"لا يمكن لأي رسم آخر في العالم أن يتفوق على فن الرسم الإيراني في الثراء والتنوع بالألوان". هذا ما يقوله الباحث الأمريكي ستيوارت كاري ويلش، في كتابه "الرسم الإيراني: النقوش والرسوم في عهد الصفويين"، الذي يتحدث فيه عن إبداع الرسامين الإيرانيين، من خلال شرح رسوماتهم وفنهم، ذلك الفن الساحر والمدهش الذي كان أحد استعمالاته لتزيين الكتب، لكنه أثر أيضاً على النص الذي يرافقه.
ويبدو أن المواد المستخدمة في الرسم الإيراني قد صُنعت على يد الكيميائيين، إذ تمنح الأشخاص والأشياء حالة خفة خالية من الوزن والحجم والظل، كما لو كانت انعكاساً في مرآة ساحرة لا تعكس صور الأشياء فحسب، بل تكشف عنها سرها وسحرها ووجهها الآخر.
رسوم ماني
"نقوش أرجَنك"، التي تُعرف کأول الرسوم المصغرة في المنطقة، رُسمت على يد ماني، الرسام الذي ظهر في بلاد ما بين النهرين في القرن الثالث الميلادي وادعى النبوّة. استَخدم ماني الرسمَ لتسهيل فهم معتقداته لأتباع الديانة المانوية، ويعتقد المؤرخون أن نسخة من كتب "أرجَنك" كانت موجودة في الخزائن الملكية في عهد الغزنويين، حيث حُفظت فيها حتى القرن الثاني عشر، ومن ثم نُقلت هذه النسخة إلى ورش الكتابة العباسية، بعد سقوط الحكم الغزنوي على يد السلجوقيين، ومنذ ذلك الوقت اختفت النسخة الأصلية.
تعتبر رسمة "ألف ليلة وليلة" من بين أشهر المنمنمات في عهد القاجار، رسمها المسؤول عن رسوم صحيفة "الحكومة ضد إيران". ومع ذلك، لم يتمكن فن المنمنمات الإيراني من العودة إلى ما كان عليه في عهدي التيموريين والصفويين، كما أن الرسوم الإباحية أصبحت تُرسم بشكل وفير
يربط باسيل جيري في كتابه "لا بينتور بيرسان، جنيف" (La Pienture Persane, Genéve)، الرسم المصغر الإيراني بالديانة المانوية، ولكن الكاتب والفيلسوف الإيراني يوسف إسحاق بور، يذكر في كتاب "المنمنمات الإيرانية؛ ألوان النور... المرآة والحديقة" أن "التقاليد القديمة في إيران (عبادة المزدا والمانوية) لم تتوسع مع ظهور المنمنمات الإيرانية، بل تغيرت تماماً من خلال المعتقدات الإسلامية".
الرسم البغدادي
بسبب حظر ترسيم الوجوه، والتوصية بالتجنب عن رسم صور مشابهة للواقع، كي لا يتوهم الفنان ويُعدّ نفسه ورؤيته في الرسم قدرةً إبداعية تماثل قوة الله، استغرق عدة قرون حتى بدأ الفنانون المسلمون العملَ في الفن التصويري، ووفقاً لـكتاب "لا بينتور ارابيا" (La Peinture arabe)، للمؤرخ الألماني في الفن الإسلامي ريتشارد إتينغهاوزن، فقد بدأ الرسم المصغر العربي (المنمنمات العربية) بالتطور إبان نهاية عهد العباسيين (750-1258)، وبعد رفع حظر عرض الأشكال، حيث تأثرت مدرسة بغداد بتقاليد الفن البيزنطي والسوري والرسم المانوي، وتطورت بإبداع فنانين عرب وإيرانيين وسريان.
وتعتبر إحدى أشهر المصغرات في هذه المدرسة، تلك التي تركز على القصص وتستخدم ألواناً غنيةً أو ذهبيةً، وتتميز بالحجم الكبير للأشياء والتفاصيل المرسومة، مثل خواص العقاقير التي رُسمت على يد عبد الله الفضل (1222)، المحفوظة في متحف فرير بواشنطن، ومقامات الحريري التي رسمها يحيى بن محمود الواسطي في عام 1237. تعكس مقامات الحريري الحياة اليومية والاجتماعية للعرب متواجدين في المساجد والمزارع والصحاري والمكتبات وأثناء إقامة الاحتفالات والأعياد المختلفة في القرن الثالث عشر الميلادي.
