شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أبعاد أزمة المياه في مصر وتداعيات سدّ النهضة (7)... البعد التاريخيّ خلال الحقبة الاستعماريّة

أبعاد أزمة المياه في مصر وتداعيات سدّ النهضة (7)... البعد التاريخيّ خلال الحقبة الاستعماريّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الأربعاء 24 يناير 202405:20 م

أبعاد أزمة المياه في مصر وتداعيات سدّ النهضة (7)... البعد التاريخيّ خلال الحقبة الاستعماريّة

استمع-ـي إلى المقال هنا

تعدّ التفسيرات المختلفة للمعاهدات والاتفاقات المبرمة بشأن نهر النيل محركاً رئيسياً للنزاع الحالي بين مصر وإثيوبيا. وكما أشرنا في المقال السابق، سمحت بعض هذه المعاهدات لمصر على مر التاريخ أن يكون لها اليد العليا في إدارة المشهد. ولفترة طويلة، لعب النفوذ الدبلوماسي المصري تأثيراً كبيراً في إدارة ملف المياه في المنطقة.

تنقسم معاهدات نهر النيل إلى معاهدات وقعت في الحقبة الاستعمارية من عام 1891 إلى عام 1929، ومعاهدات ما بعد الاستعمار من عام 1959 حتى الوقت الحاضر. وسيضيء هذا المقال على معاهدات الحقبة الاستعمارية.

التفسيرات المختلفة للمعاهدات المبرمة بشأن نهر النيل هي محرك رئيسي للنزاع الحالي بين مصر وإثيوبيا.

البروتوكول الأنجلو-إيطالي (1891)

وقعت بريطانيا (نيابة عن مصر والسودان) وإيطاليا (نيابة عن إريتريا) البروتوكول الأنجلو-إيطالي في 15 نيسان/ أبريل 1891، بغرض ترسيم الحدود الاستعمارية بين بريطانيا في السودان وإيطاليا في إريتريا، وكان الدافع البريطاني هو حماية مصالحها الاستعمارية في مصر.

ناقشت المادة الثالثة من الجزء الثاني في هذا البروتوكول مياه النيل كمسألة ثانوية، فنصت على منع إيطاليا من تنفيذ أي إنشاءات عند منابع نهر النيل قد "تعدل بشكل معقول" تدفق مياهه. ويوضح البروتوكول السياسات البريطانية للسيطرة الكاملة على مياه النيل آنذاك.

ويعتبر هذا أول اتفاق في التاريخ يأتي على ذكر النهر، ويوضح أهمية النيل للمنطقة بأكملها وللقوى الاستعمارية التي سعت للسيطرة عليه.

أبعاد أزمة المياه في مصر وتداعيات سدّ النهضة (7)... البعد التاريخيّ خلال الحقبة الاستعماريّة

المعاهدة الأنجلو-إثيوبية (1902)

كان الغرض الرئيسي للمعاهدة، مثل سابقتها، ترسيم الحدود بين إثيوبيا والسودان، وتناولت بعض الأمور المتعلقة بمياه النيل أيضاً. في ذلك الوقت، كانت بريطانيا تمثل المصالح السودانية، بينما كانت إثيوبيا مملكة مستقلة ذات سيادة. أسفرت المفاوضات عن توقيع معاهدة في 15 أيار/ مايو 1902، ونشأ الصراع لاحقاً بسبب الاختلاف في اللغتين المستخدمتين في كتابة نسختين هما الإنجليزية والأمهرية، اللغة الإثيوبية الرسمية.

بموجب المادة الثالثة من المعاهدة وافقت إثيوبيا على عدم تنفيذ أو السماح بأي أعمال دون الحصول على إذن من الحكومة البريطانية. ونصت النسخة الإنجليزية على أنه يتعين على إثيوبيا الحصول على إذن الحكومتين البريطانية والسودانية لتنفيذ أي مشاريع بناء من شأنها "وقف" تدفق النيل الأزرق أو أي من روافده، بينما نصت النسخة الأمهرية على أنه يجب أخذ إذن من الحكومة البريطانية فقط. اختلاف آخر جاء في تفسير كلمة "وقف" في اللغتين، ففي النسخة الإثيوبية، كلمة "وقف" تعني منع تدفق المياه وليس وقف الماء نفسه. هذا ما جعل المعاهدة واحدة من أكثر المعاهدات إثارة للجدل في تاريخ النيل الحديث.

أوضحت المعاهدة الإنكليزية المصرية عام 1929الحقوق التاريخية المصرية في النيل، منفصلة ومتميزة عن المصالح الاستعمارية. ومن الجدير بالذكر أن معظم دول الحوض الأخرى لم تطلب بعد ذلك أي مقدار من المياه غير المخصصة، حتى بعد حصول هذه الدول على الاستقلال

حالياً، ترفض إثيوبيا بشدة المعاهدة قائلة إنها غير صالحة بسبب عدم التصديق عليها والاختلافات اللغوية، وتقول إن عبارة "وقف تدفق النيل" لا يمكن تفسيرها على أنها تمنعها من استخدام مياه النيل. بينما تصر مصر على أن المعاهدة سارية المفعول، مع عدم السماح لإثيوبيا بتنفيذ أي بناء على مياه النيل دون إذنها، إذ إن مصر هي الدولة الخلف للبريطانيين. كما تنفي مصر الادعاءات بأن إثيوبيا أُجبرت على التوقيع لأنها كانت دولة حرة مستقلة حينذاك، وكان بإمكانها المطالبة بحقوقها في المياه لو رغبت بذلك.

