاليل، وأطرافي تغرق في برودة لا نهائية.

يدي البيضاء تزداد زرقة، وينبت في كفي تورّم خفيف بسبب الحقن الكثيرة، ومع ذلك، أترك كل شيء، وأهمّ من سريري، أذهب إلى خارج الغرفةـ، أمشي في الممر الواسع المفضي إلى حديقة خضراء ضيقة، يحيط بها سياج حديدي عال (أليست الأسوار العالية والسياج الحديدة طراز معماري من صنيع الحكومات ليجعلك تشعر بضآلتك، وبأنهم محميون منك؟).

أليست الأسوار العالية والسياج الحديدة طراز معماري من صنيع الحكومات ليجعلك تشعر بضآلتك، وبأنهم محميون منك؟

 أدع أشعة الشمس تسقط على عيني وخصلات شعري، وأشم هواء صافياً، وألمس جلدي، أمشي بأناملي على وجهي، وأطرافي، وأستكين إلى قلبي، وأدع الهواء البارد يتدفق إلى صدري، وأعاود السعال. يقول لي الدكتور المار بجانبي: "لا لا الكحة دي صعبة أوي، لازم تكشفي". أتجاهله، وأتابع ببصري الطيور الحائمة، وأنسج لهم حكايات في خيالي.

أعود إلى الغرفة البيضاء (أو ربما كان لونها رمادياً)، أرى امرأة -يترسب حول فمها سائل أسود- تنظر إليّ من زاوية عينها بريبة، أبادرها بالابتسام، وأحاول بث الطمأنينة في روحها، وأخبرها ألا تقلق. أنظر إلى زوجها الذي يراقبها من خارج الغرفة، ثم يدخل ويقترب منها، ويهمس في أذنها، ويربت على كتفيها كما لو كان يقوم بمهمة رسمية، ويخشى أن تفلت الأمور من بين يديه. يخرج الزوج ويتحدث مع الممرضة بالخارج بينما يرسل بصره إلى الغرفة، يثبت مقلتيه على زوجته. يبدو خائفاً وملتاعاً.

ساعة وتخرج البنت المسكينة، ويظل السرير فارغاً إلا من بقايا قيئ، ثوان ويأتي ولد صغير، نحيل الجسد على نحو صادم، يرتدي السماعات في أذنيه، ويغرق في وصلة نحيب لا تنقطع. ينظر إليّ، ويطق العرق في جبهته، عندما يلحظ أنني أنا الأخرى أنظر إليه. يجذب الستارة البيضاء بأصابعه النحيلة، ويضع حاجزاً بيني وبينه. يأتي إليه الطبيب والممرضة، يتم إسعافه بسرعة ويغادر.

تعود الغرفة البيضاء فارغة، لتضيق عليّ وحدي. أفرد ظهري، وأفتح عيناي على آخرهما، (نافذتان مفتوحتان على العالم، مشرعتان على مصراعيهما)، أحصي العناكب هنا، أدعهم يسقطون في فمي، وأتذكر الحلم القديم: ثعبان أصفر ينهش في لحمي، يمضغني بتمهل، يتلذّذ بمذاق جلدي، يلحسه أولاً، ثم يأكل اللحم الطري. أشعر بطعم جلده على لساني. أود أن أتقيأ، ولا أفعل. أفرغت كل ما في جعبتي، قبل أن آتي إلى هنا.

أشعر بالخواء، كل ما هنا فارغ تماماً إلا من الموت.   

 مع زقزقة العصافير "ما للعصافير تدنو ثم تسألني.. أهملت شعرك راحت عقدة القصب" خلف الشباك الحديدي، وأشعة الشمس البرتقالية وهي تنثر دفئها من بين ثناياه، تدخل الممرضة الغرفة لتخبرني بأنه يمكنني أن أغادر، وأنني في أمان "حيرى أنا يا أنا أنهدّ متعبة.. خلف الستائر في إعياء مرتقب".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image