مع هجوم المغول على المناطق التي كانت تحت حكم العباسيين في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي في إيران وإسقاط الحكم العباسي، اختفت المدرسة البغدادية واندمجت مع المدرستَين الإيرانية والعثمانية. ومع ذلك، يمكن تتبع بعض أشكال أعمال الواسطي في الأساليب الفنية للرسم الإيراني في العصر المغولي والتيموري.
الرسم المغولي
بسبب هجوم المغول على إيران واستيلائهم عليها بعد ارتكاب مجازر وإحداث دمار كبير، تمّ فصل المجتمع الإيراني عن العالم العربي بشكل كامل، وجلب المغول فنونَ التصوير الصينية إلى إيران، ووضعوا أساس فن المصغر الإيراني حينها. وفقاً لإسحاق بور، فإن المغول علّموا الإيرانيين فن صنع الورق الأبيض اللامع بانعكاساته وبنقاء ألوانه وإشراقها، كما دربوهم على استخدام قلم الفرشاة والألوان المائية والزيتية.
في المقابل أسس الرسامون الإيرانيون، الذين ابتكروا أسلوبهم الخاص من خلال تعديل اللوحات الصينية، "مدرسة تبريز الأولى" على اسم عاصمة هذه السلالة، مدينة تبريز، وكانت تفاصيل الوجوه ورسم جذوع الأشجار المعقدة والمزيد من الحركة، من سمات هذه المدرسة، التي تُعرف أيضاً باسم المغول أو الإيلخاني، وفي هذه الفترة تم إنشاء ورش مختلفة للرسم، حيث مسك كل من كبار الرساميين زاوية من العمل في هذه الورش. ربما بسبب هذا العمل الجماعي، لا تظهر التوقيعات على العديد من المنمنمات، ويعتبر "كتاب جامع التواريخ المصور"، الذي كتبه رشيد الدين فضل الله الهمداني، و"الشَّهنامة" من ديموت، من بين المنمنمات المهمة المتبقية من العهد الإيلخاني.
مع تولي التيموريين الحكمَ في منتصف القرن الرابع عشر (1370-1506)، وتغيير موقع العاصمة من مدينة تبريز إلى مدينة هرات، أسس التيموريون مدرسة هرات وجلبوا فنانين ومدرسين من جميع أنحاء إيران إلى هرات، وشكلت كتب "الشهنامة البايسنقري" و"ليلى والمجنون" و"بوستان وكُلِستان سعدي" و"خمسة نظامي" بعضاً من الأعمال المهمة التي خُطت ورُسمت في هذه الفترة.
لمدرسة هرات ميزة فريدة وهي تكامل التركيبات المتناغمة وغير المتناغمة، وتنوع الألوان في التصميم، وعرض الأحداث في مشاهد متعددة الأزمنة، واستخدام التكوين الدائري، وعلى عكس مدرسة بغداد وتبريز الأولى، فقد رُسمت الصور البشرية بشكل دقيق وصغير، ونُقشت المصغرات بخطوط بسيطة وغير معقدة.
أدرك التيموريون أن الجمال الفني ضروري لسياسة إمبراطوريتهم، وكانوا يعتبرون اللياقة الثقافية أهم من الشجاعة السياسية، حيث أدت هذه الثقافة الوهمية للتيموريين، التي كانت تحاكي جميع الدول المجاورة، بما في ذلك الهند والعثمانيين والأوزبك والصفويين، في النهاية، إلى تدميرهم على يد الصفويين (1501-1736).