المعاهدة الأنجلو-كونغولية (1906)

في أيار/ مايو 1906، وقعت بريطانيا ودولة الكونغو المستقلة على المعاهدة الأنجلو-كونغولية، وتحظر المادة الثالثة على دولة الكونغو المستقلة تنفيذ أي إنشاءات على النيل الأبيض وروافده (نهر السمليكي أو إيسانجو) من شأنها أن تقلل من تدفق النيل الأبيض إلى السودان ودول المصب، دون الحصول على إذن الحكومة السودانية أولاً.

وكما هو الحال مع المعاهدات السابقة، كان الهدف تأمين المصالح الاستعمارية البريطانية في نهر النيل، وكانت معظم دول حوض النيل في ذلك الوقت تحت الحكم الاستعماري البريطاني بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي حين مكّنت المعاهدة الأنجلو-إثيوبية السيطرة البريطانية على النيل الأزرق، سمحت معاهدة الكونغو بالسيطرة على النيل الأبيض.

أبعاد أزمة المياه في مصر وتداعيات سدّ النهضة (7)... البعد التاريخيّ خلال الحقبة الاستعماريّة

المعاهدة الثلاثية (الأنجلو-إيطاليا-الفرنسية) (1906)

في عام 1903، بدأت المفاوضات بين بريطانيا وإيطاليا لمواءمة مصالحهما المشتركة في شرق إفريقيا، من خلال السيطرة على إثيوبيا وتقسيمها لتعزيز سلطتهما وحماية مستعمراتهما، وانضمت فرنسا إلى هذه المناقشات لاحقاً. وكانت كل من القوى الأوروبية الثلاث تخشى أن تسيطر الأخرى على إثيوبيا، ولذلك كان تقسيمها إلى مناطق نفوذ هو الحل الأمثل.

بينما تم الانتهاء من المسودة الأولية للمعاهدة في يوليو 1906، اعترض الإمبراطور الإثيوبي منليك عليها لأنها ستهمش سلطته وتقلل منها، وباءت مساعي القوى الأوروبية لإقناعه بالتوقيع بالفشل، لكن لم يمنع ذلك من توقيعهم على المعاهدة الثلاثية في كانون الأول/ ديسمبر 1906.

وعلى الرغم من عدم الاعتراف بسيادة إثيوبيا على أراضيها، وعدم إشراكها كطرف، إلا أن هذه المعاهدة أفادتها بشكل آخر، فقد أدخلتها إلى عصر أكثر سلاماً، وأوقفت أنشطة فرنسا وإنجلترا الاستعمارية في القرن الأفريقي، بينما قيدت النمو الإيطالي لفترة من الوقت.

يعتبر البروتوكول الأنجلو-إيطالي أول اتفاق في التاريخ يأتي على ذكر النيل، ويوضح أهميته للمنطقة وللقوى الاستعمارية.

المعاهدة السرية الأنجلو-إيطالية (1925)

تضمنت هذه تبادلاً سرياً للمذكرات بين بريطانيا وإيطاليا، لتأكيد الحقوق المصرية والسودانية السابقة في منابع النيلين الأبيض والأزرق، وأكدت على عدم السماح بأي إنشاءات أو مشاريع من شأنها أن تؤثر على هذه المنابع أو على تدفق نهر النيل.

أعطت هذه المذكرات تأكيدات بدعم إيطاليا لبريطانيا للحصول على الموافقة الإثيوبية لبناء سد على بحيرة تانا، ولتأمين الموافقة الإثيوبية لبناء طريق يربط بحيرة تانا بالسودان لنقل البضائع البريطانية. في المقابل، وافق البريطانيون على دعم إيطاليا للحصول على موافقة إثيوبيا لبناء خط سكة حديد من حدود إريتريا إلى حدود أرض الصومال الإيطالية.

احتجت إثيوبيا لدى عصبة الأمم بشأن الانتهاك الصارخ لحقوقها عندما علمت بتبادل هذه المذاكرات، وأكدت بريطانيا وإيطاليا أن مذاكراتهما قد أسيئ فهمها، وأن أفعالهما لم تكن انتهاكاً للسيادة الإثيوبية.

أبعاد أزمة المياه في مصر وتداعيات سدّ النهضة (7)... البعد التاريخيّ خلال الحقبة الاستعماريّة

المعاهدة الإنجليزية المصرية (1929)

كانت هذه في صورة تبادل للمذكرات بين مصر وبريطانيا بالنيابة عن مستعمراتها آنذاك، السودان وأوغندا وكينيا وتنجانيقا (تنزانيا الآن)، وقسمت المياه إلى 48 مليار متر مكعب لمصر، و4 مليار متر مكعب للسودان، وظل الفائض المقدر بـ 32 مليار متر مكعب من مياه نهر النيل غير مخصص لأي من دول الحوض.

وافقت مصر على زيادة حصة السودان من مياه النيل وفقاً لهذه الشروط:

• أن لا تؤثر هذه الزيادة على حصة مصر التاريخية والطبيعية من مياه النيل، ولا على المياه اللازمة لتوسعها الزراعي.

• تعهدت بريطانيا نيابة عن مستعمراتها بعدم تنفيذ أي مشروعات على النيل يمكن أن تؤثر أو تقلل من حصة مصر من المياه.

• يحق لمصر فحص أي أعمال على طول النهر.

• يحق لمصر مراقبة تدفق النهر في السودان، مصحوباً بالحق في استخدام التدفق بالكامل كلما لزم الأمر.

• يحق لمصر تنفيذ أية أعمال على نهر النيل دون طلب إذن من أي من دول الحوض الأخرى.

• منح حق الفيتو لمصر لوقف بناء أي مشروع على النيل.

أوضحت هذه المعاهدة بشكل جلي الحقوق التاريخية المصرية في النيل، منفصلة ومتميزة عن المصالح الاستعمارية. ومن الجدير بالذكر أن معظم دول الحوض الأخرى لم تطلب بعد ذلك أي مقدار من المياه غير المخصصة، حتى بعد حصول هذه الدول على الاستقلال.

أبعاد أزمة المياه في مصر وتداعيات سدّ النهضة (7)... البعد التاريخيّ خلال الحقبة الاستعماريّة

الاتفاقيات الموحدة والتكميلية لمعاهدة 1929

تعكس المعاهدات الموقعة كاتفاقيات تكميلية لمعاهدة 1929 أهمية مياه النيل بالنسبة لمصر، رغم أنها لا تؤثر جميعها بشكل مباشر على النزاع المصري الإثيوبي.

وقعت أول اتفاقية تكميلية بين مصر والسودان عام 1932. ووافقت الإدارة الأنجلومصرية في السودان على بناء سد جبل أولياء على النيل الأبيض في السودان لتخزين المياه للاستخدام الحصري لمصر. ومولت مصر بناء السد وصيانته، واستخدمت المياه في المقام الأول في زراعة القطن المصري المملوك لبريطانيا.

ووقعت اتفاقية تكميلية بين مصر والسودان في أواخر العام نفسه، لتعويض السودانيين عن الأضرار التي لحقت بالأراضي بسبب السد. وبينما كان البلدان طرفين في الاتفاقية، كانت المصالح الاستعمارية البريطانية هي المستفيدة.

تصر مصر على أن المعاهدة الأنجلو-إثيوبية سارية المفعول، مع عدم السماح لإثيوبيا بتنفيذ أي بناء على مياه النيل دون إذنها، إذ إن مصر هي الدولة الخلف للبريطانيين. كما تنفي مصر الادعاءات بأن إثيوبيا أُجبرت على التوقيع لأنها كانت دولة حرة مستقلة حينذاك

أما الاتفاقية الثالثة فكانت الاتفاقية الأنجلوبلجيكية عام 1934، والتي قسمت مياه نهر كاجيرا بين بوروندي ورواندا وتنجانيقا (تنزانيا). والاتفاقية الرابعة هي اتفاقية بحيرة تانا عام 1935، حين توصلت مصر والسودان إلى اتفاق لبناء سد جديد على بحيرة تانا في إثيوبيا وإدارته لمصلحتهما الخاصة، مع شرط الحصول على موافقة إثيوبيا. وبما أن الشرط الأخير لم يتحقق، بقيت الاتفاقية غير مفعلة.

أما الاتفاقية الخامسة فهي ثلاثية إنجليزية إيرلندية مصرية عام 1950، تمثلت بتبادل المذكرات بين المملكة المتحدة نيابة عن أوغندا ومصر في شباط/ فبراير 1950، بغرض إنشاء أرضية مشتركة للتعاون بين الأطراف الثلاثة فيما يتعلق بدراسات الأرصاد الجوية والهيدرولوجية والمسح والرصد لبعض مناطق حوض النيل. وأبقت هذه الاتفاقية مصر على اطلاع جيد بما يطرأ في دول المنبع.

والاتفاقية السادسة هي اتفاقية أوين فولز، وهي عبارة عن تبادل للمذكرات بين بريطانيا (ممثلة أوغندا) ومصر، فيما يتعلق ببناء سدين على النيل الأبيض لتوليد الكهرباء لصالح أوغندا. وأنجزت هذه الاتفاقية على ثلاث مراحل كانت آخرها في كانون الثاني/ يناير 1953. وكانت الشروط أن يكون بناء السد تحت إشراف مصري، وإدارة السد من قبل هيئة الكهرباء الأوغندية ولكن بتعليمات مصرية، وتبطل هذه الاتفاقية في حال تعارضها مع معاهدة 1929.

في المقال المقبل سنناقش الجزء الثاني من معاهدات نهر النيل في عهد ما بعد الاستعمار، من عام 1959 حتى الوقت الحاضر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image