الرسم الصفوي
بعد انتصار الصفويين على التيموريين، جعل شاه إسماعيل الصفوي مدينةَ تبريز عاصمتَه، وأحضر الرسام الإيراني البارع المعروف بـ"ماني الثاني" كمال الدين بِهزاد (1460-1535)، من هرات إلى تبريز، وعيّنه أميناً للمكتبة الحاكمية ومسؤولاً عن ورشة الرسم. أثناء حكم شاه إسماعيل (1501-1524)، وبعد وفاته ووصول الحكم لابنه شاه طَهماسب (1524-1576)، الذي كان لديه اهتمام كبير بالفن، تربّى رسامون كثرٌ تحت إشراف بهزاد الذي قام بابتكارات كثيرة، مثل اختيار مواضيع جديدة وعرض الحياة اليومية في المنمنمات، وتركيبات متعددة الطبقات، وحيوية الشخصيات، وتجسيد الحالات النفسية في وجوههم، واستخدام ألوان نادرة ولامعة. وهنا نشأت "مدرسة تبريز الثانية" أو "الصفوية" وتم صنع روائع مثل "الشهنامة الطهماسبية" و"خمسة نظامي شاهي".
في نهاية فترة حكم الشاه طهماسب، فقد هذا الملك اهتمامه وتفانيه في الفن، وفرّق بين جميع الرسامين ونفاهم، كما أحلّ ورشة تبريز. كان هذا القرار الحساس لشاه طهماسب، بمثابة نهاية العصر الذهبي للمنمنمات الإيرانية.
خلال حكم شاه عباس الأول (1588-1629)، ومع نقل العاصمة إلى أصفهان، وتعزيز العلاقات مع الغرب، وإرسال بعض الفنانين إلى أوروبا لاكتساب المعرفة والفنون، تغير الرسم الإيراني واتجه نحو الفن الأوروبي، ومن هنا تأسست "مدرسة أصفهان"، حيث أصبح الرسم أقربَ للواقع، وأصبحت الحدائق والزهور أكثر جمالاً وروعة، وكانت الشخصيات ترتدي ملابس فاخرة وفخمة، كما قل استخدام الألوان، بينما ظهرت الافتتاحية الرومانسية في منتصف القرن السابع عشر في الرسم الإيراني، واتجه الرسامون العثمانيون والهنود في الفترة اللاحقة للانضمام إلى هذه المدرسة. تميزت مدرسة أصفهان بتاريخ ثمين، وصورت المجتمع في ذلك الوقت، حيث أعطت واقعيتها معلومات نقية للجمهور عن الوجوه والملابس والعادات في العصر الصفوي. رضا عباسي هو أشهر رسامي المنمنمات في هذه الفترة، وهو الذي ابتكر شخصيات نادرة.
مع سقوط أصفهان على يد الأفغان، وانتهاء العهد الصفوي في منتصف القرن الثامن عشر، اختفت مدرسة أصفهان أيضاً، ولكن خصائصها استمرت في الرسم أثناء فترة الزنديين والقاجاريين.
الرسم الزندي والقاجاري
خلال فترة العهدين الزَّندي والقاجاري، تأثر فنّ الرسم في إيران بالرسم الغربي بشكل كبير، إذ أصبح الرسم الإيراني معروفاً بتصوير القصور. يصف الدكتور بِهنام جلالي جعفري في كتابه "الرسم القاجاري"، ملامحَ هذا النمط بالتركيب المتناظر والثابت بعناصر أفقية ورأسية ومنحنية، وتظليل مختصر في الوجه والملابس، وتجميع عناصر الزخرفة والرسوم التوضيحية واختيار ألوان محدودة مع التفوق للألوان الدافئة، وخاصة اللون الأحمر.
وتعتبر رسمة "ألف ليلة وليلة" من بين أشهر المنمنمات في العهد القاجاري، وقد رسمها المسؤول عن رسوم صحيفة "الحكومة ضد إيران". ومع ذلك، لم يتمكن فن الرسوم المصغرة الإيراني من العودة إلى ما كان عليه في عهدَي التيموريين والصفويين، كما أصبحت الرسوم الإباحية ترسم بشكل وفير، وتُعدّ أحد الأحداث المهمة للمنمنمات في فترتي الزنديين والقاجاريين. تمثّل هذا الأسلوب في تصوير جزء من النساء العاريات، وكيفية الجماع والعلاقة الجنسية.
رسم العرفان
على الرغم من أن أصل فن الرسم المصغر الإيراني كان مستنداً على البُعد الجمالي وبعيداً كل البعد عن الأغراض الدينية، إلا أن الاستلهام من التصوف الإيراني لم يكن بلا تأثير عليه، حيث انتشر التصوف الإسلامي في إيران بعد حكم المغول، وفي البداية تبلور في الأدبو وتطور تدريجياً حتى دخل في مجال الرسم والمنمنمات الإيرانية، مُعكساً للرؤية والحكمة في التصوف.
وعلى حد تعبير إسحاق بور "في الصور السماوية للمنمنمات الإيرانية، تفقد كل الأشياء ماديتَها لتصبح لوناً يعكس تألق الضوء... تدين المنمنمات الإيرانية بهذه الخاصية التي لا وزن لها إلى السخرية الإسلامية تجاه الصورة… فقد ترك الإسلام تجميل الوجه جانباً، وبدلاً من ذلك عزز بشكل كامل فن الزخرفة الموجود في شكله النقي، الذي لا يكون مستوحى من شيء، ولا يتعلق بأي علامة". ولهذا السبب، وبالرغم من ظهور أفضل المنمنمات الإيرانية في بلاط التيموريين والصفويين، إلا أن القليل منها فقط استمدت مباشرة من التصوف.
التوقيع
غالباً ما تكتشف معظم منمنمات الإيرانيين، خاصة تلك التي تظهر في مجموعة معينة، بدون توقيع أو رقم للفنان. وهذا يظهر بأن الفنانين الإيرانيين لم يُعتبروا مشهورين، وكان تركيزهم على تعريف العمل الفني وتوظيفه. في العهد التيموري، بدأت تظهر التوقيعات تدريجياً في أماكن مختلفة على الإطارات، وكان بهزاد واحداً من الأوائل الذين وقعوا توقيعات على أعمالهم، التي اختلفت شكلها وأماكنها بحسب الزمن، حيث تغيرت كالتالي: "صورة العبد بهزاد"، ومن ثم "عمل العبد بهزاد"، وأخيراً: "كبير العبيد بهزاد"، وشهد أحياناً توقيعه في هيكل العمل، مثل لوحة " تصوير لإغراء زليخا يوسف ".
من بين رسامي المنمنمات المعاصرين في إيران، يُمكن الإشارة إلى حسين بهزاد، الذي وُلد في عام 1894، وفَصَل المنمنمات عن الرسم الغربي الذي دخل على هذا الفن الإيراني في عهد الصفويين، ونجح في إحياء هذا الفن
في رواية "اسمي أحمر" للكاتب التركي أورهان باموك، التي تتناول قصة تصاعد النزاع بين بعض فناني المنمنمات في فترة الدولة العثمانية حول قضية الرسم الكافر، يذكر المؤلف نقلاً من أستاذ كبير: "تميز عمل بهزاد إلى درجة أنه لا يحتاج إلى توقيع... كانت هذه السلوكيات علامة على خجل وحياء بهزاد. والفنان الحقيقي والمعلم الحقيقي هو الذي يخلق رساماً رائعاً لا يمكن تقليده، ويعرف رسمه من دون أن يترك أي أثر لهويته".
الرسم المعاصر
من بين رسامي المنمنمات المعاصرين في إيران، يُمكن الإشارة إلى حسين بهزاد، الذي وُلد في عام 1894، وفَصَل المنمنمات عن الرسم الغربي الذي دخل على هذا الفن الإيراني في عهد الصفويين، ونجح في إحياء هذا الفن إلى حد ما، عبر ابتكارات مثل تكبير قطع المنمنمات لحجم لوحة فنية، وجلب الظل في العمل، والالتزام بقوانين التقاطع. خلال حياته المهنية أبدع بِهزاد في رسم حوالي 400 عمل فني.
كما يمكن ذكر فرَح أُصولي، وهي رسامة منمنمات معاصرة، يتميز أسلوب رسوماتها بالتوليف بين الرسم الحديث والمنمنمات الإيرانية، وتستمد مواضيع أعمالها من القضايا الاجتماعية النسائية والشعر والأدب الفارسي وتاريخ الفن في إيران والعالم. تُحفظ أعمالها في متحف المتروبوليتان في نيويورك ومتحف الفنون في لوس أنجلوس ومتحف الفنون المعاصرة في طهران.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه